قامت مجموعات غاضبة من قوات «الباسيج» الشبه عسكرية التابعة للنظام الإيراني، كانت تحمل صوراً للرئيس محمود أحمدي نجاد والأعلام الفلسطينية، بمقاطعة السيد مير حسين موسوي، مرشح الرئاسة الإصلاحي الرئيسي في إيران وزعيم المعارضة في الوقت الراهن خلال خطابه الذي ألقاه في جامعة أرومية أثناء حملته الرئاسية. وعلق موسوي عندما رأى الأعلام بقوله “إنني أرى بعضاً من جذور [مشاكلنا] في هذه القاعة”. “فعلى سبيل المثال، يحمل بعض الأشخاص الأعلام الفلسطينية. وعلى الرغم من أننا نحب فلسطين، إلا أننا في إيران وفي محافظة أذربيجان…. لقد دخلت إلى هذه الحملة تماماً من أجل مواجهة هذا [النوع] من التعصب”. إن خسارة موسوي في الإنتخابات التي يعتقد على نطاق واسع بأنها كانت مزيفة قد دفعت مئات الآلاف من المتظاهرين للخروج إلى الشوارع، حيث كان يهتف العديد منهم “لا غزة، ولا لبنان، أضحي بحياتي من أجل إيران”.
هل من المحتمل أن يطرأ تغيير على العلاقات الإيرانية الإسرائيلية إذا ما وصلت المعارضة الديمقراطية إلى سدة الحكم؟ على الرغم من أن ما أطلق عليه باسم «الحركة الخضراء»، أي المحتجون المؤيدون للديمقراطية الذين خرجوا إلى الشارع بعد الإنتخابات المتنازع عليها، هم «حركة» تمثل تطوراً كبيراً في سياسات إيران، إلا أن الإجابة على هذا السؤال لا تزال مشوشة إلى حد بعيد. ومع ذلك، فإن ما لا تخطئه العين هو أن شريحة كبيرة من الشعب الإيراني لم تعد تقبل على علاتها تصريحات قادة الجمهورية الإسلامية بأن الدولة اليهودية يجب “أن تُمحى من الخريطة”.
برز موقف الجمهورية الإسلامية تجاه إسرائيل من التحالف الذي تَشكل قبل الثورة والذي ضمّ رجال دين إسلاميين ومثقفين يساريين ونشطاء سياسيين متعصبين ينتمون إلى حزب «تودة» الشيوعي أو منظمة «مجاهدي خلق» الإسلامية والإشتراكية أو «محاربي الشعب المقدسين»، ومنظمة «فدائي خلق» الماركسية التي تضم «المقاتلين من أجل حرية الشعب». ولم تجد الجمهورية الإسلامية منذ قيام الثورة أي مشكلة في تحسين وتوسيع علاقاتها مع الأنظمة الإشتراكية والشيوعية: فأفضل أصدقاء إيران اليوم هم الصين وروسيا وفنزويلا. إن وجه الشبه الرئيسي بين الأيديولوجية الإسلامية والماركسية هو غياب مفهوم الدولة القومية عن كل منهما. فبدلاً من مفهوم “القومية”، تعتمد الأيديولوجية الإسلامية على مفهوم “الأمة،” أو جمهور المسلمين، بينما تستخدم الماركسية مصطلح “الطبقة”. إن الصراع الطبقي الدولي القائم في النظرية الماركسية بين البروليتاريا والبورجوازية يوازي الصراع القائم في الأيديولوجية الإسلامية بين مصطلح «أمة المسلمين» الذي يطلق عليه أيضاً «مستضعفين»، وبين “المستكبرين”، أو المتغطرسين. وكما أن الأمين العام للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي كان يشغل منصب رئيس الدولة ورئيس جميع الشيوعيين في آن واحد، فإن زعيم أي نظام سياسي أيديولوجي مثل الجمهورية الإسلامية لا يرى نفسه رئيساً للدولة فحسب، بل “حاكم العالم الإسلامي”، أو “ولي أمر المسلمين الجهان” [باللغة الفارسية].
عندما أتى آية الله روح الله خميني إلى السلطة عام 1979، أعلن أن القومية معاكسة للإسلام حيث قال: “تتعارض القومية مع الإسلام، وهي مصدر بؤس المسلمين. فالقوميون هم أسلحة الشيطان ويخدمون القوى الكبرى وهم أعداء القرآن”. ويطلق حكام الجمهورية الإسلامية على إيران مصطلح “أم القرى” في العالم الإسلامي، وهو المصطلح القرآني الذي استخدم لوصف “مكة” بأنها “أم كل المدن”. لذلك، عندما يطلقون على إيران مصطلح أم كل المدن، فهذا يعني أنهم يُعدّون أنفسهم زعماءً لجميع المسلمين وأن إيران هي عاصمة العالم الإسلامي. إن الأيديولوجية الإسلامية الداعمة لوحدة المسلمين هي مثل الشيوعية الدولية؛ فقد حددت هذه الأيديولوجية سياساتها وراء الحدود الوطنية وأضفت الشرعية على التدخل السياسي والعسكري في بلدان أخرى من أجل دعم المسلمين في مواجهة أعدائهم مثل “الإمبريالية الغربية” و”الإحتلال اليهودي لإسرائيل”.
