غَضِبَ والدي من مقالي الأخير.
غَضِبَ فعاتبني،
وصوته محب حنون.
“لم تجدِ سوى هذا الموضوع كي تكتبي عنه؟”
يعني قصة السيدة المصرية اليهودية التي اضطرت إلى مغادرة مصر رغماً عنها بعد العدوان الثلاثي، وتحديداً بعد حرب 67، ومثلها 75 ألف مصري ممن يدينون بالديانة اليهودية.
“لم لا تكتبين عن فقراء اليمن؟”
قالها وهو محروق.
واحترقت بجملته معه.
أكثر من 40% من أبناء جلدتي يعيشون تحت خط الفقر. أما الفقراء منهم فلن نحصيهم.
كيف أنساهم؟
أنا لم أخلع جلدي عن لحمي. لازال ملتصقاً بي رغم أنفي.
هم مني مثلما أنا منهم.
ولو نسيتهم ما تركني أبي أنسى.
أوليس هو من غرس حب الوطن في نفسي، رغم فجيعته فيه.
صوته كان دوماً الوطن.
“لمَ لا تكتبين عن المتقاعدين ممن لا يتحصلون على معاشاتهم اليوم؟”
وأحتد صوته،
فاختنق صوتي بعبراته الصامتة.
متقاعد ينتظر.
معاشه لا يصل.
وأهله جوعى.
يا خيبة الدولة.
“هل نسيت كل هؤلاء كي تكتبي عن يهودي أحتل أرضك؟”
ابتلعت صوتي.
معه دون العالم كله لا احتد.
أوليس هو مهجة القلب؟
آه يا أبي.
لمَ أكتب عن عربية يهودية؟
لأنها هي لم تحتل أرضي.
دولة إسرائيل وملابسات إنشاءها، قصة أخرى.
تلك حكاية يقصها العرب بطريقة والإسرائيليون بطريقة أخرى.
ولعل الحقيقة تكون قصة ثالثة.
لكن ما أقسى دولنا العربية التي هرعت رغم حربها مع إسرائيل إلى ترحيل مواطنيها من اليهود، أرادوا ذلك أم رفضوا.
أرادوا ذلك أم رفضوا.
800 ألف من يهود العرب، أُخرجوا هم أيضاً من ديارهم.
تلك المصرية كانت دوماً جزءاً من الوطن.
لكننا نحن من لفظها.
قطعناها من جسدنا.
فأصبحنا بلا أطراف.
“لكن كل ذلك عهد مضى”.
معك حق عندما تقول لي ذلك.
لولا.
ولولا هذه هي التي أغص بها.
لولا أن التاريخ يعيد نفسه اليوم أيها الحبيب.
مسكين من ينتمي إلى ديانة غير الإسلام في أوطاننا في مرحلتنا الزمنية الراهنة.
كالعربي الذي يعيش في إسرائيل اليوم.
مواطن درجة ثانية.
لكن العربي هناك لديه على الأقل قانون يمكنه اللجوء إليه، رغم الظلم.
أما عندنا يصبح مواطن درجة ثامنة وعشرون.
التاريخ يعيد نفسه اليوم.
ولذا وجب التذكير.
التاريخ يعيد نفسه اليوم.
لذا وجب التنبيه.
لن أشير إلى ال 45 يمني ممن يدينون بالديانة اليهودية اضطروا إلى الهروب من ديارهم بعد أن هددهم “متشددون”، وطالبوهم “بمغادرة البلاد”. حدث هذا قبل أربعة أشهر.
محافظ صعدة سارع بالتأكيد إلى أن من هددهم هم من أتباع الحوثي.
ما حدث فعلاً يظل في بطن الحاكي.
الأكيد هو أن هؤلاء المواطنين اليمنيين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الدولة، التي “تعهدت بإعادتهم سالمين إلى ديارهم”، في الوقت الذي استغلت فيه الموضوع كي تظهر للعالم الخارجي، “أي متطرفين نتعامل معهم”، وسندان تطرف بدأ يزيد عن حده، يلاحق كل لا يرتدي الزي نفسه فما بالك بمن لا يؤمن بالدين ذاته.
لا. لن أشير إلى ذلك.
