لم تعد شمسٌ جديدة تشرق على لبنان, إلا وتحمل معها مزيداً من الخيوط الرفيعة المتداخلة, مزيداً من التعقيد على أزمته المتمادية منذ إغتيال رفيق الحريري… وآخر الخيوط, الصدام الحاصل الآن بين الجيش الوطني اللبناني وبين مجموعة “فتح الاسلام” الارهابية. ولولا التراشق الاعلامي الحاصل يوميا بين جماعتي 8 و14 آذار, لولا طغيان التعبئة والصراخ والتحريض والتلفيق, لبدى خيط نهر البارد الجديد هذا اكثر الخطوط ذهاباً الى الطرح الجذري لعناصر الازمة.
واليك عيّنة مما يذهب اليه هذا الخيط:
في مسألة السلاح الفلسطيني. الجيش ينهي صراعه مع “فتح الاسلام” في حالين: القضاء على اعضائه اوسوقهم الى العدالة. كيف يتم ذلك؟ بالسلاح ان امكن, او بواسطة المنظمات الفلسطينية المعترف بها, اساساً, “فتح” و”حماس”. كيف تتفق “حماس” مع “فتح” على الموضوع؟ وهما لم تحسما بعد صراعهما على السلطة وعلى “التوجه” في ارضهم المحررة؟ اما في حال حصول ما يشبه المعجزة وتحل
المسألة…بأحد الاتجاهين: إما تحقيق غرض الجيش, أوبقاء “فتح الاسلام”. فماذا يحمل ما يلي على احدهما؟ ثأر الفصائل الحليفة؟ أو تنظيم السلاح خارج المخيمات؟ او تنظيمه داخل المخيمات؟ بعد الغاء اتفاقية القاهرة, وبعدما لم يعد هذا السلاح من حجم ذاك الذي يردع العدو؟ وبأي قانون يُصاغ هذا الوجود؟ بتنظيم السلاح ام الغاءه؟ واذا كان بالتنظيم, فعبر من؟ “فتح” او”حماس”؟ واذا كان الغاء؟ فباية آلية؟ وبأية ضوابط وضمانات؟ وهل تكفي القرارات 1559 و1701 لتنظيمها؟ وماذا عن التوطين؟ هل يكون جزءا من حل؟
وسؤال يجرّ الى سؤال: سلاح المخيمات مقترن بسلاح “حزب الله”.
وبالقررات الدولية نفسها. والحوارت على الطاولة “الوطنية” كانت بهذا الاتجاه عشية حرب تموز الماضي. فلا يمكن الخوض بعمق, وليس بالديماغوجيا المعتادة, في السلاح الفلسطيني من دون الخوض في سلاح “حزب الله”. و”حزب الله” يدافع عن “فتح الاسلام”, ليس فقط بسبب ارتباط سياستيهما بالمرر الواحد, وربما المقر كذلك. بل ايضا لأن “الحزب” يدافع عن تكوينة تشبهه: ميلشيا مسلحة, خارجة عن القانون التأسيسي لأية دولة في العالم. فلا يستطيع ان يطالب “فتح الاسلام” بإلقاء سلاحه من دون ان تقحمه هذه الاخيرة بالمثل… على الاقل.
فلا الوهية “النصر” ولا المناكفات الصغيرة اليومية جديرة بأن تبعد هذا الكأس المرّ من التداول: السلاح, كل السلاح بيد هيئة وطنية جامعة واحدة, بأمرة واحدة وذات خيار استراتيجي واحد. هيئة عادلة بالقدر الممكن, اي القدر الصادق.
ثم, مسألة ان “فتح الاسلام” من “القاعدة” ام ليست منها.
وخلفية النقاش بائنة. القائلون بالحقيقة الاولى من ان “فتح الاسلام” من “القاعدة”, يستنتجون ان تمويلها سعودي وحريري (“يدعمهم” مقال لسايمون هرش الذي بات اشهر من ان يعرف… ). اذن هي مؤامرة دبرها الاثنان, للاسراع في التوقيع على المحكمة الدولية في مجلس الامن. والقائلون بذلك هم حلفاء دمشق, جماعة الممانعة والمقاومة, جماعة و8 آذار. اما المؤمنون بالحقيقة الثانية, فيقولون بان “فتح الاسلام” عصابة فبركتها المخابرات للايقاع بالمحكمة الدولية كما هدّد بشار الاسد ووليد المعلم. وهؤلاء هم طبعا جماعة 14 آذار.
