حاكم السودان مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية. صدرت بحقه مذكرة توقيف بتهمة ارتكاب جرائم حرب. ولا يستطيع السفر إلى بلدان كثيرة في العالم خوفاً من الاعتقال. لا بأس.
استولى على الحكم قبل أربعة وعشرين عاماً. وما يزال في الحكم بعد أربعة وعشرين عاماً. أطلق على الدبابة التي أوصلته إلى سدة الحكم تسمية “ثورة الإنقاذ الوطني”. لا أحد من الانقلابيين يرضى بأقل من وصف الاستيلاء على السلطة بالثورة. لا بأس.
أنشأ، متحالفاً مع الإخوان المسلمين في السودان، وزعيمهم الترابي، الذي أوصله إلى سدة الحكم، أوّل نظام للإسلام السياسي في العالم العربي. ثم أطاح بالترابي، واحتفظ بأيديولوجيته، ولغته، وشعاراته. لا بأس.
وفي عهده تحوّلت الجامعات السودانية إلى مدارس “للكادر” على الطريقة السوفياتية، ولكن روّادها جاءوا من العالم العربي وخارجه، وحصلوا على شهادات عالية في علوم إسلامية مختلفة، وكانوا في الغالب من نشطاء الإسلام السياسي في بلادهم. لا بأس.
وفي عهده، أيضاً، انفصل الجنوب عن الشمال، وأصبح دولة مستقلة. ويومها خرج على الناس مبتهجاً ومُبشراً بقرب تطبيق الشريعة، التي حال الجنوب المسيحي، والوثني، ضمن حدود الدولة، دون تحقيقها. لا بأس.
هذا يومها. ويومها لم يكن قبل زمن بعيد، بل قبل ثلاث سنوات. وهذه ليست بالفترة الكافية لإضعاف ذاكرتنا، أو ذاكرة الحاكم، الذي خرج علينا في مطلع الشهر الماضي (أيار) للقول إن “السودان وجنوب السودان يجمعهما المصير المشترك، والثقافة، والوجدان، وسيأتي يوم يتوّحد فيه شطرا السودان في دولة واحدة، أو ينشأ بينهما اتحاد”.
وماذا عن “الشريعة”، التي حال دون تطبيقها تنافر في المصير، والثقافة، والوجدان، وماذا عن حقائق من نوع أن الشطرين كانا، قبل ثلاث سنوات، شطراً واحداً، فهل كان لزاماً عليهما الطلاق، والعيش في شطرين، قبل اكتشاف محاسن العيش المشترك في شطر واحد؟ لا بأس.
تكلّم الحاكم عن المصير، والثقافة، والوجدان يوم السابع من أيار الماضي. وقبل ثلاثة أيام، أي في التاسع من حزيران الجاري، عاقب دولة الجنوب (متناسياً المصير، والثقافة، والوجدان) بمنع مرور صادراتها النفطية عبر أراضي السودان، لأنها تنتهج ممارسات “خرقاء” (هذه عبارته) في التعامل مع السودان، وتدعم المتمردين، ولم ينس، طبعاً، تذكير مستمعيه بحقيقة أن منع مرور النفط جاء بعد دراسة “متأنية” (وهذه، أيضاً، عبارته). لا بأس.
يخطب الحاكم، عادة، مرتدياً زيه العسكري، أو الزي التقليدي: يقف على منصة عالية، ويلوّح بعصا في يده، ويقبض في يد أخرى على الميكروفون، ولا يكف عن الحركة، ويؤدي، أحياناً، رقصات أفريقية، سريعة الإيقاع، ولكن بحركات أقل. لا بأس.
وإذا صدقنا أن القرار جاء بعد دراسة متأنية. فهذا يعني أن الدراسة المتأنية جزء من آليات اتخاذ القرار في جمهورية “ثورة الإنقاذ الوطني”. فهل نجم الابتهاج بالانفصال، وقرب تطبيق الشريعة، عن دراسة متأنية؟
وإذا كان ثمة دراسة متأنية في حينها، فمن المؤكد أن دراسة متأنية جديدة نقضتها في أوائل أيار الماضي، ثم نقضت دراسة متأنية أجدد، يوم الأحد الماضي، دراسة متأنية سبقتها بثلاثين يوماً. هذا كل ما في الأمر. في التأني السلامة. ولا بأس.
كم من الدراسات المتأنية عرف السودان، منذ أربعة وعشرين عاماً، وكم شطراً سيبقى منه بعدها؟
المعارضة السودانية قالت قبل يومين إنها ستسقط الحاكم خلال مائة يوم. أرجو أن يحدث ذلك. وإن حدث فليس ثمة ما يضمن ظهور المزيد من الدراسات المتأنية، في دولة فاشلة، تحتاج إلى ثورة للإنقاذ تنقذها من ثورة للإنقاذ.
وهكذا دواليك: دائرة مُفرغة يسكنها الدم، والخوف، وأوهام الإنقاذ، وغموض المصير. لا بأس.
2-
تتجلى سمات الفشل في مناطق مختلفة من العالم العربي، الذي يعيش منذ سنوات قليلة، تحوّلات تاريخية تشبه، في جانب منها، ما كان عليه الحال عشيّة سقوط الدولة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى.
العالم العربي، الذي كان قائماً قبل ثلاث سنوات، لا يشبه العالم الذي يتشكّل الآن، في ظل حروب أهلية سافرة، ودول تآكلت فيها فكرة الدولة المركزية، طفحت كل مجاريها السياسية، والاجتماعية، وطفت على السطح.
مفتاح السر في هذا كله يكمن في تبلور وظهور حساسية خاصة لدى قطاعات واسعة من المواطنين، إزاء مفهوم ومصادر شرعية السلطة، وطريقة توزيع الثروة الاجتماعية، وإدارة شؤون البلاد والعباد. وهذا هو المعنى العميق لثورات الربيع العربي.
بيد أن ثورات الربيع العربي لا تجابه أنظمة في الحكم انتهت صلاحيتها منذ عقود وحسب، ولكنها تجابه أيضاً استيهامات أيديولوجية، معادية لفكرة الدولة الحديثة، والثقافة، والنساء، انتهت صلاحيتها منذ قرنين على الأقل.
ويبدو أن مصير هذه الثورات يتقاطع، في أكثر من وجه للشبه، مع مصير ربيع الشعوب الأوروبية، في أواسط القرن التاسع عشر. وما ينبغي أن نعرفه عن ذلك الربيع البعيد يتمثل في ثلاثة أمور:
أولاً، تكبدت الثورات الأوروبية الهزيمة تلو الأخرى على يد القوى الرجعية الأوروبية.
ثانياً، نشأت في النسق السياسي والثقافي الأوروبي، وفي سياق المجابهة بين ربيع الشعوب، والقوى الرجعية، الأيديولوجيات التي بللت كل تاريخ القرن العشرين بالدم، وعلى رأسها الفاشية والنازية، والشيوعية في طبعتها الستالينية.
ثالثاً، تجلى المعنى التاريخي العميق لربيع الشعوب الأوروبية، بعد قرابة قرن من الزمان، تخللته حروب أهلية، وقومية، وكونية، وتجارب شمولية، مُفزعة.
هل يحتاج العرب إلى قرن من الزمان، قبل الوصول إلى بر الأمان؟
وبرّ الأمان، في نصف كلمة، لا يعني أكثر من أوطان لا تحتاج ثورة ولا مُنقذين. لن يحدث هذا، طبعاً، في وقت قريب. وعندما يحدث، لن يجد السودانيون، والعرب عموماً، صعوبة في اكتشاف الجانب الكاريكاتوري لعهود الطغاة، أما في الوقت الحاضر، فلا يحضر منها سوى ما يبرر البحث عن مُنقذين.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني