تروي قصة النبي أيوب أنّ صبره على ما ابتلي به دام نحو 18 سنة، وأثابه الله على ذلك وانتهت معاناته… أما صبر لبنان على محنته وحروبه فيدوم بشكل أو بآخر منذ أكثر من أربعة عقود ولا يبدو أن نهاية جلجلة آلامه والتضحية به ستنتهي مع إعلان “حزب الله” تبنّي طائرة “أيوب” ونجاحها في تحقيق اختراق نوعي.
من المؤكد أن الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية هي التي صنعت الطائرة من دون طيار، وهي تتعامل مع لبنان كأنه “غرب إيران” أو تحديداً بمثابة العمق الاستراتيجي لمحورها الإقليمي الذي يمر عبر دمشق. بيد أن الملفت ما قاله حرفياً محمد علي جعفري، القائد العام للحرس الثوري الإيراني: “استطعنا من خلال طائرة “أبابيل” – أيوب- أن نلتقط صوراً مباشرة ومفصّلة عن موقع ديمونا النووي الإسرائيلي في صحراء النقب”.
وهكذا تُبشّر طهران بوصولها إلى مستوى الرّدع الاستراتيجي. ومع أن جعفري أطلق على الطائرة المطلقة من لبنان (أو سيناء أو غزة لزيادة الغموض الضروري للرّدع) اسماً يختلف عن الاسم الذي لقبّها به السيد حسن نصرالله ليقطع الشك باليقين حول أبوّة الإنجاز، وحول الدور المركزي لـ”حزب الله” ولبنان في الاستراتيجية الإيرانية، وليس في الاستراتيجية الدفاعية للدولة اللبنانية.
يبدو الفارق شاسعاً بين هدف استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وبين خدمة أهداف إيران. هكذا تسقط عملياً ذريعة التمسك بالسلاح وانتزاع قرار الحرب والسلم من الدولة. ويحق لأيّ لبنانيّ أن يتساءل: إلى أين سيأخذون لبنان مرة أخرى؟.
في العام 2006 أحسّ رئيس مجلس النواب نبيه بري بالخطر الداهم ودعا إلى انعقاد طاولة الحوار، لكن ذلك لم يفلح في منع حصول حرب تموز حينما تقاطعت مصالح إقليميّة ودوليّة بتفجيرها. وفي العام 2012، إزاء مخاطر الوضع السوري وتداعياته، تنبّه الرئيس ميشال سليمان وقام بتفعيل طاولة الحوار، ونخشى أن يتكرر السيناريو نفسه لأنّ “حزب الله” وافق من دون حماس على البحث في الاستراتيجية الدفاعية، لكنه من خلال المبادرة العسكرية الأخيرة وجّه رسائل عدّة، منها واحدة لقصر بعبدا وتعني بالخط العريض رفض قيامة الدولة اللبنانية.
من جهته، يعتقد “حزب الله” بأنّ قدراته على الردع تحمي لبنان وما قام به يشبه خرق الطيران الإسرائيلي للأجواء اللبنانية في مخالفة للقرار الأممي الرقم 1701. إلّا أنّ هذا التبرير لا يأخذ في الاعتبار أنّ لبنان تحمّل منذ العام 1973 العبء الأكبر في مواجهة إسرائيل، لا بل تحمّل كل قسطه من التضحيات وجعل العرب وغيرهم من ارضه ساحة تصفية الحسابات.
إن أيّ مراجعة موضوعية لتاريخ الحروب اللبنانية المتنقلة تبيّن أن الأطراف اللبنانية كافة ليست بريئة من دم الصدّيق الذي هو لبنان. إن رهان اليسار يوماً على تحويل بيروت إلى “هانوي العرب” لم يكن موفقاً، وكذلك فإنّ رهانات أخرى على ربط لبنان بمحاور غربية أو شرقية كانت مدمّرة.
وللتذكير، فإنّ المسلسل الطويل للسلاح الفلسطيني دام منذ 1968 إلى 1982 (ولو أن بعض تفرّعاته الإقليمية لا تزال موجودة)، أما مرحلة “السلاح الإسرائيلي” التي انتهت مع اتفاق الطائف، فلم تُنهِ مرحلة “السلاح السوري” التي دامت منذ 1973 إلى 2005. واليوم نبقى مع مرحلة “السلاح الإيراني” التي تعتبر الأكثر تعقيداً نظراً إلى ربطها بطرف لبناني أصيل.
نخلص من ذلك لنقول إن لبنان الذي عاش كل هذه التجارب لا يحتاج اليوم لأن يكون أرض نصرة أو أرض جهاد لأي فئة كانت، ولا مسرحاً لإيران أو سواها، ولا مركزاً متقدّماً للولايات المتحدة أو فرنسا أو روسيا أو غيرها. قد يعتبر البعض أنّ هذا الكلام طوباوي ومثالي وليس تحته طائل. لكن واقع الإقليم والصراع فيه يدفعنا لتأكيد أن شعار النأي بالنفس يتطابق مع مصلحة لبنان العليا.
ومن دواعي الاطمئنان أن الرئيس ميشال سليمان يسعى بكل جهده إلى استعادة ما أمكن من صلاحيات الدولة اللبنانية. ويُسجّل له وقفته ضد ادعاءات سفير النظام السوري في منظمة الأمم المتحدة، ووقفته ضد مخطط سماحة ـ مملوك، وإلحاحه على مناقشة الاستراتيجية الدفاعية ومنع التورط في الساحة السورية.
لا خلاص على المدى المتوسط للبنان إلّا بتبنّي مقولة الحياد العسكري الخارجي بضمانات دولية. أما اليوم فلبنان بأمسّ الحاجة إلى حكمة سليمان. النبي سليمان عرف من هي أمّ الصبي، وميشال سليمان يعرف أنّ أمّ الصبي هي الدولة، وما أحلى العودة إلى كنف الدولة قبل فوات الأوان.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني – باريس
الجمهورية