ثمة ثلاثة مداخل مختلفة للكلام عن البربرية، التي تجتاح البلدان العربية، وتتجلى من وقت إلى آخر في هجمات إرهابية خارج العالم العربي من نوع ما حدث، مؤخراً، في باريس. المدخل الأوّل مُستمد من المفكر وعالم الانثروبولوجيا الاجتماعية “إيرنست غيلنر”، والثاني والثالث من أستاذ العلوم السياسية “أوليفيه روا”.
يرى غيلنر، في معرض تحليله لظاهرة الأصولية الإسلامية، أنها أصبحت ممكنة، وظاهرة اجتماعية، وسياسية سائدة، لأن تعميم التعليم، والطباعة، في الأزمنة الحديثة، ساعد في نقل معارف الفقهاء إلى العامة. ففي أزمنة سبقت نجمت أنماط التدين الشعبي عن مفاوضات بين الديني والدنيوي عرفتها كل ثقافات الكون، بينما ظلت علوم الفقهاء محصورة في الحواضر، وبالقرب من مراكز السلطة السياسية، التي تُحسن استغلالها بما تريد، وكما تريد.
بمعنى آخر التشدد والأصولية كانا في صميم المنظومة الفقهية التقليدية، التي كانت ضعيفة ومحدودة التأثير قبل انتشار الطباعة والتعليم على نطاق واسع، ووسائل الاتصال. وفي المقابل كانت أنماط التديّن الشعبي أكثر تسامحاً ومرونة، نتيجة تكيّفها مع ضرورات الحياة اليومية، وسبل تحصيل القوت، والتفاعل الاجتماعي.
ومن جانبه يحلل روا وجود ثلاثة أنواع من الفاعلين في الحقل الثقافي العربي والإسلامي، في الأزمنة الحديثة: الفقيه الذي أنجبته مؤسسة التعليم التقليدية، وزوّدته بمعارف تراكمت، وتمأسست على مدار قرون، والمثقف الذي أنجبته مؤسسة الجامعة، ذات المعارف، والنظم والتقاليد الغربية، وأخيراً الإنتلجنسيا الرّثة، التي أنجبها التوّسع في نظام التعليم، ولم يوفر لها مكانة اجتماعية، مادية ورمزية، تليق بمكانة المتعلّم مقارنة بالفقيه التقليدي، والجامعي المُتغرّب الحديث.
وإلى ما تقدم أضاف روا فرضية لامعة في عمل بعنوان “الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة“، ومفادها أن العولمة، والهجرات، ووسائل الاتصال، أسهمت مجتمعة في فصل الإيمان عن خصوصياته اللغوية والثقافية. فاليهودية والمسيحية والإسلام اقترنت على مدار قرون بخصوصيات جغرافية، ولغوية، وقومية، وثقافية، وإثنية، أسهمت في موضعة فعل الإيمان في سياقات محددة أطاحت بها العولمة.
وأكثر ما يتجلى هذا في جاليات المهاجرين، التي أصبحت سمة دائمة من سمات المجتمعات الحديثة، خاصة في الغرب، كما يتجلى في الشبكات الإيمانية، والأمة الافتراضية، التي تشكّل مصدراً لهوية أشخاص بلا خصوصيات، أو تواريخ، وذاكرة ثقافية محددة أو موّحدة.
وإلى فرضية غيلنر، الذي يبدو أنه لم يطلع على نحو كاف على خصوصيات الحرب الباردة العربية ـ العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والطفرة النفطية في أواسط السبعينيات، ونظريات الحزام الأخضر الأميركية، أي توظيف الدين في مقاومة المد السوفياتي، بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن التفكير في حقيقة أن معارف الفقهاء، التي كانت محصورة في المراكز الحضرية، في أزمنة سبقت، لم تكن بالضرورة متطابقة، على الرغم من تطابق مرجعياتهم.
ومع ذلك، تمكّن فريق منهم (الوهابية السعودية)، تصادف أنه لم ينشأ في مراكز حضرية تقليدية، وأنه كان الأكثر امتلاكاً للموارد المالية بعد الطفرة النفطية، وإسناداً من سلطة الدولة، التي رأت فيه جزءاً من سياستها الخارجية، من تعميم معارف الفقهاء التقليدية، كما تصوّرها (وقد جوبهت تصوّراته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي النصف الأوّل من القرن العشرين بمعارضة واسعة من جانب المؤسسات الفقهية في الحواضر)، على نطاق واسع في العالم العربي، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت، ضمن أمور أخرى، انهيار الأيديولوجيا القومية، وتعزيز النظم الاستبدادية القائمة، وتعثّر مشاريع التحديث والتنمية، التي شكّلت مصدر إيحاء وخارطة طريق، لمجتمعات عربية مختلفة في عقود سبقت.
وهذه المسألة تأخذنا إلى كلام “روا” عمّا أسماه الإنتلجنسيا الرثّة، التي أنجبها نظام التعليم الحديث. وهذا التعبير تحوير لتعبير ماركسي مألوف عن البروليتاريا الرّثة، الذي أطلق على فئات اجتماعية نشأت على هامش التمركز الحضري والتحديث والتصنيع، وهي تختلف عن الطبقة العاملة من حيث تدني مكانتها، ووعيها الطبقي، ووظيفتها الاجتماعية، ودورها الهامشي في عجلة الإنتاج.
ويصبح هذا التحوير ممكناً في الحقل الثقافي العام، بالنظر إلى فئات متعلمة، أنجبها نظام مركزية التعليم، لكنها لا تحظى بالمكانة نفسها في الحقل نفسه، الذي يحتل مراتبة العليا أدباء ومثقفون وفنانون يمكنهم تحصيل رأس المال الرمزي والمادي في حقل السلطة. وهذه الفئات المتعلمة أقل تحصيلاً بالمعنى الأكاديمي السائد، الذي يضفي أهمية خاصة على المؤسسة التعليمية والتخصص، وفي حالات كثيرة أقل انسجاماً مع دور ووظيفة المثقف في الأزمنة الحديثة، وكلاهما وليد العلمنة، وحرية التعبير، والممارسة النقدية.
وربما يصدق هذا التحوير على كل مؤسسي الإسلام السياسي، مثلاً، بداية بحسن البنا، الذي كان معلّم مدرسة، وسيد قطب، الموظف في وزارة المعارف، ووصولاً إلى الدعاة من نجوم الفضائيات، نجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء لم يحصلوا على معارف تقليدية في مؤسسات دينية عريقة، وصارمة الشروط، كالأزهر، مثلاً، بل تخرجوا كلهم في مؤسسات التعليم، التي أنشأتها الدولة في زمن مركزية وتعميم المدارس والتعليم، كلهم علّم نفسه بنفسه، أو درس العلوم الدينية في معاهد ومؤسسات تحاول محاكاة نظام وتقاليد الجامعة الغربية الوافدة، لكنها تفتقر إلى مناهجها، وشروطها.
والمهم بقدر ما يتعلّق الأمر بكلام “روا” أنه يحلل الموقف السلبي للإنتلجنسيا الرثة إزاء منتجي المعرفة من الفقهاء التقليديين، وخريجي الجامعة الغربية الوافدة، في الصراع على رأس المال الرمزي من ناحية، والموقف من الدولة من ناحية ثانية. فالفقيه التقليدي والمثقف الجامعي جزء من هيكلية وحقل السلطة، والحقل الثقافي العام، بينما لا يوفر النظام السياسي، وسوق العمل، ودورة الإنتاج، مكانة رمزية وعوائد اجتماعية ومادية للإنتلجنسيا الرثة، التي تميل، نتيجة التهميش، إلى إنشاء صلة بين الحصول على المعرفة، وإنتاجها من ناحية والمعارضة السياسية من ناحية ثانية. وأهم ما يُميّز معارف هؤلاء أنها انتقائية، تفتقر إلى المنهج، والتأهيل في العلوم الفقهية التي توظفها في استنباط أحكام اجتماعية وسياسية.
حاولت الوهابية السعودية النأي بنفسها عن الحقل السياسي، ولكن تحويلها إلى جزء من السياسة الخارجية للدولة، ومجابهة التحديين القومي (الناصري والبعثي) والراديكالي الإيراني بعد العام 1979 ارغمها على الانخراط في السياسة. وعند هذا الحد نشأ التقاطع، والتأثير الأيديولوجي المُتبادل، بينها وبين الإخوان المسلمين، وجماعات إسلامية مختلفة في تركيا، والهند، وباكستان، وفي الغرب.
وكان القاسم المشترك الأكبر، رغم خلافات كثيرة، وحذر الوهابيين التقليدي من السياسة (قبل ما يعرف بـ”الصحوة”)، الاتفاق على ضرورة وأهمية أسلمة المجتمعات في العالم العربي، وخارجه في مجتمعات الجاليات المهاجرة. وفي هذا السياق توفرت ظروف مثالية لنشوء شبكات حركية عابرة للحدود والقوميات، وفيه نشأت مراكز ثقافية، ومعاهد، ومؤسسات لتوليد وتأهيل الإنتلجنسيا الرثّة، وفي ظله تبلور الاقتصاد السياسي للأسلمة.
ولعل في هذا ما يقودنا إلى فرضية “روا” عن ظاهرة انفصال الإيمان عن الثقافة، التي تجد أبلغ تجلياتها في أوساط الجاليات المهاجرة من بلدان أفريقية، وآسيوية. هذه الجاليات من مخلّفات العلاقة بين المستعمرات السابقة والمتروبول الغربي، علاوة على الحاجة إلى الأيدي العاملة الرخيصة، وما أنجبته الكوارث الاقتصادية والدكتاتوريات من ظروف أرغمت أعداداً كبيرة من الناس على الهجرة إلى الغرب بحثاً عن فرص أفضل للعيش. تعيش هذه الجاليات في الغرب مقطوعة الصلة بالبلد الأم وثقافتها، على هامش المجتمع الجديد، ودون استبطان لثقافته التي تبدو مُهددة وساحقة.
ولا تختلف، في جوانب كثيرة، المُدن المُريّفة، في العالم العربي، عن جاليات المهجر، من حيث وجود ثقافات متوازية، وعوالم متباينة، وأحياء تعيش في المدينة نفسها، لكنها تنتمي إلى أزمنة مختلفة. وهذه كلها من مخلفات الهجرة الواسعة إلى المدن، وتوّسع جهاز وبيروقراطية الدولة، وإخفاق مشاريع التنمية، والتوزيع غير العادل للثروة.
وفي أوساط هذه المجتمعات، بالذات، كان يمكن لأكثر ممثلي الإنتلجنسيا الرثة رداءة من نوع أبو حمزة المصري، مثلاً، والكثير من المحرّضين الدينيين أشباه الأميين، الذين عرفتهم لندن في الزمن الذهبي للإسلام السياسي هناك، أن يجدوا بين هنود، وباكستانيين، وعرب، وأفارقه، جمهوراً بلا ثقافة ولا هوية. ولم يكن ثمة من فرق كبير بين ما يُنتجه ويستهلكه هؤلاء من معارف دينية، وبين ما يُنتجه ويستهلكه دعاة قبليون، أنشأوا معاهد ومدارس دينية طالبانية في مجاهل اليمن، أو أفغانستان. يعني لا فرق بين باريس، ولندن، وتعز وقندهار.
من طراز أبو حمزة، والدعاة القبليين، هناك الآلاف في الأحياء الفقيرة، والمدن المُريّفة، في العالم العربي، وعواصم ومدن الغرب، وفي خدمة هؤلاء دول، وجمعيات، ومؤسسات، ومصارف، عابرة للحدود والقوميات. وقد أصبحت لديهم شبكات حركية، ومنابر إعلامية، وحتى فضائيات تلفزيونية. في مجتمعات كهذه، حوّلها الفقر والتهميش واضطراب واختلاط وفوضى الهويات واليقين إلى حواضن مثالية، وفي سياق تاريخي كهذا، ولدت، وتعولمت البربرية، باعتبارها منتجاً من منتجات العولمة.
khaderhas1@hotmail.com