الشيعة المعتدلون يتساءلون عن سبب عدم إظهار إيران أي رغبة في متابعة قضية إختفاء الإمام موسى الصدر
وقد انجذب العديد من المسلمين إلى هذا الخطاب الجديد العاطفي، ولكن سرعان ما أعقبت ذلك خيبة أمل. فعلى الرغم من أن دعم المجموعات الفلسطينية بالإضافة إلى المتطرفين الشيعة في لبنان وأماكن أخرى في المنطقة قد أصبح إحدى المكونات الرئيسة لسياسة إيران الخارجية، إلا أن هناك العديد من الأدلة على أن الدعم والتعاطف الإيراني لم يُقدما دون قيد أو شرط. [فعلى سبيل المثال]، كان الإمام موسى الصدر، الزعيم الشيعي المعتدل والكاريزماتي الذي كان رئيساً للطائفة الشيعية في لبنان — واستفاد من الدعم السياسي والمالي الذي قدمه الشاه إلى الشيعة اللبنانيين — قد تعرض للاختطاف من قبل الحكومة الليبية ثم اختفى في آب/أغسطس 1978. وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة التي تربط الجمهورية الإسلامية بالحكومة الليبية وقائدها، معمر القذافي، إلا أن الحكومة الإيرانية لم تبذل أي جهد لتحرير الصدر. وبعد مرور ثلاثة عقود على الحادث، لا يزال الشيعة المعتدلين ليس فقط في لبنان ولكن أيضاً في بلدان أخرى يتساءلون عن السبب الذي دفع إيران إلى عدم إظهار أي رغبة في متابعة قضية الصدر.
لقد أظهر وضع المسلمين السنة في إيران بأن ادعاء النظام بأنه يقود جميع المسلمين في العالم هو بدافع السياسة وليس بالعقيدة الدينية. فمنذ قيام الثورة الإسلامية، يعاني المسلمون السنة في إيران من التمييز المنهجي على مختلف المستويات. ويشكل السنة أكثر من 10 في المائة من السكان، وقد تعرض العديد من قادتهم للإعدام أو السجن دون مبرر قانوني. كما قامت الحكومة الإيرانية أيضاً بتدمير مدارس سنية في جنوب غرب إيران واعتقال معلمين. وقد حُرم المسلمون السنّة من أي مشاركة سياسية مهمة. ولا يُسمح لهم بتشييد أي مسجد في طهران، وذلك على الرغم من امتلاك المسيحيين واليهود لكنائس ومعابد.
وفي السياسة الخارجية، يدعي النظام الإيراني أنه يدعم الفلسطينيين لأنهم ببساطة مسلمون والمسلم لا يمكنه أن يصمت عندما يرى معاناة أخيه المسلم. وعلى الرغم من ذلك، دعمت إيران أرمينيا في النزاع الذي نشب مؤخراً بين أرمينيا المسيحية وأذربيجان المسلمة. وعندما اندلعت سلسلة من الإشتباكات العنيفة بين مسلمي اليوغور والشرطة الصينية في تموز/يوليو 2009، تلك الإشتباكات التي أدت إلى موت أكثر من 190 مسلماً، لم ترد جمهورية إيران الإسلامية مطلقاً على ذلك — لأن علاقة النظام مع الصين تتمتع بالأسبقية.
إن النهج المعادي للغرب الذي خلق أرضية مشتركة للإسلاميين واليساريين خلال الثورة، لا يزال عنصراً رئيساً من فن الخطابة العام للجمهورية الإسلامية. وبسبب كون إسرائيل حليفاً رئيسياً للغرب في الشرق الأوسط، فقد كانت هدفاً فورياً وجذاباً وفقاً لأسس “إسلامية” ومناهضة للرأسمالية. لقد دخلت إيران في نزاعات متكررة مع الدول العربية (بدءاً من الحرب بين إيران والعراق ومروراً بالجدل حول ثلاث جزر متنازع عليها [مع دولة الإمارات العربية المتحدة] وانتهاءً بالخلاف حول البحرين). وتنبع هذه النزاعات من [تاريخ دام] أربعة قرون من التنافس بين الممالك الإيرانية والدولة العثمانية. فقبل الثورة الإسلامية، حاول قادة إيران تغيير ميزان القوة لصالحهم من خلال الدخول في تحالف مع الغرب. وبعد الثورة، فقدت إيران دعم الغرب ورأت أنها مضطرة لإنشاء تحالف سياسي جديد مناهض للغرب لاستعادة هذا التوازن. وقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى اعتقاد قادة الجمهورية الإسلامية أن باستطاعتهم قيادة جبهة مناهضة للغرب وإسرائيل في المنطقة من خلال استخدام الفكر القومي الإسلامي وإضعاف الهوية الوطنية. إن العداء تجاه إسرائيل غير موجه إلى حد كبير من الدوافع الإسلامية بقدر ما هو موجه من الرغبة في السلطة.
ويرى كثير من نقاد التطرف الإسلامي أن كلاً من اليساريين المتطرفين والأصوليين الإسلاميين يتقاسمون مبدأ شيوعياً قديماً، وهو أن الغاية تبرر الوسيلة. ويعتقدون أن النهج الإيراني حيال القضية الفلسطينية هو نهج مبني على الذرائع بشكل كامل، وأن نجاح عملية السلام سيخلق مشكلة أساسية للجمهورية الإسلامية من خلال حرمان النظام من “عدو كبير” يمكن أن يُعزى إليه جميع الإخفاقات السياسية والإقتصادية ويمكن استخدامه لوصم خصوم النظام. فالجمهورية الإسلامية، لاسيما بعد مرور ثلاثة عقود على إنشائها، يمكنها بالكاد إيضاح سبب عدم تحقيق وعودها بجلب الرخاء الدنيوي لكل مواطن إيراني — أو تبرير إخفاقها في مقاومة ما تسميه بـ “الغزو الثقافي” للغرب. فالشباب الإيراني هو الشباب الأكثر قرباً إلى الغرب في منطقة الشرق الأوسط بعد الشباب في إسرائيل. لذلك، ليس لدى النظام الإسلامي أية قوة ناعمة للتأثير على المسلمين من خلال عرض نموذج بديل للثقافة أو الإقتصاد أو السياسة.
يعتقد القادة الإسلاميون أن هناك سبيلين فقط لكي تصبح [إيران] قوة عظمى في المنطقة: السبيل الأول هو الذي اختاره الشاه، والمتمثل في الدخول في تحالف مع الغرب وإسرائيل. والسبيل الآخر هو الذي اختاره الثوار الإيرانيون والمتمثل في إقامة تحالف إسلامي – ماركسي ضد الغرب وإسرائيل. وقد ثبت لدى معظم الإيرانيين أن السبيل الثاني قد كلف الكثير من الناحية الإقتصادية والدولية دون أن يحقق أي نجاح ملموس.
الإصلاحيون انتقدوا بلدية طهران لأنها خصّصت 3 مليون دولار لللبنان!
فبالنسبة للعديد من الإيرانيين، لاسيما جيل الشباب، لا يهم ما إذا كانت إسرائيل دولة جيدة أو شرعية: هم يريدون أن يقوم قادة إيران بوضع إيران قبل أي شيء آخر. ففي عام 2008 [على سبيل المثال]، خصص مجلس مدينة طهران 3 ملايين دولار أمريكي للمساعدة في إعمار لبنان. وقد تعرض ذلك القرار للنقد على نطاق واسع من قبل السياسيين الإصلاحيين ومن عامة الناس على حد سواء لأنه حرم طهران من الأموال التي كان يمكن تخصيصها لتلبية الإحتياجات الأكثر إلحاحاً، مثل التصدي لأزمة التلوث أو مشكلات النقل. ويقول المثل الإيراني “إذا احتاج المنزل إلى مصباح، فالمسجد لا يستحقه”. إن اهتمامات الشعب الإيراني، لا سيما الجيل الجديد، لا تنصب على فلسطين أو لبنان بل على مشكلات البلاد الإقتصادية الملموسة ودمج إيران في المجتمع الدولي.
ما هي الآفاق المستقبلية للعلاقات بين إيران وإسرائيل؟ لا يستطيع أحد التنبؤ بذلك على وجه اليقين. ولكن الشئ المؤكد هو أنه ما دام أن الشعب الإيراني لا ينظر إلى حكومته باعتبارها حكومة شرعية، فإن سياستها، بما في ذلك معارضتها لإسرائيل، لن يكون لها أية شرعية أيضاً. وقد استعاضت الجمهورية الإسلامية، حتى الآن، عن “المصالح الوطنية” للشعب الإيراني [بإدخالها نظرية] “تشخيص مصلحة النظام”، كما تم تعريفها من قبل المرشد الأعلى، الذي يعتبر نفسه حاكماً للعالم الإسلامي. وسيتم تحديد “المصالح الوطنية” في إيران الديمقراطية، عن طريق قيام إجماع بين الأحزاب السياسية الحرة والمجتمع المدني المنفتح وبمساعدة صحافة حرة.
إن علاقات إيران المعقدة مع الدول العربية سوف تلعب بالتأكيد دوراً هاماً في تشكيل سياسة حكومية جديدة تجاه إسرائيل. ولكن الجيل الإيراني الجديد يُظهر اهتماماً أكثر بمخاوف إيران الوطنية المباشرة من اهتمامه بالقضية الفلسطينية. إن ذلك يترك أملاً بأن تقوم حكومة إيران المستقبلية بدراسة الصراع العربي الإسرائيلي من خلال وجهة نظر “المصالح الوطنية” لإيران بدلاً من “النفعية” التي توجهها أيديولوجية النظام الحالي، وأن تعمل تلك الحكومة المستقبلية على عكس حالة العداء الحالية التي تتبعها إيران تجاه إسرائيل.
يمكن قراءة هذه الدراسة على موقع معهد واشنطن لدراسة الشرق الأدني تحت عنوان “أحلام خضراء”