وهذا تراشق لا يلغي استنتاجات وتجارب: من ان “فنح الاسلام” يمكنها ان تكون من”القاعدة” والمخابرات في آن. وان المحكمة الدولية على المحكّ وتوقيت رمي خيط “فتح الاسلام” بعد تهديدات بشار والمعلم. التناقض الظاهري هو فقط من مهارة العقل المشرقي في التلاعب والتذاكي. “فتح الاسلام” مثلها مثل العديد من المجموعات الاسلامية الممناعة. مشكلتها فقط العجَلة. العجَلة التي فُبركت بها. لو اتيح لها الوقت لصارت شرعية مثلها مثل “الجهاد الاسلامي” في لبنان في اواسط الثمانينات, وقد صارت ما صارته…
اما المشكلة الخاصة باللبنانيين, بالمواطن اللبناني, فهي احتمال قوي بان “فتح الاسلام” انتشرت بفضل احتضان الاهالي و”السمؤولين” على حد سواء. من الاهالي ربما اكثر من “المسؤولين”. والارجح ان توجهها الارهابي هذا يلاقي حماساً, تكفي “غزوة” الاشرفية من العام الماضي لقياس نوعيته.
هذا تحديدا ما لا يحب زعماء السنة اللبنانيون الاعتراف به: ان الاصولية السنية, بكل تنويعاتها باتت نامية في وسط سنة لبنان. وسط الاطار الكبير للسنة. والتعامل معه على طريقة “الرئيس المؤمن” لن تفضي الا لتناميه, فياتي يوم, ويأخذ بثاره من “حرمانه” و”تهميشه”, كما سبق وفعل مع اول الرؤساء “المؤمنين”, انور السادات.
أما مَيل هذه الطائفة الى التشكيل الميليشياوي المسلح فلا ابسط من حيثيات: عصبية سنية مستنفرة تخدم للتصدي لعصبية شيعية تستهدفها, او هكذا جعلتها تعتقد. ما هو الشيىء الذي يغري اكثر من ذلك المضي في حرق العقول بمبادىء “القاعدة” التدميرية؟ فيما الزعيم يضطر الى مسايرتها, خوفا من خسارتها, وخسارة صوتها. فيرشيها بالمساعدات وبالدعم القضائي وبتحريك الغريزة, تماما كما فعل “المنتصر”. والا لما انتصر! انه صراع داخل الطائفة السنية نفسها, والتي لا يقتصر السند الاصولي فيها على دمشق وحدها.
ليس “حزب الله” وحده, برعونته, وفئويته وتأله قادته وتغليبه “الساحة” على “الوطن”…. هو المسؤول وحده, مع حلفائه, عن عرقلة قيام الدولة. بل اركان الدولة انفسهم, الذين تتناقض اسس زعامتهم الطائفية الضيقة تناقضا جذريا مع اسس قيام الدولة. الغنيمة الطائفية, ما تستطيع ان تكسبه كل طائفة من لبنان, هو الصراع المفضي الى آخر. الى هدية لدول اخرى, لقوى اخرى تبحث عن مجال حيوي لتخوض حربا نظيفة بعيدة عن مساكنها. وتجعل لبنان دولة ضعيفة بميليشيات طائفية اقوى منها, ليس عسكريا فحسب, بل جماهيريا وعقيديا وشبكة مصالح…
وذلك للقول بأن خيوط لبنان لم يعد فكها ممكنا. انها تحتاج الى قطع.
ولكن بما ان كل قطع فيه فوضى والم, عدا عن استحالته الآن على الاقل… فلا بأس من فكفكة هذه الخيوط بالعقل. لا بأس من وصفها على حقيقتها, وفرزها. لعلّ الوصف يحلحل بعض تعقيداتها. على ان يكون الوصف وصفاً, واجابة على سؤال مفتوح, لا على اسئلة-أجوبة كالتي فرضتها الحرتقات اليومية بين السياسيين. فلم تنتج الا ارتدادت في العقل والوصف… آخر تلك الارتدادات التي نحن مدعوون اليها: خاتمة تعليق متلفز لنصر الله على الصدام بين الجيش و”فتح الاسلام”. وهو عبارة سؤال يضعه “برسم اللبنانيين والفلسطينيين والشعوب العربية و14 آذار و8 آذار”. والسؤال هو: لماذا الغيرة الاميركية الآن على الجيش اللبناني؟ فيما “ايام الحرب على لبنان كانت الدولة اللبنانية تطلب الحد الادنى (كما يقال), ان تتدخل اميركا من اجل وقف الحرب, لكن الولايات المتحدة رفضت ان تطلب من الاسرائيليين وقف الحرب؟”. حقا لماذا؟ هل تحزر؟ هل تتخيل بأن هذا هو السؤال الوحيد الذي يضعه نصر الله برسمنا؟ مسكين الزعيم اللبناني, او العربي… مضطر احيانا ان يتنازل عن ذكائه ويجر جمهوره الى تمارين ساذجة وصبيانية… والا خسر…
dalal_el_bizri@hotmail.com