أصول الفلسفة العربية

0
المجل(نشر “الشفاف” المحاضرة التالية في ٦ أيلول/سبتمبر ٢٠٠٩، نقلاً عن موقع “معابر” السوري. ونعيد نشرها اليوم لأهميتها البالغة.

 (الصورة: لوحة “مدرسة أثينا” للإيطالي “رافاييل” الموجودة في الفاتيكان: الفيلسوف العربي “إبن رشد”، في يسار اللوحة، يضع يده على صدره ويحني رأسه ليقرأ ما يخطّه “أرسطو”)

*

اسمحوا لي أن أستهل هذه المحاضرة معرفًا بالكلمات التي استعملتُها في عنوانها، لعلِّي بذلك أتمكن من استجلاء مضمونها بعض الشيء.

بادئ ذي بدء، ماذا ينبغي لنا أن نستشف من كلمة أصول؟ لعل الأصح بالعربية أن نتكلم على نَسَب الفلسفة العربية أو نسبتها بدلاً من الكلام على “أصولها” المفترَضة. فبـ”نَسَب” الفلسفة العربية أعني بالفعل معرفة أسلاف هذه الفلسفة الذين كان الفلاسفة العرب أنفسهم يطلقون عليهم تسمية “القدماء من اليونانيين” أو “القدماء” وحسب، بمعنى الأسلاف. وأسارع إلى لفت أنظاركم إلى أن هذه الإشارة تلميح من العرب إلى أنهم كانوا يعدُّون أنفسهم بمثابة “ورثة” هؤلاء الأسلاف الإغريق أو “أخلافهم”، إذا جاز لي القول؛ وبعبارة أخرى، كانوا يجاهرون بصحيح انتسابهم شرعًا إلى العقل اليوناني. ففي العصر الذي نحن بصدده ما كان لأحد أن يطلق تسمية “أجداد” أو “أسلاف” على أناس مختلَف على ميراثهم أو مشكوك فيه.

وبـ”نَسَب” الفلسفة العربية أعني، من ناحية أخرى، كيفيات انتقال معرفة الإغريق إلى العرب: ما هي المسالك التاريخية والجغرافية التي وصلت بواسطتها علوم الإغريق إلى العالم العربي؟ ومَن هم الأفراد أو، عند الاقتضاء، ما هي المؤسسات التي تُرجِمَتْ بواسطتها الفلسفةُ المكتوبةُ باليونانية إلى اللسان العربي؟ هذان سؤالان جوهريان لا مناص من الإجابة عنهما إذا ما شئنا أن نتبين ما كانت عليه الفلسفة العربية، في بواكيرها على الأقل.

هناك نقطة ثانية لا بدَّ من توضيحها في العنوان: ما المقصود بـ”الفلسفة العربية”؟ حتى يُفهَم معنى هذا السؤال يجب التمعن في كلمة فلسفة. وبما أنه لا يوجد لدينا بعدُ معجم تاريخي للِّسان العربي، لا أستطيع أن أحدد تاريخًا دقيقًا لظهور مفردة فلسفة، لكن بوسعنا أن نرجِّح ظهورها بدءًا من القرن الثاني للهجرة (القرن الثامن للميلاد). مهما يكن من أمر، فالمؤكد أن كلمة فلسفة تعريب للكلمة اليونانية philosophia. غير أن التعريب يختلف عن الترجمة، ومن شأن هذه المسألة اللسانية أن تذكِّرنا بأنه لم يكن في الثقافة العربية أصلاً ما يكافئ الفلسفة اليونانية، وهو سبب استشعار العرب الحاجة إلى تعريب الكلمة اليونانية مباشرة، لكنْ في صورة تشي بأصلها اليوناني، بحيث يكون بالإمكان تبيان هذا الأصل عند الاقتضاء، كما فعل أبو نصر الفارابي، كبير فلاسفة القرن الرابع للهجرة، على سبيل المثال، بادئًا بالإشارة، كما فعلتُ لتوِّي، إلى أن “اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية”، على حدِّ قوله. وهذا بالضبط ما أخذه على الفلسفة جميعُ خصومها حتى القرن الرابع عشر على الأقل: هي “دخيلة” على اللسان العربي بوصفه لغة القرآن، وبالتالي، “دخيلة” على الوحي نفسه.

والحال، فقد كان بوسع العرب أن يترجموا كلمة philosophia اليونانية ولا يكتفوا بتعريبها إلى فلسفة. لا ريب أن ثمة محاولات لترجمتها، بدءًا قطعًا بكلمة “حكمة”، لا بل “حكمة إلهية”. لذا لا مناص، توضيحًا للأمور ودرءًا للالتباسات الممكنة بقدر المستطاع، من تدقيق فوري لمعنى كلمة فلسفة وتبيان ما يميزها من مصطلح الحكمة الإلهية. فالفلسفة كانت بنظر جمهور أكابر الفلاسفة الناطقين بالعربية (الكندي، الفارابي، فلاسفة “مدرسة بغداد”، ابن سينا، ابن ميمون، ابن باجة، ابن رشد)، قبل كل شيء، نهجًا يقوم على قواعد في البرهان شديدة الصرامة، قواعد وضع صيغتها النهائية أرسطاطاليس (أرسطو)، تلميذ أفلاطون. بعبارة أخرى، لم تكن الفلسفة، في مقدماتها على الأقل، تمت بصلة إلى حكمة مستعلية، يشير إليها مصطلح الحكمة الإلهية إشارة صريحة. لذا تقتضيني الأمانةُ على فكرهم وتدقيقُ موضوع محاضرتي ألا أتكلم على الحكمة الإلهية، بل على ذلك النهج العقلاني المأثور عن أرسطو فحسب.

كما أن هناك نقطة أخيرة لا بدَّ من توضيحها في عنوان هذه المحاضرة: لِمَ الكلام على “فلسفة عربية”، وليس على “فلسفة إسلامية”، حسبما درج عليه الاستعمالُ اليوم؟ السبب الأول – وهو السبب الأجلى أيضًا – هو أن الفلاسفة لم يكونوا جميعًا مسلمين، بل هيهات: فبين وجهائهم كان هناك أيضًا يهود ومسيحيون كتبوا بالعربية، ناهيكم عن الوثنية منهم، مثل ثابت بن قرة، وعن منكري الوحي، مثل أبي زكريا الرازي، وعن المشككين، مثل ابن الراوندي. فحتى يشملهم المصطلحُ الذي يشار به إلى النشاط العقلي الذي زاولوه جميعًا، لا بدَّ لهذا المصطلح من أن يجتنب التلون المِلِّي، حتى إذا كان من البديهي أن جميع هؤلاء الفلاسفة عاشوا في مجتمع إسلامي جزمًا.

