طرابلس (شمال لبنان) – حازم الأمين
«ماكدونالدز الآن في طرابلس»، لا بد لك من التوقف عند هذا الإعلان أثناء التوجه الى شمال لبنان لتغطية الأحداث التي تجري هناك. انها طرابلس عاصمة الشمال اللبناني المعقل الرئيسي لمناصري «تيار المستقبل»، وهي أيضاً ما يطلق عليها الإسلاميون السنة في لبنان عبارة «ساحتنا الرئيسية». والمدينة وجدت سبيلاً لتعايش الوظيفتين، ليس عبر تفاهم بينهما وانما عبر خلط لمعانيهما غير متبلور بعد ولم يفض حتى الآن الى تجانس أو انسجام. «ماكدونالدز الآن في طرابلس» يمت للوظيفة الأولى بصلة أكيدة، فيما تتولى عشرات الإشارات الأخرى إمداد الوظيفة الثانية بالصور والمضامين. وطرابلس المدينة التي وصلتها جماعة «فتح الإسلام» وأقامت في شقق ومنازل في أحيائها الجديدة لن يعدم أي طارق «إسلامي» لأبوابها من يفتح له، على رغم ان جماعة «فتح الإسلام» كانت محاصرة في مخيم نهر البارد الواقع في شمال المدينة، وعلى رغم «الرقابة الأمنية» التي أخضعت لها هذه الجماعة، خصوصاً بعد اتهامها بالوقوف وراء تفجيرات عين علق في جبل لبنان.
ولكن كيف وصل عناصر «فتح الإسلام» الى المدينة المناهضة لأي دور سوري في لبنان، هم الذين يتهمهم «تيار المستقبل» من دون ان يكون مبالغاً بأنهم عناصر استخبارات سورية؟ ولماذا لم تستيقظ الحساسية العالية في المدينة حيال أي تمدد أمني وسياسي سوري محتمل لتمنع قيام هؤلاء العناصر من استئجار الشقق السكنية فيها وتجنيد مناصرين من أبنائها؟ الطرابلسيون غير معنيين بهذه التساؤلات هم الذين غالباً ما يجدون لها إجابات خارجهم. ثم ان عنف «فتح الإسلام» هو بدوره أيضاً شيء خارج «فتح الإسلام»، فأبناء المدينة ومنهم نخبها ورجال دينها وتجارها يميلون الى ان وراء الوقائع والأحداث قوى غير مرئية، هي أميركا غالباً، ولكنها في أحيان كثيرة إيران، وهي الآن سورية. «وسورية» «فتح الإسلام» لا تنفي اميركيتها، مثلما يعني بالنسبة الى أحد مشايخ السلفية في طرابلس إقدام «فتح الإسلام» على تفجيري عين علق نفياً لعلاقة هذه الأخيرة بتنظيم «القاعدة»، فـ «عين علق منطقة نصرانية، ولا معركة الآن بين «القاعدة» وبين النصارى». خلط متواصل للمفاهيم والمعاني لا تدركه إلا طرابلس، وان تستمع لطرابلسيين يتحدثون عن الأحداث التي تجري في مدينتهم فلن تتمكن من التقاط خيط يجمع ما يعتقدون بأنه ضائقتهم هذه الأيام.
عناصر امنية لبنانية تعتقل احد عناصر «فتح الاسلام» (أ ف ب
لكن أثناء التجوال في المدينة، وفي تلك الأحياء التي تفصل طرابلس القديمة عن طرابلس الجديدة وهي التي شهدت الأحداث الأخيرة، ستشعر ان عمران هذه الأحياء اكثر انسجاماً من اعتقادات أهلها. اصطفاف هادئ لمبانٍ شيدت في حقب مختلفة بدءاً من الحقبة الكولونيالية في بداية القرن الفائت وصولاً الى مباني خمسيناته وستيناته. فمنطقة الزاهرية التي تضم المبنى المهجور الذي تمركزت فيه مجموعة «فتح الإسلام» تنتمي عمرانياً واجتماعياً الى زمن ما قبل الحرب اللبنانية.
الحيرة التي تصيبك أثناء تجوالك في هذه الأحياء ربما كان مردها الى عدم انسجام بين الزمن الاجتماعي والزمن العمراني للمدينة، فأنت تبحث في الظرف الذي تعيشه المدينة عما يمت الى الحدث بصلة، وهذا لن تجده في ما تشاهد من مبانٍ. وربما وجدت ضالتك في أحياء داخلية كالتبانة وبعض أطراف الزاهرية، ولكن أحداث طرابلس وقعت هنا، ومناصرو «فتح الإسلام» من أبناء المدينة الذين قتلوا في اشتباك فجر الاثنين الفائت، «خرجوا» من التبانة وتمركزوا في مبنى الزاهرية المهجور، بهدف تخفيف الضغط عن «إخوانهم» في شقة «المئتين».
بيئة سلفية
ولـ «خروج» مجموعة من منطقة التبانة لـ «نصرة» مجموعة من «فتح الإسلام» في طرابلس دلالة كبيرة. فالقضية ليست اختراقاً أمنياً نجحت «فتح الإسلام» في أحداثه في البيئة «السلفية» الطرابلسية المعادية للنفوذ السوري في لبنان، بقدر ما هو مؤشر على إمكان إتاحة «الساحات الإسلامية» المجال لأي طامح في الاستثمار فيها خصوصاً اذا لاحت على وجهه لحية. فالنقاش الذي ترافق مع ظهور هذه الجماعة منذ نحو سنة في الأوساط السلفية اللبنانية يشي بالكثير ويؤشر الى انها ليست جماعة معزولة في مخيم نهر البارد. فيشير أحد المشايخ السلفيين الى ان «حواراً» جرى اكثر من مرة مع هذه الجماعة وانه ادى الى «تراجعها عن عدد من أفكارها». ويضيف «تراجعوا عن نيتهم مهاجمة قوات «يونيفيل» بعد اقناعهم في ذلك، فنحن مع الجهاد في العراق، أما قتال «يونيفيل» فلا نعتقد بصحته الآن».
وفي «بيئة الإسلاميين» تتداخل «الدعاوى» وتتنافس، وطرابلس حاضنة لحراك واسع على هذا المستوى، ولكن ذلك لا يتم على نحو يتيح لجميع أبناء المدينة تلمسه، اذ تشعر أثناء عيشك في المدينة أو زيارتك لها انك في طرابلسين، الأولى تلك التي قَدِم «ماكدونالدز» لتلبية تطلب أبنائها، والثانية تلك التي خرج منها شبان لنصرة مجموعة «فتح الإسلام» في منطقة الزاهرية. والغريب انه وعلى رغم ان لا حواجز تفصل بين الطرابلسين إلا ان أبناء كل واحدة منهما لا يعرف الكثير عن الآخر. فالشقة التي استأجرتها «فتح الإسلام» في منطقة المئتين تقع في منطقة نفوذ «ماكدونالدز» لكن سكان المبنى وطوال فترة مجاورتهم لعناصر المجموعة لم يتبادر الى أذهانهم احتمالات كان من المفترض ان يطرحها عليهم وجود هؤلاء في مبناهم. أما مجموعة الزاهرية التي قدم عناصرها من منطقة التبانة وتمركزوا في المبنى المهجور، فقد فضلت الزاهرية المجاورة للتبانة لأن أحداً من السكان لن يلاحظ وجودها. هذا مع العلم أننا حيال مدينة صغيرة ومتداخلة الأحياء والشوارع.
لا شك في ان «فتح الإسلام» وجدت لنفسها موطئ قدم وان محدودة في «بيئة الإسلاميين» اللبنانيين. أحياناً أدى سعيها الى تجاذبات وصدامات، ولكن ذلك لم يمنع من «احتكاكٍ إيجابي» مع «الدعوات» الأخرى. ويقول ناشط إسلامي: «حاولت جماعة «فتح الإسلام» الدخول الى مناطق أبى سمرا والقبة والتبانة، لكننا لم نكن مرتاحين لهم. فنحن نؤيد عملهم في العراق، ولكننا ضد ان يستهدفوا يونيفيل».
وتحدث إسلامي آخر عن نقاش بالمراسلة بين «فتح الإسلام» وجماعة «عصبة الأنصار» في مخيم عين الحلوة، واتهمت «فتح الإسلام» «العصبة» على أثره بأنها عميلة للدولة اللبنانية. وانضم عدد من المنشقين من «العصبة» الى «فتح الإسلام»، خصوصاً العناصر المتذمرة من موافقة «العصبة» على تسليم بديع حمادة (قتل عنصرين من الجيش اللبناني) الى السلطات اللبنانية.
على رغم المسافة السياسية والعاطفية الكبيرة التي من المفترض ان تفصل الطرابلسيين عن «فتح الإسلام» بصفتها جهاز سوري، فأن المسافة تلك واهية أيضاً. السهولة التي مكنت «فتح الإسلام» من تجنيد عدد من أبناء منطقة التبانة تشير الى ذلك، وأيضاً تشير اليه اتصالات بين الجماعة وبين «مشيخات» محلية. لا يضعف هذا الافتراض حقيقة العلاقة بين هذه الجماعة وبين الأجهزة الأمنية السورية، بل يجعل المسؤولية مركبة، فهذه الأجهزة سبق ان عملت في تلك البيئة وهي مسؤولة عن الكثير من مفاصلها، وانقلاب الأوضاع في وجه السوريين لا يعني ان النقاء عم المدينة. ثم ان الانقلاب السريع الذي شهدته طرابلس على اثر انسحاب الجيش السوري منها لم يؤد الى جلاء مشهد جديد، بل انتج تفاوتاً حاداً في المفاهيم والوقائع. فالمزاج «الإسلامي» يستبطن عداء تقليدياً للنفوذ الأميركي أينما وجد، وهو الآن في مواجهة السعي السوري لاستعادة النفوذ.
هذين الميلين يُعبر عنهما في «الخطاب الطرابلسي» من دون ان ينسجما، فيولدان حيرة، ويسمحان باستقبال «تراجع فتح الإسلام عن سوريتها» بقلب منفتح.
يشكل تيار «المستقبل» في شمال لبنان إطاراً فضفاضاً لهذه «المشاعر» غير المتجانسة. فأحدُ لا يشك في اتساع نفوذ هذا التيار في أوساط المسلمين السنة في طرابلس وغيرها من المناطق اللبنانية، لكنه نفوذ بلا ضفاف. معانٍ بعيدة خلفها رموزه من آل الحريري. أنماط عيش وسلوك لا تنسجم أحياناً مع ما يتطلع اليه سلفيو «مشيخة طرابلس»، لكن هؤلاء لا يقاومون ما ترسله «الزعامة الشابة» للطائفة، أو على الأقل لا يستطيعون مقاومته فينكفئون الى طرابلس الثانية ويقيمون فيها «مشيختهم». وتعبير «مشيخة طرابلس» اقترحته أستاذة جامعية من المدينة في مقابل تعبير «إمارة جبل لبنان» بصفته تعبير راهن عن حال المدينة، فالمشايخ هنا هم مفاتيح الحياة، وأدوارهم تتعدى ما أناطته بهم نظم المدن اللبنانية الأخرى. ففي طرابلس نحو عشرة معاهد تدريس ديني يملكها سلفيون ونظيرها لغيرهم من الهيئات والجماعات الإسلامية. وهذه المعاهد تخرج كل عام نحو ثلاثة آلاف طالب في المرحلة ما قبل الجامعية، ويتابع عدد من هؤلاء دراساتهم الدينية الجامعية في جامعات في الخارج. وتروي شابة طرابلسية حكاية زيارتها لمنطقة زيتون أبى سمرا في جنوب شرقي المدينة، لتفاجأ هناك بحظائر خيل وجمال ومزارع يملكها ناشطون إسلاميون ويعمل فيها عدد من «أبناء الدعوة» يرتدون زياً شرعياً. الشابة تقول إنها شعرت أنها في مدينة أخرى، وان المسافة القصيرة التي تفصل منزلها في طرابلس الجديدة عن هذه المنطقة تفصل أيضاً بين أسلوبي حياة، على نحو مخيف.
تهميش في الأحياء الشعبية
يتحدث عبد الرحمن وهو من التبانة عن السهولة التي ينقل فيها الناشطون الإسلاميون في التبانة خياراتهم، وذلك وفقاً لما يتاح لهم. فالشباب الذين قتلوا في مبنى الزاهرية والذين يعرف منهم عبد الرحمن اثنين هما محمود دندشي وسامر الكردي يرجح عبدالرحمن انهم انخرطوا بـ «فتح الإسلام» لأن الأخيرة طرحت عليهم الانخراط فيها، ولأنهم شعروا ان ولاءهم لها هو ولاء لجماعة «تتحرك الآن على الساحة». فحال التهميش التي يكابدها شبيبة الأحياء الشعبية الطرابلسية تسهل مهمة المستثمرين في بيئتهم. اما محترفو «الدعوة» فيشيرون الى ركاكة «الدعوة» التي تسعى اليها هذه الجماعة، ويشيرون الى انهم جديدو نعمة على هذا الصعيد. أفكارهم غير متماسكة وحججهم غير مقنعة. ويقول أبو بكر وهو من سلفيي التبانة أن من تمكنت «فتح الإسلام» من استمالتهم في المنطقة هم شبان صغيرو السن وحديثو الالتزام. ويشير أبو بكر الى انه التقى أحد مسؤولي الجماعة فسأله أبو بكر عن المسوغ الشرعي لقدومهم الى لبنان وترك العراق فأجاب: «نحن مهاجرون»، فرد أبو بكر «المهاجرون عندما انتقلوا من مكة الى المدينة سألوا رأي أهل المدينة في حين لم تفعلوا انتم ذلك».
هل هم جزء من تنظيم «القاعدة» أم انهم مجرد جماعة تستخدم من قبل الأجهزة الأمنية السورية؟ هذا السؤال الذي يتردد كثيراً في طرابلس وفي لبنان يفقد معناه اذا ما أمعن المرء بما يجري في المدينة. فحكاية «فتح الإسلام» لم تبدأ من لحظة وصول هذه الجماعة الى مخيم نهر البارد منذ نحو سنة تقريباً. فـ «الساحة الإسلامية» في طرابلس منتظرة دائماً لحظات خروج منها واليها، ولطالما وجد راغب أو راغبون في الذهاب بعيداً في قناعاته ودعاويه. ويقول الشيخ بلال بارودي وهو سلفي وأمام «مسجد السلام» ان عدد الملتحقين بهذا النوع من الجماعات من «أبناء الدعوة» في طرابلس قليل جداً اذا ما قيس بحجم الإسلاميين في المدينة. وكلام بارودي صحيح، ولكن العدد القليل الذي يتحدث عنه هو ما تحتاجه هذه الجماعة، فهي في الدرجة الأولى جماعة «أمنية» ولا طموحات سياسية لها. ثم ان طبيعة عملها تتطلب اختراقاً محدوداً مترافقاً مع حد أدنى من التقبل من البيئة الأوسع من دون ان يعني التقبل انتشاراً وتوسعاً، وهذان الشرطان تأمنا لـ «فتح الإسلام» في طرابلس على ما يبدو. ويروي شباب من التبانة حكايات معارف وجيرة لهم من السلفيين، فيشيرون الى انقلاب حياتهم على نحو غامض وتحولات متواصلة في قناعاتهم. فيقول خالد ان صديقاً له لاحظ على شقيقه مظاهر هذا التحول واكتشف انه يتنقل حاملاً قنبلة يدوية، وسأله عن سبب ذلك فأجاب: «ستعرف السبب قريباً» ولاحقاً قتل هذا الشاب في حوادث الزاهرية.
ويشير أبناء المنطقة الى بعض التوتر في العلاقة بين شيوخ السلفية في التبانة وبين ناشطي «تيار المستقبل»، في أعقاب الحوادث الأخيرة في المدينة، فالشيوخ بحسب أبناء المنطقة يعتبرون «ان الشباب الذين قتلوا في الحوادث الأخيرة مجاهدون وضعوا في المكان الخطأ، وانهم مظلومون ولا يجوز اعتبارهم مجرمين كما يحاول «تيار المستقبل» ان يوحي».
الحدود التي تفصل القناعات والولاءات في لبنان ليست نفسها في طرابلس. والمدينة تتطلع دائماً الى خارجها بصفته مصدراً لتوترها وتعثرها. «فتح الإسلام» غريبة، ومشايخ المدينة حاولوا محاورتها ولم ينجحوا. والسيدة المقيمة في طرابلس الجديدة تنظر من شرفتها الى منطقة الزاهرية من دون ان تفهم ما يجري هناك، واكتشفت في صباح اليوم الذي أعقب حوادث طرابلس ان ابن ناطورة المبنى الذي تملكه كان من بين مقاتلي «فتح الإسلام» وسلم نفسه للقوى الأمنية اللبنانية.
(نقلاً عن “الحياة”)
كيف وجدت«الجماعة» موطئ قدم في المدينة؟ No doubt there are contradictions in Lebanese society and Tripoli is no different. The writer seems not to understand how extremists were able to rent a couple of apartments in Tripoli which is actually a large city of about 500,000 people and as in most big citites people don’t pay too much attention to each other or the new neighbor who just moved in especially in downtown and commercial areas. People tend to mind their own business. Furthermore, the majority of mainstream residents generally support the Future movement and resist Syrian influence but there… قراءة المزيد ..