أثناء حكم الزعيم ماو تسي تونغ للصين، كانت إقالة الوزراء والمسئولين تتم في حالتين وحيدتين : الحالة الأولى هي اكتشاف عدم إخلاصهم للنظام الشيوعي أي وجود أفكار رأسمالية وإصلاحية لديهم. الحالة الثانية هي عدم قيامهم بما يفترض فيهم لمواجهة حركات العصيان والتمرد ضد النظام. ولهذا السبب فان أشخاصا مثل”زو رونغجي” رئيس الوزراء السابق ما بين عامي 1998 و 2003 والملقب بصاحب الوجه الحديدي خسر منصبه كرئيس مجموعة في مفوضية الدولة للتخطيط في عام 1957، وأرسل للعمل في مزرعة لتربية الخنازير في أقاصي الريف عقابا له على ما أثير حوله من وجود ميول رأسمالية كامنة في شخصيته. وبالمثل أكتشف النظام الماوي مبكرا وجود ميول إصلاحية لدى الرئيس الحالي “هو جينتاو” فعاقبه بالنفي في عام 1968 إلى مقاطعة “غانسو” الفقيرة للعمل في بناء بيوت للفلاحين الذين كانوا قد هجروا من قراهم الأصلية من اجل استخدام مواقعها في إنشاء سد جديد. وكمثال على الحالة الثانية، تم طرد الزعيم “زهاو زياو” وتجريده من مناصبه وإيداعه المعتقل حتى وفاته بسبب ما قيل عن تعاطفه مع الانتفاضة الجماهيرية في ساحة “تيا ان مين” في عام 1989.
في حقبة الإصلاحات والانفتاح الاقتصادي التي دشنها الزعيم المصلح “دينغ هسياو بينغ”، وقادها من بعده الرئيس السابق “جيانغ زيمين”، كانت حجة التخلص من كبار المسئولين وطردهم هي استغلالهم لمناصبهم في الإثراء غير المشروع أو ارتكاب مخالفات تندرج ضمن الفساد والإفساد. واستنادا إلى تلك الحجج فقد الكثيرون مراكزهم و تلوثت سمعتهم، وأدخلوا المعتقلات مع تجميد ثرواتهم، بل وصل الأمر إلى إدانة بعضهم بالإعدام شنقا كي يكونوا عبرة لنظرائهم.
مؤخرا، وتحديدا في اليوم الأخير من شهر أكتوبر الماضي، قرر مؤتمر الشعب الوطني (يوازي البرلمان في الدول الأخرى) إقالة وزير التعليم “زو جي” من منصبه الرفيع وتعيينه بدلا من ذلك في منصب متواضع هو “نائب الأمين العام للحزب الشيوعي المسئول عن الأكاديمية الصينية للهندسة”. هذا الحدث غير المسبوق، وبالطريقة التي تمت بها، علاوة على الترحيب الذي أحدثه في كافة الأوساط الحزبية والحكومية والشعبية، فجر الكثير من التعليقات، ناهيك عن أن البعض نظر إليه كثورة بحد ذاتها ضمن ثورة الرئيس “هو جينتاو” لقيادة الصين نحو آفاق جديدة من القوة الاقتصادية والعلمية، وضمن سياسة جديدة لا تهادن المتخاذلين والمتقاعسين.
لكن السؤال الذي فرض نفسه كان: ما هي الأسباب الحقيقية لطرد الوزير “زو جي”، وهو الذي كان ينظر إليه كشخصية مرموقة داخل أروقة الحزب الحاكم منذ صعوده في وزارة التعليم (تعتبر إلى جانب الإسكان والصحة من الوزارات المهمة في الصين بسبب دورها التنموي وارتباطها بصورة البلاد العالمية) من نائب للوزير إلى وزير في عام 2003، فضلا عن كونه من النخب الصينية التي تلقت تعليما رفيعا ( أكمل دراسته في جامعة تسينغوا في بكين في عام 1970 ثم حصل على درجتي الماجستير و الدكتوراه من جامعة بوفالو الأمريكية في عامي 81 و84 على التوالي، قبل أن يصبح رئيسا لجامعة العلوم والتكنولوجيا في “ووهان” في عام 1997 فأستاذا في أكاديمية الهندسة الصينية في عام 1999، فنائبا لعمدة مدينة “ووهان” فعمدة لها).
في أسباب إقالة الوزير قيل أولا أنها متعلقة بانتقادات مريرة وجهت إلى وزارته حول ضعف الأداء، و القدرة على المنافسة، والتخريب الذي طال مشهد التعليم العالي في البلاد منذ تحويل نظام التعليم في عام 1999 من نظام نخبوي إلى نظام جماهيري، وهو ما سهل لأكثر من 20 بالمئة من خريجي المدارس الثانوية الالتحاق بالجامعات، من بعد أن كانت تلك النسبة لا تتجاوز 2 بالمئة في الثمانينات، الأمر الذي كانت له تداعيات خطيرة تمثلت في تخرج أعداد هائلة من الشباب من الجامعات دون وجود وظائف مناسبة لهم ( في العاصمة وحدها مثلا بلغ عدد هؤلاء في عام 2008 نحو 12 بالمئة من الخريجين الذين لم يعثروا على وظائف إلا بعد مرور ست أشهر على تخرجهم) وبالتالي التسبب في ارتفاع معدلات البطالة، فاحتمال التسبب في اضطرابات وقلاقل مستقبلية تطيح بالسلم الأهلي. وفي سياق هذه الانتقادات تم التعرض أيضا إلى المستوى المتدني لأكثر من 15 مليون معلم في المراحل التعليمية المختلفة، وغياب المعايير الصحيحة والمتقدمة لتعينهم وتدريبهم و تحويلهم إلى مساهمين لفترات طويلة من أعمارهم في تحقيق الأهداف التربوية للدولة والمتمثلة في خلق أجيال من المتخرجين القادرين على مواجهة التحديات العالمية وظروف واشتراطات أسواق العمل في الداخل والخارج.
وقيل ثانيا أن الإقالة تتعلق بالتصرفات اللامسئولة في عدد من جامعات الصين الرائدة، مثل التساهل في منح درجات الدكتوراه لعدد من كبار المسئولين، بل وغض الطرف عن الكثير من الشروط الواجب توافرها في البحوث الأكاديمية، وترك الحبل على الغارب للغش في الامتحانات، وبيع الشهادات أو أسئلة الامتحانات لمن يدفع أموالا أكثر. حيث تبين مثلا أن مسئولين متنفذين اجبروا جامعات بعينها على منحهم شهادات عالية دون أن يبذلوا الجهد المطلوب، بل دون بذل أي جهد على الإطلاق، وعدم اتخاذ الوزير أية إجراءات رادعة ضد أصحاب الشهادات المزيفة أو من ساعدوهم في تلك السقطات الأكاديمية، على الرغم من إلقاء الشرطة القبض على اثنين من المديرين في جامعة “ووهان” في منتصف أكتوبر تقريبا بتهمة تلقي الرشوة مقابل إنجاح بعض الطلبة وتسهيل إرساء عملية توسعة مباني الجامعة على شركة مقاولات معينة.
وقيل ثالثا أن الإقالة تتعلق بالمراتب المتأخرة التي احتلتها الجامعات الصينية في قائمة أفضل الجامعات في العالم، هذا علما بأن هذا السبب يجب ألا يسأل عنه الوزير، وإنما الحزب الحاكم الذي يعين رؤساء الجامعات المحلية طبقا لمدى ولائهم للحزب وليس طبقا لسجلاتهم الأكاديمية و مشوارهم الأكاديمي والبحثي وإبداعاتهم في حقول اختصاصاتهم العلمية.