إلى هذا السبب الأول لاجتناب مصطلح فلسفة إسلامية يضاف سببٌ ثانٍ لا يقل عنه وجاهة من حيث المضمون: حين كان المسلمون واليهود والمسيحيون والصابئة وغيرهم يشتغلون بالفلسفة فإنهم لم يفعلوا ذلك أصلاً لتأويل القرآن أو التوراة أو العهد الجديد، بل فعلوه سعيًا منهم في تعيين ما يتيسر للبشر أن يفهموه بخصوص العالم والإنسان. بذا، كانت منطلقاتهم المشتركة، نظريًّا على الأقل، عناصر معرفية يقبلها كل إنسان، ألا وهي معطيات العقل البشري، دون التماس أي وحي بعينه. وإذا أجزت لنفسي الإصرار على هذه النقطة فلأن الفلاسفة الذين أحدثكم عنهم اتخذوها عقيدة، إذا جاز القول، وكانوا جميعًا، أو أغلبهم، يستنكرون فكرة الانطلاق من أشياء أخرى غير معطيات العقل، كما فعل مثلاً في الإسكندرية، في القرن السادس، المسيحي يوحنا فيلوپونس، المعروف بالعربية باسم يحيى النحوي، الذي أجمع جمهور فلاسفتنا، أو كادوا يُجمعون، على السخرية منه بوصفه “الأسوة السيئة” التي يجب الحرص على عدم التأسي بها! فبالفعل، كان يوحنا فيلوپونس قد ارتكب في نظرهم خطيئة لا تُغتفر، حينما عارض أرسطو باسم الاعتقاد (المشترك، إلى ذلك، بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة) بخلق العالم؛ إذ إن معارضة أرسطو على هذا النحو كانت برأيهم معارضةً للعقل بالذات، باسم اللاعقلاني في أسوأ الأحوال، وفي أحسنها، باسم لغة شاعرية غير متماسكة من حيث الأساس.

زبدة القول إن الفلاسفة كانوا يميزون تمييزًا قاطعًا بين الفلسفة والدين تمييزَهم بين منطلقات كلٍّ منهما: إما معطيات العقل فيما يخص الفلسفة، وإما معطيات الوحي فيما يخص علم الكلام. فالخلط بين المقدمات والمنهجيات الخاصة بكلٍّ من هذين النهجين يقود لا محالة، على حدِّ رأيهم، إلى خراب الفلسفة كنهج مستقل؛ إذ إن استقلالية الفلسفة والعقل – وهذه نقطة على غاية من الأهمية – كانا العماد الأساس الذي يقوم عليه طلبُهم العلم، في مواجهة نظيره عند المتكلمين الذين كانوا يقصدون بـ”العلم” شيئًا مختلفًا كل الاختلاف. وبعيدًا عن أية مفارقة منطقية، لا نجد هذه الصرامة المنهجية فقط عند المناطقة من ذوي المراس الصعب، كأبي نصر الفارابي، لكننا نجدها أيضًا عند اللاهوتيين من الفلاسفة، مثل المسيحي يحيى بن عدي واليهودي موسى بن ميمون.

ثمة قطعًا طيف كامل من التلاوين لا بدَّ من إضافته إلى هذه اللوحة، لأنني لا أنتوي اختزال تاريخ الفلسفة العربية إلى تعارُض لا يلين بين أنصار العقل الأرسطي وبين فقهاء الدين. بيد أنه لا مندوحة لنا من الانطلاق من هذا الإطار المفهومي – من هذه “المواجهة”، إذا شئتم – حتى نفهم الظاهرة الثقافية التي هي قوام “الفلسفة العربية”.

أما وقد قيل ذلك، فإن مصطلح فلسفة عربية حتى هو في الواقع من أردأ ما يكون، لأن أغلب الفلاسفة الذين أتيت على ذكر أسمائهم لم يكونوا، كما تعلمون، من غير العرب وحسب، بل كتبوا أحيانًا في ألسُن غير اللسان العربي، كثابت بن قرة الذي كتب بالسريانية أو ابن سينا الذي كتب بالفارسية، على سبيل المثال لا الحصر. لذا فإن مصطلح “فلسفة عربية”، مأخوذًا على الإجمال، هو من قبيل التقريب ليس إلا. فحتى نتقيد بالصرامة التامة، ينبغي لنا أن نضيف إلى كلمة “فلسفة” صفة مستقاة من رجوعهم المشترك إلى أرسطو وأن نتكلم على الفلسفة الأرسطية أو المشائية باللسان العربي، مؤجلين التعريف الدقيق بـ”أرسطية” كلٍّ منهم على حدة. أيًّا ما كان الأمر، فإني مكلِّمكم على أصول هذه الفلسفة بعينها.

* * *

 

لا بدَّ أنكم استنتجتم أنه يجب الرجوع إلى أرسطو نفسه، أو بالأحرى، إلى تكوين بنيان النصوص الأرسطية لمعرفة ما ورثه العرب بالضبط. لقد استقر هذا البنيان على الصورة التي وصلتنا تقريبًا بفضل رجل يدعى أندرونيقوس الرودي، الخليفة الحادي عشر على رأس المدرسة المؤسَّسة في أثينا، أخذ على عاتقه ترتيب المقالات ونَشَرَها للمرة الأولى قبل حلول العصر المسيحي بعدة عقود، بعد زهاء 250 عامًا على موت أرسطو. ولقد كابدت هذه النصوص قبل نشرها للمرة الأولى، كما ونصوص تلميذه الأول ثاوفرسطس، حوادث من قبيل الخيال. فقد حُفِظَتْ في الواقع مدفونةً تحت تَلْعة طوال زهاء قرن، بين أواسط القرن الثالث والنصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك اجتنابًا لمصادرتها. فالأسرة التي ورثتْها والتي لم تستفد منها البتة، اللهم إلا الحَجْر عليها، أرادت من ذلك بالفعل الحيلولة بينها وبين أسرة پرغامون (حاضرة توجد أطلالها اليوم في منطقة إزمير في تركيا) المَلَكية التي كانت تسعى آنذاك في اقتناء مكتبة. فإذا صح وجود “عناية ربانية” ترعى الفلاسفة يبدو أنها تدخلت في تلك اللحظة من التاريخ بالذات تدخلاً محسوسًا. وإننا بالفعل لنتساءل عَرَضًا عما كان سيؤول إليه التاريخ الفكري للبحر متوسط وأوروبا لولا هذا الاكتشاف!

أخذت نصوص أرسطو فور نشرها، كما هو متوقع، تغذي النظر العقلي لمفكري المدرسة الأرسطية، ولاسيما الإسكندر الأفروديسي، الوارد ذكره مرارًا في المصادر العربية، وكذلك، بصفة عامة، جملة النظر الفلسفي في العالم اليوناني. والأمر الذي يهمُّنا بالأكثر من منظار ظهور الفلسفة العربية هو ما جرى بعدئذٍ. فمنذ القرن الثالث الميلادي، ضُمِّنَ بنيانُ النصوص الأرسطية، وبالأخص المقالات في المنطق، في برنامج لدراسة الفلسفة على شوطين: كان الشوط الأول عبارة عن دراسة مصنفات أرسطو، بدءًا بالضبط من المقالات في المنطق؛ أما الشوط الثاني، الذي لم يكن أرسطو غير مدخل إليه، فكان عبارة عن دراسة كتب أفلاطون. والمدرسة التي وُضِعَ لها هذا البرنامجُ الدراسيُّ سميت بعد ذلك بوقت طويل بالمدرسة الأفلاطونية المُحدَثة التي كان مؤسِّسها، أو مؤسِّساها بالأصح، فيلسوفين متنافسين، وكلاهما، إلى ذلك، سوري الأصل: كان الأول يدعى فرفيريوس الصوري، وقد عاش، فيما نعلم، بين العامين 234 و305؛ أما الثاني، يمليخا الأفامي، فقد عاش بين العامين 230 و330 قادمًا من قنَّسرين، الواقعة حاليًّا في لبنان، كما برهن على ذلك برهانًا حاسمًا زميلُنا جوليان أليكو، النزيل العلمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى.

كلا هذين الفيلسوفين مذكور في المصادر العربية. وقد كتب أولهما مقالة ممهِّدة لمنطق أرسطو، درسها العرب وعلقوا الشروح عليها حتى القرن السابع عشر على الأقل، سواء مباشرةً، اعتبارًا من ترجمتها العربية، أو على نحو غير مباشر، اعتبارًا من الخلاصة التي وضعها الأبهاري في القرن الثالث عشر للشرح الذي وضعه ابن سينا بنفسه على هذا النص.

* * *

 

كانت للمدرسة الأفلاطونية المُحدَثة خصائص عدة يجدر بنا أن نسلط عليها انتباهنا. أولى هذه الخصائص من حيث الأهمية (مع أن أهل الاختصاص حتى كثيرًا ما يمرون بها مرور الكرام) هو أن برنامج هذه المدرسة كان يتخطى بكثير إطار الفلسفة البحتة. فالأمر كان بالفعل في ذهن فرفيريوس، وأكثر منه في ذهن يمليخا ومريديه، عبارة عن تأليف رصين ومنهجي بين فلسفة أفلاطون وبين جوانب التراث اليوناني كافة منذ هوميروس: فالأديان والروحانيات والأدب والشعر والفلسفة والعلوم والفنون وسائر مكوِّنات الثقافة اليونانية كانت مدعوة إلى الائتلاف في كنف أفلاطون وفيثاغورث في سبيل نَظْم ردٍّ متسق على الدين الحديث الظهور والوقوف صفًّا واحدًا أمامه، ذلك الدين الذي كان يزعم تارةً بأنه فلسفة الكلمة Logos الإلهي نفسه، وطورًا يندِّد بالمماحكات الهلينية – وبهذا الدين نعني المسيحية طبعًا.

عديدون هم أعضاء المدرسة الأفلاطونية المُحدَثة، من فرفيريوس حتى أواخر ممثليها في القرن السادس، ولاسيما من مدرسة أثينا، ممَّن اشتهروا بمعارضتهم العنيدة لهذا الدين الذي كان بنظرهم صيغة محرَّفة، شعبية وفظة، للعلم اليوناني الذي كانوا يعدون أنفسهم وحدهم ممثِّليه الشرعيين.

فهل هذه الصيغة للتراث اليوناني بعينها هي التي ورثها العرب؟ نعم ولا، كما سنرى.

الخاصية الثانية لهذه المدرسة، أو لفرعها المستقر في الإسكندرية على الأقل، هي أن التشديد فيها، على ما يبدو، كان على تأويل مقالات أرسطو، وبالأخص على مقالاته في المنطق. وهذه النقطة تتيح الإصرار على عامل كان حاسمًا للشكل الذي اتخذته الفلسفة في القرون التالية، عند العرب وعند اللاتين على حدٍّ سواء.

كان الشرح الاتباعي على النصوص الفلسفية هو النشاط الفكري المفضل عند الفلاسفة منذ القرن الأول قبل الميلاد، وليس الإبداع المذهبي الحر، يقوم له أفرادٌ يعتبرون أنفسهم خالصين من ديون سابقيهم، كما قد يُظن؛ فالوفاء للقدماء – أفلاطون وأرسطو – كان على العكس القاعدة الذهبية المعمول بها، بحيث كان التفكر يجري انطلاقًا من معطيات موجودة سلفًا من أجل الكشف عن معانيها، وذلك من غير الحياد عن مقاصد المؤسِّسَين الأصلية. ولعلكم ستلحظون معي أن الاشتغال بالفلسفة كان بذلك أقرب إلى الهيكلية التي نجدها في فقه “أديان الكتاب”.

النتيجة الأولى لهذا النشاط التفسيري كانت ترتيب مذاهب الأقدمين وتنسيقها على نظام معين أغلب الظن أن أفلاطون وأرسطو لم يجتهدا في تقعيدها وتنسيقها على هذا النحو. مهما يكن من أمر، فقد درجت العادة منذ ذلك العصر على تصور النشاط العقلي كمجرد تفسير حرفي لبنيان النصوص كما قيَّدها على صورتها النهائية، فيما كان يُظن، المؤسِّسان الكبيران. ولقد ظل أساتذة مدرسة الإسكندرية ورثة هذه الممارسة حتى القرن السادس، لكن أعضاءها، أكثر من أعضاء أية مدرسة أخرى، قيَّدوا جميع قواعدها وأشواطها وتفاصيلها، بحيث طوَّعوا العلم للتعليم وأضفوا بذلك أكثر ما يمكن من الاتساق على برنامج التحصيل الذي كلمتكم عليه لتوِّي، فصارت معهم الفلسفةُ حقيقةً تعليمًا مخصصًا للطلاب، غايتها التأهيل على قواعد المعرفة العقلانية التي وضعها أرسطو قبل نحو عشرة قرون. وهذا كله، كما ستلحظون معي، موافق للمثال الإغريقي الذي كان يطلق تسمية “جامعة” universitas على مجموع مدارس الفلسفة في أثينا.

ها قد صرنا الآن في صلب المكوِّنين الرئيسين لما أضحى “الفلسفة العربية” فيما بعد: فعن مدرسة أثينا ورث الفلاسفة العرب، في جملة ما ورثوا، فكرة أن الفلسفة مسعى عقلي وروحي في آنٍ معًا، وبالتالي، مالوا إلى اعتبارها دينًا مستقلاً، دينًا للخاصة من أهل العقل؛ وعن مدرسة الإسكندرية تعلموا كل شيء تقريبًا عن الفلسفة نفسها، أي أرسطو والشروح على مقالاته وفنون التأويل والشرح جميعًا. بيد أن هذه الشروح الإسكندرانية كانت قد تلقفت نتائج نشاط تأويلي يعود، كما رأينا، إلى القرن الأول قبل الميلاد؛ وهذا يعني أن المادة المفاهيمية المتراكمة كانت مما لا يُستهان به. وما تبقَّى من الفلسفة بحصر المعنى مما انتقل إلى العالم العربي إما ضُمِّن، بصورة أو بأخرى، تضمينًا متناغمًا في مخطط العلوم وفي الهيكلية التعليمية للعلم الموروث عن أساتذة الفلسفة في مدرسة الإسكندرية، وإما أقحِم فيه قسرًا؛ وهذان – كلا الهيكلية والمخطط – ظلا مثالاً علميًّا وقدوة في الصرامة المنهجية يُحذى حذوُهما طوال الفترة التي دام فيها الانصراف إلى شرح أرسطو، أي حتى القرن الثاني عشر الميلادي.

* * *

 

أما وقد بانت لنا الخطوط الكبرى لما انتقل إلى العالم العربي، يجدر بنا أن نتبيَّن طُرُق انتقال هذا الإرث اليوناني وكيفياته.

أما طُرُق هذا الانتقال فأرى له، من جانبي، طريقين اثنين: أولهما – وهو الذي نعرف عنه بعض الشيء، وسوف أتكلم عليه على الفور – طريق أوساط أرباب الأدب والدين السريان أو السوريين؛ والثاني – وهو الذي نكاد لا نعرف عنه شيئًا والذي يدور حوله سجالٌ بين أهل الاختصاص – هو طريق أوساط صابئة مدينة حرَّان الواقعة شمال بلاد الرافدين، شمال حلب وشرقها على الجانب التركي من الحدود الحالية.

إن أخذ العالم العربي للفلسفة اليونانية لم يتم مباشرة عن الإغريق الوثنيين قطعًا لأن هؤلاء، كما هو معلوم، كانوا في القرن الثاني الهجري قد اندثروا منذ قرن على الأقل. إلى ذلك، فإن هذا النقل لعلوم الإغريق إلى الشرق بدأ في وقت لم تكن الإمبراطورية العربية الإسلامية موجودة بعدُ بوصفها كذلك. فكان لا بدَّ من وجود وسيط رئيس، وهذا الوسيط هو العالم الناطق بالسريانية متمثلاً، والحال هذه، إما بأفراد من رجال الدين على الأغلب، وإما بأعلام علمانيين مرموقين، منهم سرجيوس (سركيس) الراشعيني الذي سأقول فيه بضع كلمات لأنه يقدم لنا مَعْلَمًا تاريخيًّا وجغرافيًّا منورًا.

تبوأ سركيس رئاسة الطب في مدينة من شمال سورية واقعة عند منابع الخابور، ونحن لا نعرف إلا تاريخ وفاته في العام 536 م. وما نعرفه عن حياته العلمية يجيز لنا أن نتعرف في شخصه إلى واحد من ممثلي التيار الفكري الذي كان يرى في المسيحية فلسفةً ودينَ وحي على حدٍّ سواء. فهو بالفعل ناقل ديونيسوس الأريوپاغي الذي تأثرتْ كتاباتُه بالأفلاطونية المُحدَثة تأثرًا جمًّا؛ ويقال فيه أيضًا إنه كان قارئًا متبحرًا في أوريجينس، عالِم اللاهوت المسيحي الذي نشط في القرن الثالث للميلاد وكان مقربًا جدًّا، من حيث العديد من المباحث، من الفلسفة الأفلاطونية. إلى ذلك، عُرفتْ عن سركيس ترجماتُه إلى السريانية لثلاثين مقالة من مقالات الطبيب الإغريقي جالينوس (131-201 م). وأغلب الظن أنه حصَّل علمه في هذا المجال حتى أتقنه في الإسكندرية؛ وفي مدرسة الإسكندرية الأفلاطونية المُحدَثة تابع تحصيله للفلسفة، مطَّلعًا بالأخص على كتاب المقولات لأرسطو، الذي كان المدخل إلى تحصيل المنطق والمدخل إلى الفلسفة عمومًا.

كان سركيس ممثلاً لانفتاح العالم السرياني على التأثير اليوناني ولاستقلالية الفكر التي كانت تسري فيه منذ القرن الرابع. وبالفعل، فإنه اعتبارًا من القرن الرابع، وبمقدار ما كانت المسيحية السريانية تزداد ثقة بنفسها ويقل شعورها بخطر الوثنية التي كانت آيلة إلى الانحطاط، راح الموقف المناوئ للهلينية سابقًا ينقلب إلى مودة عقلية متعاظمة؛ وبذلك انتقل القوم، حتى القرن السابع، وفيما يتعداه، حتى القرن الثالث عشر، من موقف النابذ للميراث اليوناني ولمثاله في التأهيل العقلي paideia إلى موقف تبنِّيهما المتحمس. فبنظر سركيس، باتت ترجمة المصنفات اليونانية وتأليف المقالات الفلسفية يصبان في مطمح واحد، ألا وهو استملاك المعرفة العلمية والفلسفية الهلينية.

وفي صورة أعم، تكاثرت بؤر الثقافة اليونانية أو اليونانية-السريانية في العالم السرياني إبان القرن الخامس. بذا حافظت مدارس علم اللاهوت في الرها ونصيبين وطيسفون سلوقية وحرَّان على تعليم النحو وعلم البيان بوصفهما لازمين لتحصيل اللاهوت؛ وكانت الأديرة مراكز لترجمة علوم الإغريق وتعليمها أيضًا، فكان دير قنَّسرين على الفرات ودير مار متى قرب الموصل، على سبيل المثال، ذائعَي الصيت في القرنين السابع والثامن.

وبين الأعلام الكبار الذين وسموا بسِمَتهم نقل الآداب العلمية اليونانية إلى السريانية، وبالأخص ترجمة أرسطو وتأويله، لا بدَّ من ذكر الأسماء التالية: پروبا (القرن السادس)، بولس الفارسي (القرن السادس)، ثاودوروس من كرخ جُدَّان، الذي كان صديقًا وزميلاً لسركيس الراشعيني، سويرس النصيبيني (السبختي، ت 667 م)، أطناس (أثناسيوس) البلذي (ت 686 م)، جرجيس العرب أو أمة العرب (القرن السابع)، يعقوب الرهاوي (ت 709 م)، ثاوفيلس الرهاوي (ت 791 م).

ويبدو أن هؤلاء المصنِّفين اطلعوا من الشروح الإسكندرانية الكبرى على منطق أرسطو، وخصوصًا الشروح على كتب المقولات والعبارة De interpretatione والتحاليل الأولى، غير أنهم لم ينهضوا لترجمتها، بل اكتفوا بالاستفادة منها. كما يبدو أنهم كانوا مطلعين أيضًا على كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، غير أنهم، في المقابل، لم يطلعوا على ما يبدو على مقالات أرسطو في الطبيعيات والأخلاق.

خلاصة القول إن في إمكاننا أن نميز في عملهم جميعًا سمة بارزة، ألا وهي الأهمية التي أوْلوها للمنهجية وللقواعد الأرسطية في التعقل، حيث أجمعوا على الاعتراف بمكانة أرسطو أستاذًا بلا منازع للمعرفة العلمية والمنطق، كما ولمنهجية هذه المعرفة، أيًّا كان العلم المعتبَر.

بذا فإن هذا الرأي وخيارات القراءة المتفرعة عنه كانت إرهاصات لحركة الترجمة الكبرى إلى العربية التي بدأت في القرن الثامن. وإذن فإن الفلسفة العربية ليست مدينة للسريان وحدهم بالمحاولة الأولى لتطويع مصطلحات الفلسفة اليونانية للغات الساميَّة، بل هي مدينة أيضًا لخيار حاسم يتعلق بأساس الاجتهاد الفلسفي، وهو خيار عاد العرب وأخذوا به، فجددوه وأضفوا عليه بُعدًا لا يقارَن بكل ما عُمِل قبلئذٍ. وبعبارة واحدة، صار أرسطو حقيقةً “المعلم الأول” للفلاسفة العرب، مثلما بدأ بإصابة هذه المكانة عند السريان.

قبل أن أتناول ما سُمي عن حق بـ”النقل التحصيلي” translatio studiorum (وهو مصطلح لاتيني المقصود منه أن النصوص ليست وحدها ما يُنقَل، بل منهج قراءتها وتأويلها أيضًا)؛ قبل أن أتطرق إلى ذلك، أقول، لا بدَّ لي أيضًا من قول كلمة في الطريق الثاني التي وصل العلم اليوناني بواسطته إلى العالم العربي.

في العام 529 أو 530 للميلاد – مازال أهل الاختصاص مختلفين على التاريخ -، أغلِقَتْ مدرسةُ أثينا الأفلاطونية المُحدَثة على أثر إبرام فرمان إمبراطوري يحرِّم على جميع سكان أثينا – وثنيين ومسيحيين – تعليم الفلسفة في هذه المدينة؛ الأمر الذي اضطر أساتذة المدرسة – وجميعهم من الوثنيين المناضلين، ونصفهم سوري الأصل – إلى اتخاذ طريق المنفى. ونحن نعلم أنهم لجأوا إذ ذاك إلى طيسفون، حيث بلاط كسرى الأول أنوشروان الذي حكم بين العامين 531 و578 بعد الميلاد. غير أنهم لم يلبثوا هناك إلا سنة أو سنتين على الأكثر وعادوا إلى ديار الروم، من غير أن نستطيع البت في المكان الذي استقروا فيه يومذاك. وإني لأعفيكم من سماع تفصيل الأسباب، الممل بعض الشيء، التي تحملني على الظن بأن واحدًا منهم على الأقل ألقى عصا الترحال في ديار مضر، في حرَّان تحديدًا، وهي مدينة كانت تجتمع فيها ميزتان على الأقل: كانت داخلة ضمن حدود الدولة الساسانية وغير بعيدة عن حدود الدولة البيزنطية. حسبي أن ألحظ أن تلك المدينة شهدت قطعًا ازدهار معرفة نقلية وثنية حتى القرن الرابع للهجرة (القرن العاشر للميلاد). بذا فإن عوامل بعينها، وبالأخص الأهمية التي يبدو أن دراسة الرياضيات احتفظت بها، ترجِّح أن الفلسفة اليونانية الأثينية الأخيرة قد خلَّفتْ ذرية في حرَّان[1]. أيًّا ما كان الأمر، فقد كان في مقدور الفيلسوف والرياضي ثابت بن قرة، الصابئي الحرَّاني الأصل والعالم الذي لا يضارع باليونانية وآدابها، أن يظل، في عزِّ القرن العاشر، على ثنائه للفكر الوثني، العلمي منه والديني، الذي كان في نظره منبع جميع الخيرات التي أنعِمَ بها على البشر منذ فجر الأزمان؛ ثناء كان – ويجدر التنويه بذلك – مبطَّنًا بنقد مباشر للمسيحية، بالضبط على غرار الخطابات المعادية للمسيحية للمأثور الأثيني الأفلاطوني المُحدَث. إلى ذلك أضيف أن هذا الثناء على الوثنية والانتصار لها في القرن التاسع يُنسَب إلى رجل عاش في بغداد في العصر العباسي.

* * *

 

لنأتِ الآن إلى حركة الترجمة الكبرى التي مكنت من ظهور ثقافة عالمة عربية حصرًا وتمخضت عنها حياةٌ عقليةٌ فيها من العزم والغنى ما يستحق الكثير من الإعجاب.

لن أولي اهتمامي طبعًا إلا للفلسفة ولمترجميها، لكنْ لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه الحركة الواسعة تخص جميع العلوم اليونانية أيضًا: الطب والرياضيات، ومنها الجومطريقى (الهندسة) والأرثماطيقى (الحساب) وعلم الفلك والموسيقى؛ وكذلك البصريات والفلاحة (الزراعة) وعلم الحيل (الميكانيكا). لقد كان جانب من هذه العلوم، إلى ذلك، جزءًا لا يتجزأ من برنامج تحصيل الفلسفة نفسها، ولاسيما الرياضيات التي كانت، إلى جانب علوم أخرى، تفيد تعليمًا ممهِّدًا لدراسة الفلسفة بحصر المعنى.

لقد تواصلت الحركة الأولى لترجمة الأعمال اليونانية إلى السريانية – تلك الحركة التي قادتنا حتى أواخر القرن السابع – إبان القرن العاشر، بعد عدد من الصدامات والتخلفات الناجمة عن الفتوحات الإسلامية، لكنها لم تبلغ تلك السعة التي وصفتُها لتوِّي إلا في القرن التاسع، قبل أن تتوقف نهائيًّا في القرن العاشر – هذا فيما يخص الإطار الزمني.

إن أقدم ترجمة لكتاب من كتب أرسطو إلى العربية تشي، أولاً، بما كان مأمولاً في البداية من الفلسفة اليونانية، ثم بالسياق التاريخي لاستقبالها الأول. والترجمة التي نحن بصددها هي ترجمة الطوپيقى، وهي مقالات يستعرض فيها أرسطو ويعرِّف بشروط الجدل أو بمختلف الأشكال التي يمكن للحِجاج الفلسفي أن يتخذها، وبعبارة واحدة، ما عُرف بالعربية بـصناعة الجدل. وهذه الترجمة تعود إلى العام 782، ويقال إن الخليفة العباسي المهدي (ت 785) عهد بها إلى الجاثليق (الأسقف) النسطوري طيماثاوس الأول الذي قام بنفسه بترجمة سريانية للمقالات عن اليونانية، ثم نقلها إلى العربية آنذاك صديقٌ له يدعى أبا نوح.

إن استعمال المسيحيين لهذا النص أصلاً في مناظراتهم مع المسلمين – حول التثليث، مثلاً لا حصرًا – هو ما يفسِّر اختيار المسلمين نصًّا أقل ما يقال فيه إنه يشق على الترجمة، إذ كان ينبغي لهم أن يردوا على أسئلة مناظريهم المحرجة مستعملين الأسلحة الديالكتيكية نفسها؛ وهذا ما يسوغ الترجمة السريانية الجديدة، فالعربية، لمقالة كانت نسخة سريانية أخرى منها متوفرة منذ القرن السابع. وبوسعنا إبداء الملاحظات نفسها في خصوص مقالة أرسطو الثانية التي تُرجمت إلى العربية في الثلث الأول من القرن التاسع، ألا وهي السوفسطيقى أو الخطابة، حيث نجد وصفًا لمختلف أنماط السفسطة المستدَل عليها في كلام أحد المحاورين وسُبُل تفنيدها. وهاتان الترجمتان معاصرتان للمناظرات الدينية بين المسيحيين والمسلمين التي كان أرسطو يقوم فيها مقام الحَكَم غير المتحيز، إذا جاز التعبير.

* * *

 

تسنَّمت حركة الترجمة ذروتها في القرن التاسع مع أسرة حنين بن اسحق: الأب حنين وابنه اسحق وابن أخيه حُبيش، مع أعوانهم، أمثال ابن الجوهري وعيسى بن يحيى؛ ثم تألفت عصبة المترجمين المجتمعين حول أول الفلاسفة العرب الكبار، أبي يوسف الكندي (ت 873 م)، الذي كان يموِّل الترجمات ثم يصلحها، مع أنه لم يكن ملمًّا باليونانية. ثم تواصلت ترجمة مقالات أرسطو فيما يُعرف (بشيء من الشطط) بـ”مدرسة بغداد” في القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر.

فلنبدأ بأسرة حنين بن اسحق الذي توفي في العام 260 للهجرة (873 م). كان حنين، وكذلك ابن أخيه حُبيش وزميلهما الصابئي ثابت بن قرة، أشبه ما يكونون بموظفين لدى أسرة بني موسى، وهم أنفسهم من كبار العلماء ويحظون برعاية الخليفة المأمون. إننا على جهل تام بنسب بني موسى، وحتى بملَّتهم، وهذا على الرغم من اسمهم؛ أما موظفوهم فنعلم أنهم كانوا مأجورين متفرغين “للنقل والملازمة”. وحنين نفسه قد توفر على نقل مصنفات طبية وعلمية، لكنْ من غير أن ينصرف إليها بالكلية، بما أننا ندين له بجوامع compendium مقالة أرسطو كتاب الآثار العلوية التي تتناول الظواهر السماوية، كما يشير عنوانها. تضاف إلى هذه الترجمتان السريانيتان الجديدتان لـمقولات أرسطو وكتاب العبارة، حيث قام ابنه اسحق بنقل هاتين المقالتين إلى العربية عن السريانية.

ومع اسحق بن حنين لم تعد الترجمة المنهجية إلى العربية تقتصر على مؤلفات أرسطو، بل راحت تشمل الشروح عليها أيضًا. وبين الفلاسفة الآخرين الذين ترجم لهم اسحق لا يرد ذكر الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وحسب، بل أفلاطون ونماسيوس الحمصي (ت 390 م)، واضع كتاب في طبيعة الإنسان De natura hominis، وپروقلس، الأفلاطوني المُحدَث الكبير من القرن الخامس.

وندين كذلك لحنين وابنه اسحق بوضعهما جملة مفردات سريانية تفيد دراستها فائدة جمة لتوضيح تشكُّل المصطلحات الفنية التي نصادفها في الترجمات العربية للمصنفات في المنطق وفي مقالات المناطقة العرب.

أما فيما يخص المترجمين المجتمعين حول الكندي، فقد استخدم هذا الفيلسوف أفرادًا مؤهلين استطاعوا، من غير أن يكونوا أنفسهم مناطقة أو فلاسفة متمرِّسين، أن يترجموا مع ذلك جملة من النصوص الهامة، بدءًا من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو وكتاب مختارات من الإلهيات للأفلاطوني المُحدَث پروقلس الذي سبق ذكره. وبالإضافة إلى هذه النصوص، طوَّعوا إلى العربية أيضًا كتابين حظي ثانيهما بنصيب هائل من الشهرة، إنْ بالعربية وإنْ باللاتينية – وأعني كتاب في محض الخير أو كتاب في الخير المحض، الذي عُرف باللاتينية بعنوان Liber de causis. فهذا الكتاب تطويع توحيدي لمقاطع مستقاة هي الأخرى من مختارات من الإلهيات لپروقلس، وكذلك ربما لكتاب آخر من كتب پروقلس بعنوان إلهيات أفلاطون. أما الكتاب الآخر الهام الذي طوعوه للعربية فهو تاسوعات أفلوطينس (بعنوان أثولوجيا أرسطاطاليس، منسوبًا إلى “الشيخ اليوناني” دون تسمية المؤلِّف)، الفيلسوف من القرن الثالث الميلادي الذي يُعد مؤسِّس الأفلاطونية المُحدَثة وواحدًا من أعلام النظر العقلي إبان العصور القديمة المتأخرة.

والكندي نفسه وضع، انطلاقًا من عمل فريق مترجميه، كتابًا كان مطمحه الأول، بالإضافة إلى التباري مع الإغريق، صياغة الفلسفة بحسب قواعد البرهان الرياضي more geometrico، أي البرهان كما نجده مثلاً في الأصول والأركان لإقليدس، الرياضي الإغريقي الكبير من القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. وفيما يخص الاصطلاح، وضع الكندي فضلاً عن ذلك مقالة في التعريفات أسهمت بعض الشيء في تحديد مصطلحات المفاهيم بالعربية، حتى إذا لم يُحذَ حذوُه في خياراته إلا فيما ندر، كما يجب أن نقر.

* * *

 

أنتقل الآن إلى المدرسة المعروفة باسم “مدرسة بغداد” التي خرَّجت واحدًا من ألمع عباقرة الفلسفة العربية، وأعني به أبا نصر الفارابي، الذي يجوز لنا أن نعتبره أستاذ كلٍّ من ابن سينا وابن رشد على حدٍّ سواء.

وباستثناء الفارابي نفسه، الذي كان دينه أقرب ما يكون إلى دين الفلاسفة الأغارقة، كان جميع أعضاء المدرسة المذكورة يدينون بالمسيحية، سواء في ذلك أساتذة الفارابي والذين غدوا طلابه فيما بعد. وبين أساتذته، الذين يُسنِدُ سلسلتهم دون انقطاع حتى الإسكندرية، في رواية هي أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ، لا بدَّ لنا من ذكر متى بن يونس ويوحنا بن هيلان (أو غيلان)، الذي أخذ على يديه تحصيله التام للدراسات الأرسطية كما صيغت وعُلِّمت في الإسكندرية – وهو تحصيل كان فيلسوفنا شديد الافتخار به[2]. وعلى حدِّ علمنا، لم يشارك الفارابي بنفسه في العمل الفيلولوجي (الفقهي اللغوي) لتدقيق ترجمات أرسطو الذي اشتغل عليه أساتذتُه وطلابُه هو من بعد. من هذا المنظار، يشغل الفارابي من هذه المدرسة منزلةً أشبه بمنزلة الكندي بين زملائه المترجمين، بمعنى أنه لم يكن على ما يبدو أوفر من الكندي أهليةً للمشاركة في هذا العمل الفيلولوجي، على معرفته الأكيدة بالسريانية.

ولقد علمنا بهذا العمل الذي نحن بصدده مصادفة بفضل مخطوطة تعود، إذا صح التقدير، إلى فترة إنجاز العمل المذكور نفسها في بداية القرن الحادي عشر.

وهذه المخطوطة، المحفوظة في باريس، تكشف عن عمل عدة أجيال من العلماء الذين عنوا بمقارنة مختلف الترجمات السريانية المتوفرة لجميع مقالات أرسطو في المنطق، إما للاحتفاظ بدروسها ولترجمتها إلى العربية مباشرة، وإما لتنقيح النص السرياني على الأصل اليوناني، بحيث يحصلون بعده على الترجمة العربية الأكثر أمانة للأصل. ونجد في هذه المخطوطة، إلى وفرة الحواشي الفقهية، تسجيلاً، في أمكنة بعينها، لتأويل الأفلاطونيين المُحدَثين الإسكندرانيين. وهذه الاستعانة بالشروح الإسكندرانية، التي كانت إذن معروفة هي الأخرى، إما بالعربية وإما، على الأرجح، بالسريانية، تبين أن علماءنا لم يألوا جهدًا في محاولة إضاءة معنى النص الذي كانوا بصدد تحريره. وفي أيامنا هذه، يتبع مترجمو أرسطو هذا النهج بحذافيره، وإنْ يكُ فقه اللغة قد سار منذ ذلك الوقت أشواطًا بعيدة قُدُمًا.

وما صنعه أعضاء مدرسة بغداد بجملة مقالات أرسطو في المنطق صنعوه أيضًا، اعتبارًا من مادة أفقر، بمقالة أرسطو الكبرى في الفيزياء، المعروفة بالعربية بعنوان كتاب السماع الطبيعي. وها هنا أيضًا وصلتنا على الأقل مخطوطة جيدة جدًّا لعملهم التحريري؛ وهذه المخطوطة محفوظة في ليدن، وقد نُشرت، كسابقتها، منذ بضعة عقود بعناية العالِم المصري عبد الرحمن بدوي.

حتى ننهي كلامنا على مدرسة بغداد لا بدَّ لنا أيضًا من الإشارة إلى أمرين اثنين: من جهة، كان هؤلاء المترجمون جميعًا، في الوقت نفسه، شارحين لأرسطو أيضًا، وقد ضع أغلبهم مقالات أكثر شخصية، أكان ذلك في الفلسفة أو في الإلهيات أو حتى في الطب؛ ومن جهة ثانية، فإن المدرسة الشهيرة التي يُنسَبون إليها جميعًا تيسيرًا للبحث لم توجد قط بوصفها مؤسسة، واجتهادُهم، وإنْ يكُ حظي أحيانًا بدعم أنصار رسميين، ظل مع ذلك أشبه بالمغامرة الفردية – وهذان الأمران خطيران، كما سنبينه في خلاصة استنتاجاتنا.

* * *

 

قبل أن نصل إلى التأملات العامة المتعلقة بخصائص المسار التاريخي الذي اقتفيناه لتوِّنا جاهدين، لا بدَّ لي من إبداء بضع ملاحظات على مآل العمل الذي نهضت له الأجيال الأولى من المترجمين الفلاسفة.

فلنلحظ، بادئ ذي بدء، أن مثال الصرامة والدقة العلميتين الذي وُضع في متناول الناطقين بالعربية بفضل هذه الترجمات قُيض له أن يشهد من الخسوف ما قُيض له من الانبعاث؛ إذ يجوز لنا الكلام مثلاً على “خسوف” فيما يخص الفترة التي انتصر فيها هذا المثال – ويا للمفارقة! – في الأدب الفلسفي. والأدب الفلسفي تيار أدبي أمست فيه الفلسفة ثيمة بيان مبهرج، إذا جاز التعبير، تناسب تزويق أحاديث الصالونات. وأبو حيان التوحيدي خير ممثل للتيار المذكور؛ لكن بوسعنا أن نسمي أيضًا مسكويه الذي، وإنْ كان صاحب مزاج أكثر فلسفية من مُعاصره التوحيدي، لم تكن معرفته بالفلسفة أعمق من معرفة أبي حيان.

