لا يشبه المصري محمد البرادعي الغالبية العظمى من الساسة العرب. فهو، في حدود علمي، لا ينتسب إلى عائلة حاكمة، ولا يقيم صلات تجارية مع نخبة مهيمنة، ولم يخرج من صفوف حزب حاكم، ولا أطل على المشهد السياسي بعد انقلاب، لا تدعمه ميليشيا، ولا طائفة، ولا قوّة خارجية، ولا يشتغل في عالم المال والإعمال للإنفاق على طموحاته السياسية.
وبالقدر نفسه ليس في سيرته الشخصية، ولا في مظهره الخارجي، أو طريقته في الكلام، ما يدل على مصادر استثنائية للقوّة. وليس في تاريخه “النضالي” الحقيقي أو المُفتعل ما يكفي لكتابة سطر واحد في سيرة ذاتية، ولا في مظهره الخارجي ما يوحي بكاريزما من نوع خاص، وطريقته في الكلام لا تختلف عن طريقة رجل أنفق عمره في الوظيفة العمومية، أو في قاعات التدريس.
كل ما في الأمر أن البرادعي صاحب كفاءة ومؤهلات تنتمي إلى حقل بينه وبين الغالبية العظمى من الساسة العرب سنوات ضوئية. وقد عادت عليه الكفاءة والمؤهلات بمنصب رفيع في مؤسسة دولية، وبجائزة مرموقة، ووفرت له إمكانية الظهور على شاشات التلفزيون على مدار عقد من الزمن.
وكل ما في الأمر، أيضا، أن نقص المؤهلات التي ذكرناها في الفقرة الأولى هي ما يجعله محط اهتمام، وربما يمثل غيابها مبررا لمنحه الثقة، بعدما تعبت البلاد والعباد من الساسة الذين أنجبتهم الأحزاب والطوائف والجيوش والبورصات والعائلات والميليشيات، وبعدما سقط ما لا يحصى من أوراق التوت التي كثيرا ما تغطى بها هؤلاء.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى البرادعي، ومن هم في حكمه، كرسل للعناية الإلهية، فالتفوّق في حقل ما لا يعني، بالضرورة، التفوّق في حقل السياسة والإدارة، وحتى إذا افترضنا، جدلا، تفوّق البرادعي ومن في حكمه في حقل السياسة والإدارة، فإن حجم ما يواجهونه من أعباء ربما يكون أكبر مما لديهم من براعة في هذا الحقل.
المسألة ليست هنا، أي ليست في موضوع التفوّق أو عدمه، بل في طريقة توليد السياسة والسياسيين. قبل زمن الانقلابات العسكرية و”النضال” و”المناضلين” نشأ في عالم العرب جيل من الساسة تعارفنا على تسميته بجيل الاستقلاليين العرب. قاد هؤلاء معارك الاستقلال في مختلف الحواضر العربية (وأود التأكيد، دائما، على تعبير “الحواضر”)، وأصبحوا رموزا وطنية، في سياق عملية اجتماعية وسياسية وثقافية معقّدة، استمرت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين.
تداخلت في سياق العملية المذكورة عناصر مختلفة منها ظهور طبقات مدينية جديدة في مجتمعات كولونيالية، وسعي تلك الطبقات إلى موقع السيادة الاجتماعية، على خلفية تحوّلات ديمغرافية واقتصادية وثقافية هائلة تغطي معظم القرن التاسع عشر، كما تداخلت في مسعى البحث عن مكانة الطبقة السائدة ضرورات التحديث والإصلاح مع دوافع بلورة هويات وطنية مستقلة. ولم يكن ثمة من تناقض بين الأمرين فالتحديث يعني تحرير الشعب من التخلّف ليصبح جديرا بالاستقلال وقادرا على تحقيقه.
بهذا المعنى كان الطامح إلى احتلال صدارة المشهد السياسي محدثا ومنوّرا من ناحية وسياسيا من ناحية ثانية، كما كانت كلمة الإصلاح جزءا من مبررات انخراطه في الشأن العام. ولكن التحديث والتنوير انفصلا عن السياسة في زمن الانقلابات العسكرية والنضال والمناضلين، وتحوّلا إلى جزء من البضاعة الأيديولوجية لنخب جديدة سادت، كما اختفت كلمة الإصلاح من خطاب السياسة. وبما أن النخب الجديدة لم تكن معنية بالتخلي عن مقاليد الحكم تعطّلت العملية السياسية، فسد معنى السياسة، وأصيبت المجتمعات بالعقم لأنها لم تعد قادرة على توليد الساسة خارج الحاضنة المُعترف بها للنخب المهيمنة والحاكمة.
وفي هذا السياق، بالذات، نفهم اهتمام ما تبقى من الطبقة الوسطى في مصر، وربما في غيرها، بالبرادعي، ومن هم في حكمه. فهؤلاء وُلدوا بالمعنى المهني خارج الحاضنة المُعترف بها للأنظمة، ويُراد لهم اليوم أن يُولدوا كسياسيين بطريقة مغايرة للمألوف منذ ستة عقود على الأقل. وُلد عدد من الاستقلاليين العرب بالطريقة نفسها، بصرف النظر عن اختلاف الأزمات والأزمنة. وربما في هذه النقطة، بالذات، تكمن الفتنة الخاصة التي يبديها البعض في مصر إزاء البرادعي.
تبقى لدينا نقطة أخيرة يصعب التغاضي عنها: ظاهرة البرادعي، ومن هم في حكمه، ممكنة في مصر، لكنها عصية على التحقيق في أغلب المجتمعات العربية. فلكي تولد ظاهرة كهذه يحتاج المجتمع إلى تقاليد وذاكرة وهوية جمعية عميقة الجذور في الزمان والمكان.
ليس لكل ما تقدّم، بطبيعة الحال، علاقة بمدى نجاح البرادعي في سباق الرئاسة، أو فشله. المهم أن البرادعي سيعقبه آخرون، وربما بالطريقة نفسها. الانقلابات العسكرية لم تعد مجدية، ولا تحظى بالثقة، كما أن الفوران الشعبي (أو الثورة الشعبية، إذا شئت) يُنذر بالفوضى، وينطوي على احتمال الخراب. والمهم، أيضا، أن نجاح مصر في الخروج من مأزق توليد السياسة والسياسيين، كما جرت العادة منذ ستين عاما، سيكون فأل خير بالنسبة لبقية الحواضر العربية.
عندئذ ستفتح مصر أفقا جديدا أمام العرب، تعيد للحواضر مكانها ومكانتها، وعندئذ سيتكلّم الساسة لا عن الهوية، بل عن تداول السلطة وحقوق الإنسان، وكراهية الفقر والجهل والمرض، وعن الحداثة والتحديث والإصلاح والتنوير. وعندئذ ستنكفئ الهوامش، ويقول أولادنا، وربما أحفادنا: يا إلهي كيف عاشوا في ذلك الزمن الأغبر.
كاتب فلسطيني يعيش في برلين
عن جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com
كيف عاشوا في ذلك الزمن الأغبر..!!
الشعوب هي التي انحنت وسمحت لمافيات فاسدة عسكرية لكي تركب ظهورها ولهذا المافيات دمرت البلد وفقرتها.والكل يعلم ان الانظمة العربية العسكرية تحولت الى مافيات مخابراتية وعاثت بالارض والشعب والوطن الفساد والدمار وعملت على تقسيم البلد الى حتت ونشرت الفساد وقسم منها تحول الى جملكية مدمرة وبهذا دمرت الانسان والديمقراطية .انها كوارث اجتماعية تدفع ثمنها الشعوب ولكن الى متى؟ ان العسكر وظيفته ليست ادارة شؤون البلد ولهذا فهم يدمروا المجتمع المدني ويحولوا البلد الى عصابات قذرة تنهب البلد وتخلفها. الله امر الانسان بعدم طاعة الطواغييت وتطبيق العدل اي يجب تطبيق الديمقراطية
كيف عاشوا في ذلك الزمن الأغبر..!!ابعتلي جواب .. ولو انه هباب (لم اطق الصمت على ما يحدث في الشام , فأمصرت’ .. فلاقتني مصر ودمعتها بين الجفنين والهدب, .. طوفت بأضرحة الشهداء , وكل ضريح يمسك بي .. مصر الى الوحدة عائدة’ , مصر الى الوحدة عائدة’ .. قلت : كلا .. نحن نعود اليها .. ام معاركنا الكبرى , والزمن الخصب,) .. ما حذفته الثقافة ولم تحذفه “الرقابة” من احدى قصائد مظفر النواب روى والدي انه عقب صلاة الجمعة التي تلت رحيل شهيد الامة وبطل معركتها الكبرى (انور السادات) تجاذب اطراف الحديث مع مصري بسيط قادم من اعالي الصعيد… قراءة المزيد ..