وقيل رابعا أن الإقالة كانت ضرورية بعد الانتقادات التي وجهت إلى الوزير بعد اكتشاف مشاكل تربوية ومالية عانى منها التعليم على المستوين الإعدادي والثانوي، فضلا عن المستوى المتدني للتعليم العالي كما أسلفنا. وبطبيعة الحال فان الوزير “زو جي” لم يخلق تلك المشاكل وإنما ورثها من سلفه. لكن المأخذ الرئيسي عليه هو أنه لم يحرك ساكنا للتخلص من تلك المشاكل أو على الأقل تباطيء في علاجها فلم يحد منها، مما جعل أعضاء مؤتمر الشعب الوطني يصوتون ضده بعدد غير مسبوق من الأصوات (384 صوتا) حينما التأم المؤتمر في العام الماضي للتجديد للحكومة ووزرائها. حيث جاء ترتيب الوزير المقال في المرتبة الأخيرة ضمن 72 وزيرا من حيث عدد الأصوات التي جمعت لصالحه. وكان ضمن من صوت ضد الوزير “قيان زويسين” الذي يوصف بأبي الصواريخ الباليستية ورائد برامج الفضاء الصينية، وكانت حجته – كما صرح لرئيس الوزراء “وين جياباو” – هي فشل وزارة التعليم تحت قيادة “زو جي” في إيجاد جامعة واحدة على الأقل تتبع النماذج الموجودة في الغرب من حيث تبني المواهب العلمية وتشجيعها و منحها ما تحتاج من اجل تحقيق نجاحات خارقة و متميزة. ومما كتب وقتذاك، أن رئيس الحكومة نفسه ردد مقولة ان الجيل الجديد من الشباب الصيني تنقصه الموهبة الخلاقة والقدرة الصحيحة على تطبيق معارفه في حياته العملية، بل انتقد أيضا و بشدة معلمي المدارس، مقرا افتقادهم إلى الروح المهنية الخلاقة
وسواء كان الوزير المقال كبش فداء لأخطاء ارتكبها غيره، أو كان الأمر خلاف ذلك، فان الأنظار تتجه اليوم إلى خليفته ونائبه السابق “يوان غويرين” وما يمكنه تحقيقه في دولة تصل فيها موازنة التعليم إلى بلايين الدولارات، ويعتبر فيها التعليم جسرا أساسيا لتحقيق طموحات البلاد، وتقدم معاهدها وجامعاتها شهادات علمية تتجاوز في عددها الإجمالي ما تقدمها المعاهد والجامعات الأمريكية والهندية مجتمعة، بل دولة تضاعف فيها ما منح من شهادات الدكتوراه سبع مرات ما بين عامي 1996 و 2006.
على أنه رغم كل ما سبق من ملاحظات وانتقادات، فانه من الصعب تجاهل ما تحقق في الصين في حقل التربية والتعليم منذ قيام جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. ففي تلك الفترة كان أكثر من 80 بالمئة من سكان البلاد أميين، وكانت نسبة الأطفال المنخرطين في المرحلتين الابتدائية والإعدادية هي 20 بالمئة و6 بالمئة على التوالي. غير أن هذه الأوضاع تغيرت تغيرا جذريا خلال العقود التالية. فمثلا في عام 2008 بلغت نسبة المنخرطين في التعليم الابتدائي هي 99.5 بالمئة، وبلغت نسبة النمو في أعداد طلبة المرحلة الإعدادية هي 98.5 بالمئة، فيما انخفضت نسبة الأمية إلى مجرد 3.6 بالمئة تقريبا.
إلى ذلك، تفيد الإحصائيات الرسمية أنه في عام 1965 كان هناك أكثر من 200 ألف طالب يدرسون في الجامعات والكليات المختلفة، فيما وصل عددهم في عام 1998 إلى 1.8 مليون طالب وطالبة، وفي عام 2008 إلى 6.08 مليون طالب وطالبة. علاوة على ذلك ارتفعت أعداد الطلبة المنخرطين في المعاهد التقنية والفنية خلال عام واحد من 11 مليون طالب في عام 2008 إلى نحو 30 مليون طالب حاليا، وذلك كنتيجة لاكتشاف المواطنين سرعة الحصول على وظائف ملائمة وذات دخول جيدة نسبيا إذا ما كانوا من خريجي تلك المعاهد.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الدراسات الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh