(حتى نهاية القرن الثاني الهجري، القراءات القرآنية كانت تُكتَب بأحرف منفصلة وغير متصلة، ولا تحتوي على حركات أو تنقيط )
من السذاجة القول أن لغة القران الحالية كانت سائدة في صدر الإسلام، وأن العربَ في تلك الحقبة الزمنية كانوا يتحدثون العربية الفُصحَى كما عوّدتنا دائماً الافلام والمسلسلات العربية التاريخية كفيلم « الرسالة » او مسلسل (الفاروق)! وللأسف الشديد، الانطباعُ السائد لدى غالبية العرب، ان لم يكن جميعهم، هو أن اللغة العربية المعاصرة التي تُبَثُّ في الاذاعة والفضائيات، وتُقرأ في نشرات الأخبار والصحف اليومية، وتُستَخدم في الدوائر الحكومة والمدارس والجامعات وكتب الروايات والشعر هي اللغة التي كان يتحدثُ بها العرب في بدايات حقبة الرسالة وفترة الخلفاء الراشدين! وهذا اعتقاد خاطئ يفتقر الى الحكمة والبحث التاريخي المتعمق، لأن اللغة العربية الفُصحى الموحَّدة بقواعدها وبلاغتها لم تظهر فجأةً من العدم بقدرة قادر، بل كانت في مراحلها الأولى من الظهور والتأسيس، وقواعدها في الصرف والنحو ورسم الحروف وتشـكيلِها اكتملت على مدى فتره زمنيه جاوزت 200 عاماً بعد وفاة آخر الخلفاء الراشدين.
وهكذا هو الحال في جميع اللغات العالمية الأُخرى، هنالك تدرجٌ زمني لتطورها!
فاللغة الإنجليزية انحدرت من اللغة الجرمانية في القرن السابع الميلادي، ثم تطورت لاحقا وبشكل تدريجي حتى أخذت طابعها الحديث في عهد الملك هنري الخامس في بداية القرن الخامس عشر (ملك إنجلترا من 1413 حتى 1422).. وحتى لغة وكتابات شـكسبير المؤرخة في القرن السادس عشر أُدخل عليها تغيرات أساسية وجـذرية في الكتابة والقواعد واللفظ على مدى 500 عاماً حتى أخذت صورتها الحالية. وينطبق هذا على جميع اللغات العالمية كالفرنسية والاسبانية والألمانية، فتطورها واكتمال قواعدها استغرق العمل فيها أكثر من 1000 عام، واللغة العربية ليست استثناءً.
ما هي اللغات المُتعارَفة او المُتَداولة بين العرب في صدر الإسلام؟
للجواب على هذا السؤال، دعونا أولاً، ولو لوهلة، نتحرر من المقدس السائد.. والمتفق عليه والصحيح، ونتحدث بطريقة عقـلانية تاريخية علمية وليسَ عقائدية غيبية ايمانية! فنحن في القرن الحادي والعشرين.. العصر الذهبي لاكتشافات وإبداعات البحث العلمي وسرعة انتقال نُظُم المعلومات والأفكار. ونحن نملك، عبر « النت »، مصادرَ كثيرة للتحري والتدقيق.
لنسلط الضوء علي محطات تاريخية أساسية لتطوُّر اللغة العربية
1– التراث الشفهي؛ في معظم الأديان، سواءً المسـيحية واليهودية او الإسـلام, يتم نقل التراث الديني من خلال التاريخ الشفهي لقرون عدة. والتراثُ الشفهي يُعتَبر دائماً تراثاً متناقضاً وأحياناً معـكوساً .. لأنه يتذكر الأشياء التي يرغب بها، يمكن اعتبار جزء بسيط منها تاريخاً ولكن في معظمها ليست كذلك! ولأن الإسـلام ظهر في بقعة منعزلة من العالم، حيث العلم كان شـبهَ معدوم، ولم يكن هناك تدوين أو وسائل تدقيق، فقد تم إعادة سياق التاريخ الإسلامي وتشـكيله و تفسـيره خارج سياقه الأصلي بعد 200 سنة من وفاة الرسول، وبطريقة تخدم وقائع واحداث وتغيرات جديدة كانوا هم مهتمين بها.
2– لغة قريش: كانت اللغات المنتشرة بين عرب الجزيرة عبارة عن مجموعة من اللهجات العامية السائدة بين القبائل والمنحدرة أساساً من الآرامية.. وكان كل جزء او منطقة او حتى قبيلة في شبة الجزيرة له لهجته وطريقته في التواصل. فكانت هناك لغة « بني تميم » و لغة قبائل « قيس » ولغة « هذيل » ولغة « قريش » وكذلك اللغة « الحِميّريّة » في جنوب الجزيرة. والتاريخ الإسلامي او العربي يفـتقر الأدلة الى وجود أي لغة مُوحَّدة متعارف عليها عند العرب في الجزيرة كانت تُتَداوَل وتُسـتَخدم في المعاملات التجارية، كمواثيق البيع والشراء والعقود، او حتى بقايا عملات مكتوب عليها. يذهــب بعض المؤرخين إلى ان اللغة المتداولة في بدايات الاسلام في « مـكة » و« المدينة » كانت مزيجاً من اللهجات المشتقة من « الآرامية »، كـ« السريانية » ومشتقاتِها التي ما زالت مسـتخدمة في أجزاء من سـوريا ولبنان.. إضافةً الي اللغة العربية البدائية و المشتقة ايضاً من « الآرامية »! وهكذا كان الحال في باقي الأمم في ظل عدم وجود تعليم نظامي موحّد او مدرسي. اللغات تكون متداخلة وغير موحدة مثل حقبة « النورمان » في إنجلترا. كانت اللغة المستخدمة، وهي الأنجلو سكسونية، خليطاً من اللهجات الفرنسية والإنجليزية البدائية، ولهجات شمال أوروبا الإسكندنافية.
اذاً، لم يكن هناك كيان عربي مُوحَّد او لغة عربيه مُوحَّدة… بل لم تكن هناك أيُ محاولة لجمع اللهجات واللغات العربية المختلفة في شبه الجزيرة العربية وتوحيدها ضمن لغة واحدة نموذجية قياسية تُستخدم في القراءة والكتابة.. فالعلم كان محصورا لدرجه كبيرة عند العرب، ولم يتوفر بالأساس « لُغويون » او « لسانيون » (linguists) متخصصون في « علم النحو » و« البلاغة » لوضع وترتيب نظم وقواعد اللغة العربية.
3- الخليل بن احمد الفراهيدي:
كان الخليل ابن احمد الفراهيدي أول من حاول جمع اللهجات وجعلها موحدة وقياسية ( Standarization )، وجعلَ اللغة العربية لغةً كتابية بعد ان كانت كلامية وشـفهيه! وعملَ أول معجم عربي للكلمات والمفردات الشـائعة والمسـتخدمة في الحياة اليومية… سمّاه كتاب « معجم العين ». بدأ به الخليل وطلب من تلميذه « الليث بن المظفر الكناني » أن يكتب عنه بعد موته فى 173 هجرية……… وهكذا، عادةً تبدأ محاولة توحيد أي لغة عند « اللغويين » او اللسانيين ( philologists).. وذلك بعمل قاموس للمفردات (vocabularies)… ومن ثم قام تلاميذ الفراهيدي بتكملة كتبه في النغم والإيقاع والنقط والشكل والعروض في أوزان الشعر، وكذلك كتابه في معاني الحروف.
الأمر الأخر والذى كان ضرورياً بل محوريا لتوحيد اللغة العربية… نبوغ أحد تلامذة الفراهيدي، وهو عالم النحو « سـيبويه » و تأليفه كتاب « الكتاب » الذي بدأ في كتابته وهو في سن 22 فى 170 هجرية. و هو أول كتاب منهجي ينـسِّق ويدوِّن قواعد اللغة العربية.
قال الجاحـظ (توفي 255 هجرية)عن كتاب « سيبويه » أنه «لم يكتب الناسُ في النحو كتاباً مثله».
ولقد تحدثنا في مقالة سابقه عن (« موقف سيبويه والنُحاة من القراءات القرآنية »)
4- صناعة الورق في بغداد و دمشق ودورها في إعادة تشكيل وصياغة التاريخ الإسلامي
بدأت صناعة الورق في بغداد بافتتاح أول مصنع ورق عربي سنة 795م، نهاية القرن الهجري الثاني، وفي عصر هارون الرشـيد.. وأول من بدأ في تأليف الكتب ونشرها هم اليهود والمسيحيون بسبب امتلاكهم لإرث حضاري وتاريخي ضخم ومتنوع، مدوّن ومكتوب في مخطوطات مصنوعة من (ورق البردي)، إضافةً الي كتب عقائدية غاية في التنظيم والترتيب.. كـ« الكتاب المقدس » العِبري و أربعة أناجيل هي « متّى ».. « مرقس ».. « لوقا ».. و« يوحنا ».. مرفقة بقصص وأساطير خيالية ومسليةٌ عن الرب والانبياء والمعجزات. بالمقابل، لم يكن هناك أي إرث حضاري أو ثقافي للعرب والمسلمين؛ لا وجود لقرآن متكامل وموحَّد ومتفق عليه محفوظ بين جلدتين، ولا تفاصيل عن بدايات السيرة الذاتية لرسول الإسلام، ولا هوية تاريخية للإسلام، ولا معلومات او أدلة كاملة عن جذور هذا الدين.
في تلك الحقبة الزمنية، أعني القرن الثالث الهجري قام المسلمون بإعادة تركيب وتفصيل التاريخ الإسلامي. فقد هزموا الإمبراطورية الرومانية وحرموها من أغنى مناطقها، وسحقوا الإمبراطورية الفارسية، واحتلوا معظم الشرق الأوسط. وكان لا بد لهم من اختلاق وصنع تاريخٍ وأمجادٍ تتوج هذا الإنجاز المُذهل. وفعلاً، أعطوا صفحات بيضاء للمؤرخين والمفكرين والكتّاب، وكان اغلبهم من الفرس، وأمروهم بصـياغة وتدوين قصص ومآثر و بطولات واساطير، وتاريخ عريقٍ لهم.
بدليل ان مؤلفي « كتب الصحاح »، وجميعهم من الفرس، دُونت مخطوطاتهم في ٢٥٦ هجرية! و« نهج البلاغة » دُوِّنَ في 400 هجرية ونُسِبَ الى « علي بن أبي طالب » الذي توفي في 40 هجرية.. وهذا ينطبق علي جميع الكتب الإسلامية المعـروفة من « مـسانيد » و« سِـنن » وكتب رجال، جميعُها أُُلِّفَت في نفس المرحلة الزمنية!
وفي هذه المرحلة، بدأت المحاولات لتوحيد القراءات القرآنية لينافس « الكتاب المقدس » و« التـوراة » و« الأنـاجيل » الأربعة في القصص والاحكام والشرائع التي اقتُبِست اساساً من هذه الكتب مضافاً اليها المستجدات والاحداث والأحكام الإسلامية.
وهي المرحلة التي تَزَامَنَ فيها ايضاً تطور قواعد الصرف والنحو والبلاغة.
في الحلقة القادمة سوف نتحدث عن (مصحف صنعاء) كأقدم مصدر للتاريخ الإسلامي، وكذلك عن لُغز الشعر الجاهلي….