«الشجرة تُعرف من ثمارها» كما يقول الإنجيل، وشجرة الطبقة السياسية اللبنانية معروفة للقاصي والداني، وآخر ثمارها قانون انتخابي يُكرّس الأولويّة الحاسمة للكائن الطائفي على حساب مشروع المواطنة.
ويأتي ذلك في سياق تاريخي مارسته كل الأطراف عبر إمعان في إعلاء المصالح الشخصية والفئوية على حساب المصلحة الوطنية العليا الموجودة على الصعيد النظري فقط.
أما الجواب على الفشل المتمادي والمزمن، فيأتي مع ما ورد في القرآن الكريم في سورة الرعد: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”. لكن الانتظار طال من دون إنجاز أي تغيير فعلي، وها نحن اليوم على أبواب مئوية “لبنان الكبير” وبعد سبعة عقود على إعلان الاستقلال الأول وأغنية “الصيغة اللبنانية الفريدة”.
في العام 1943، وصَف الصحافي الكبير جورج نقاش الميثاق الوطني بأنّ “نفيان لا يؤلفان أمة”، وكان يقصد التدليل على شرخ في الإرادة بين فريقَي ذلك الميثاق المتوافقين فقط على صيغة “لا شرق ولا غرب”، والمتفاهمين على عبارة “لبنان ذو وجه عربي”.
ومع أنّ اتفاق الطائف في العام 1989، الآتي بعد سنوات الحرب العجاف كرّس التوافق “المفروض” أو “المقبول لفظاً”: “لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه،… و لبنان عربي الهوية والانتماء”. بيد أن التجربة أثبتت أنّ الانشطار اللبناني العميق سرعان ما يبرز من جديد عند اول عاصفة إقليمية، وتبلور ذلك بعد حدث 14 شباط 2005 في تموضع جديد بين محوري “14 آذار” و”8 آذار”.
يمكن بسهولة توزيع المسؤوليات حول أزمة الحكم الدائمة في لبنان، وسرعان ما نتذكر أنها تستشري عند هبوب الرياح الخارجية (في 1969 نتيجة تداعيات اتفاق القاهرة والوجود الفلسطيني المسلح، وفي 2006 – 2011 نتيجة تفاعلات إنشاء المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري)، أما مقولة “لبنان البلد الذي لا يمكن حكمه أو غير القابل للحكم”، فتسري على الكثير من المجتمعات المركبة والكيانات الحديثة في العالم.
لا تكمن المشكلة اللبنانية المتجذرة في أزمة حكومية من هنا أو قانون انتخاب من هناك، بل إنها تتصل بعدم القدرة على بناء الدولة الحديثة المرتكزة على المواطنية، ومما لا شك فيه أن الدولة اللبنانية كانت ضحية بامتياز لموقع بلاد الأرز الجيوسياسي منذ ايام والي عكا ووالي دمشق وإلى أيامنا هذه. لكن السبب العميق والخلفي يتمثل في “انعدام وحدة المثالات الجماعية النفسية الواحدة عند اللبنانيين”، كما كان يقول المفكر كمال جنبلاط. من البديهي التنبه إلى طبيعة التكوين المستحدثة عند الشعب اللبناني الذي ما زال يتصرف عملياً كشعوب في ردود فعله ومقارباته.
يتكلم البعض بسهولة عن “الشعوب” او “الطوائف” أو “الجماعات” اللبنانية، ويرى فيها تأكيداً على التعددية الدينية والثقافية الملازمة للكيان اللبناني، لكن كل تنوع لا يندرج ضمن الوحدة يغدو عاملاً معيقاً لاستكمال الكينونة الوطنية. وكم يبدو ملحاً العمل على بلورة مفهوم جاذب مشترك للوطنية اللبنانية في إطاريها المشرقي والكوني، استناداً إلى مسارات نشأة لبنان وتطوره.
الفكرة اللبنانية أسّسها الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير (1572ـ 1635م). ويقول الأب الراحل يواكيم مبارك: “إن حركة الاستقلال الذاتي اللبنانية المستندة الى الائتلاف بين الدروز والموارنة لم تتضمن باعثاً دينياً، واحتوت على تركيبة تعددية ذات طابع سياسي غير ديني، وهي أول محاولة من هذا النوع ضمن الإمبراطورية العثمانية”.
بعد أربعة قرون ونيف، سقطت كل الثنائيات والتوليفات الطائفية في الامتحان، فكما ولّت الثنائية المارونية – الدرزية التي سادت وقت المتصرفية، ومثلما انهارت الثنائية السنّية ـ المارونية في 1975، تتساقط اليوم أسُس المناصفة المسلمة – المسيحية التي كرّسها اتفاق الطائف. هكذا وصلت ازمة النظام الطائفي الى حدها الأقصى وقد ضيعت المكونات اللبنانية فرصتين تاريخيتين: الأولى خلال مرحلة الشهابية (1958 – 1968) والثانية خلال لحظة 14 آذار 2005 أي محاولة “الاستقلال الثاني”.
المهم إذن، العودة الى روحية الفكرة اللبنانية والنموذج الوطني الجامع في مواجهة محاولات الانفصام وتعميق الانشطار. يمكن تفهم هواجس التمثيل المسيحي الصحيح، وأتذكر في هذا الإطار العلامة محمد مهدي شمس الدين عندما تخلى عن طرح الديموقراطية العددية لصالح الشراكة اللبنانية.
من دون ابتكار التسويات يضيع الوطن بين مشروع غلبة واحتمال تفتيت في منطقة موجودة في عين العاصفة. إن التركيز على الهواجس عند هذه المجموعة أو تلك لهو أمر مشروع، لكنه إذا كان يؤسّس للإحباط والشعور بالهزيمة او خطر الإلغاء فيعني ذلك التمهيد للدخول من جديد في الدوامة.
ليس هناك من قانون انتخابي صحيح وسليم وعادل للجميع وهذا ينطبق على قانون الستين، قانون اللقاء الأرثوذكسي، ومشاريع النسبية الكاملة أو النظام الاكثري الصافي، لأنها تحسم نتيجة الانتخابات قبل حصولها بشكل او بآخر. ولذا يعتبر مشروع الوزير السابق فؤاد بطرس المعتمد على النمط المختلط هو البوصلة لبلورة مشروع وفاقي وواقعي.
في ما يتخطى السجال والعتب والغضب عند فريق والزهو عند فريق آخر، يفترض باللبنانيين التطلع إلى الصورة الشاملة وحماية وطنهم وعدم تهديم ما تبقى من وحدة وطنية في هذا الظرف الإقليمي الصعب.
قدر اللبنانيون تجديد التسوية في ما بينهم والإقرار بأنّ المناصب والرئاسات والحمايات الخارجية لا تحصن ولا تدافع عن هذه المجموعة او تلك، فلا يحمي اللبناني إلا اللبناني ومن دون زيادة القناعة ببناء الدولة والمواطنة لا مستقبل للبنان.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني- باريس
الجمهورية