بل أنبه إلى حركة هجرة تحدث في عالمنا العربي ونحن لا ننتبه.
هجرة مواطنينا المسيحيين.
هجرة صامتة.
تجري بهدوء.
وصمت.
صمت يقطر حزناً.
ينسحبون من أوطانهم لأنها خذلتهم.
ينسحبون هذه المرة بسبب حرب العراق.
هل سمعتم بصراخ العراقيين من المسيحيين وهم ينشادون حكومتهم أن تحميهم؟
حدث هذا الأسبوع الماضي.
تحميهم من مرضى بالتطرف،
يصرخون فيهم “إما أن تسلموا، أو نقتلكم”.
والأسلم كان أن يرحلوا.
والحكومة لاهثة لا تدري مَن تحمي.
فقد كثر عدد الضحايا.
ولعلكم لم تلاحظوا أن عدد المسيحيين في الأراضي الفلسطينية، في سوريا، في لبنان، في مصر، وفي الأردن، في تناقص مطرد.
تناقص يتزايد يوماً بعد يوم.
ونحن لاهثون.
كالحكومة العراقية.
لا ندري من نداري.
متعبون.
من حياتنا.
ومن حكوماتنا.
ولا نعبأ.
لا ندرك، كم أصبح الوضع صعباً على من لا يدين بدين الأغلبية في مجتمعاتنا.
أصبح صعباً لا يطاق.
ليتكم تلاحظوا وسائل إعلامنا وهي لا تكف عن التذكير بدين الدولة. ثم تسهو أحياناً وتندد بأديان غيرها.
ليتكم تلاحظوا كيف نتحدث، عندما نهيج ونحن نلعن “اليهود والنصاري”.
أو لعلكم نسيتم ذلك التسامح المتكبر، الذي يتعامل به البعض مع من لا يدين بدينه، كأنه يقول “لا بأس، سأقبل بك، رغم دينك”.
صعب.
صعب. أن تكون غير مسلم في مجتمعاتنا العربية اليوم، إلا إذا كنت أبيض البشرة تنتمي إلى فصيلة الأوروبيين أو الأمريكيين.
فهؤلاء سنرفع لهم أيدينا تعظيم سلام، ونحن نلعنهم في سرنا.
ولذا كان من الأسلم على مواطنينا ممن لا يدينون بدين الأغلبية أن يرحلوا.
ومعهم صورة من ماضي، كان التنوع عنوانه.
عندما أكتب عن مصرية يهودية، أذكركم بأن 800 ألف عربي يهودي كانوا يعيشون في أوطاننا.
اليوم لم يبق منهم سوى مئات وبضعة آلاف.
يعيشون وهم يعدون أنفاسهم.
عندما أكتب عنها أذكركم بأن عشرة ملايين من العرب المسيحيين يعيشون في بلداننا العربية.
مواطنون، ونحن نصر في نفوسنا أنهم غير ذلك.
“هم غير ذلك”!
ولأنهم يسمعون همسنا، يعيشون وهم متخوفون.
أيديهم على قلوبهم.
يدركون أن موجة التأسلم الشعبي التي هبت رياحها على المنطقة لن تغض الطرف عن وجودهم.
أذكركم بهم، خاصة وأن بعض الخبراء وفقا لتقرير لصحيفة ال NZZ am Sonntag السويسرية الناطقة باللغة الألمانية، بتاريخ 11 مارس 2007، حذر من أن استمرار نمط الهجرة الحالي يعني ببساطة أنه لن يبقى مسيحي واحد في المنطقة العربية بعد خمسين عاماً من اليوم.
لن يبقى مسيحي واحد.
فهل ستحزنون؟
لا تعتب علي أيها الحبيب.
أبي ووطني.
لا تعتبَ علي، وعتبك غالي.
دوري، وكل من يحترم قلمه، أن يكون صوتاً مزعجاً.
لا يجاري ولا يطبطب.
مرآة صادقة، يمسكها بيده حتى وهي تحرقه، ويعكس من خلالها واقعه.
دور التزمتُ به.
رغم الوجع.
فالوجع هو أن تكتب وأنت تدري أنك ستُؤلم من تُحب.
elham.thomas@hispeed.ch