 

أما ابن سينا والمنقول الذي استهلَّه فشأنهما شأن آخر تمامًا، حيث تطاول هذا المنقول حتى القرن السابع عشر في شرق ديار الإسلام. فمع أن الفلسفة عانت قُبيل ابن سينا من انحطاط عابر فإنه من جانبه يمثل التفتح الكامل للفكر الفلسفي في الإسلام. فهو من كلِّ وجه وريث العمل التحريري والتقعيدي الذي أنجزتْه قبله أجيالُ العلماء الذين كلمتكم عليهم، حتى إن بعضهم كتب مؤخرًا أن ابن سينا يجسد ذروة الفلسفة المنبثقة في المحصلة من مدرسة الإسكندرية نفسها. لكنه “وريث” من نوع خاص بعض الشيء. وبالفعل، فإن أبا علي لا يشرح أرسطو أو يكاد لا يشرحه: إذ لم يصلنا من الشروح التي وضعها غير شروح وجيزة نوعًا ما على المقالة في النفس وعلى ما بعد الطبيعة؛ وهذه الشروح لا يُعتَد بها إذا ما قيست إلى بقية مؤلفاته الضخمة. ذلكم أن ابن سينا تخيَّر نموذجًا آخر، ليس نموذج شرح القدماء، بل نموذج صهر مذاهبهم وإعادة سبكها من جديد. ابن سينا يعيد النظر والتفكر في أرسطو وفي شارحيه ويعيد كتابتهم في آنٍ معًا؛ وإذا اتفق له أن يستبقي شيئًا من عناوين مصنفات أرسطو الذي يعيد كتابته فهو يفعل من غير أن يستشهد به أبدًا.

جملة القول إن الفلسفة العربية، مع ابن سينا والناسجين على منواله، لم تعد أرسطية، بل سيناوية بحتة. لقد طُويت صفحة الاقتباس عن العلم اليوناني؛ إذ إن ابن سينا هَضَمَه.

* * *

 

هذه الملاحظة الأخيرة تقودني إلى خاتمتي.

لقد تبين لنا سريعًا نسبيًّا من أي طُرُق وبأية وسائل تشبَّع العالم العربي بالثقافة اليونانية من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر؛ ويجب علينا الآن أن نتساءل عن خصائص هذا “النقل التحصيلي”.

في المقام الأول، لا بدَّ أنكم لاحظتم أنني لم أكلمكم البتة على بيت الحكمة المبالغ في شهرته. فبحسب رواية تأريخية معينة، كان بيت الحكمة الشهير هذا هو المؤسسة الخليفية التي قام فيها عدد من العلماء، بدءًا من العام 830 وبتكليف من الخلفاء أنفسهم، بإنجاز جميع الترجمات من اليونانية إلى العربية أو بعضها على الأقل. لكننا بتنا نعلم، اعتبارًا من التحقيق في أقدم النصوص التي ذُكر فيها بيتُ الحكمة، أن الأمر لم يجر على هذا النحو. فلئن صح أن الخلفاء، وبالأخص الخليفة المأمون، أيدوا حركة الترجمة هذه إلى حدٍّ ما، الأصح أن غالبية مموِّلي المترجمين كانوا أفرادًا من مصلحتهم – لأسباب خاصة، مهنية أو سياسية أو حتى مذهبية – أن تكون للعلم اليوناني مكانته في المجتمع المسلم. على كل حال، كلما عدنا بالزمن إلى الوراء تلاشت الصلة المفترَضة بين بيت الحكمة وحركة الترجمة الكبرى التي وصفتُها لكم. بعبارة أخرى، “بيت الحكمة” عبارة عن أسطورة متأخرة.

بوسعنا، إلى ذلك، تعميم هذه الملاحظة وإثبات أن العالم الإسلامي لم يُقِمْ في أي وقت من تاريخه مؤسسات لنقل المعرفة الدنيوية، سواء كانت العلوم أو الطب أو الفلسفة – وذلك لسبب أصيل: لقد ساد الاعتقاد بالفعل بأن هذه المعرفة لا تُنقل أفضل النقل إلا من الأستاذ إلى مريديه، الأمر الذي لم يكن يتطلب إقامة “مؤسسة” بعينها لهذه الغاية.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه في خصوص هذا النقل: باستثناء بضعة مترجمين أفراد ممَّن ذكرتُهم، ما من عالم عربي أو ناطق بالعربية واحد بذل جهدًا لتعلُّم اليونانية. فضلاً عن ذلك، ليس هناك غير مثال فريد معروف، في العصر الكلاسيكي، على عالِم مسلم تعلَّم لسانًا أعجميًّا غريبًا عن الإسلام؛ بيد أن هذا اللسان ليس اللسان اليوناني، بل اللسان السنسكريتي الذي أتقنه أبو الريحان البيروني حتى صار قادرًا على الترجمة من العربية إلى السنسكريتية قدرته على الترجمة من السنسكريتية إلى العربية.

بذا، لئن صح بلا أدنى ريب أن مجتمعًا بأكمله تتلمذ على مدرسة قدماء الإغريق العظام، الصحيح أيضًا، على ما يبدو، أن الحاجة إلى تعلُّم لسان هؤلاء لم تلح على أحد. كذلك فإن الإعراض عن اللسان نفسه كان أصلاً أمرًا مفعولاً في الطريقة التي عامل بها بعض المترجمين على الأقل من اليونانية إلى السريانية المخطوطاتِ اليونانيةَ متى انتهوا من الاشتغال عليها: فبدلاً من أن يحتفظوا بهذه المخطوطات كانوا يمحون المكتوب عليها بالحك لكي يكتبوا عليها شيئًا آخر. أما العلماء المسلمون فإن البيروني هذه المرة أيضًا – ويا للمفارقة! – هو الذي يبين لنا أسباب قلة اكتراثهم هذه باليونانية، في جانب منها على الأقل. فقد كتب: “وإلى لسان العرب نُقلتْ العلومُ من أقطار العالم، فدانت وحلَّتْ في الأفئدة وسَرَتْ محاسنُ اللغة منها في الشرايين والأوردة”[3]. بعبارة أخرى، صار اللسان العربي من العلم المنقول بمثابة اللحم والدم وفاق بجماله اللسان الأصل.

كان من شأن هذه الصلة المخصوصة بالماضي وبمصادر العلم التي يشي بها الموقفُ من اليونانية أنْ تعذَّر الرجوعُ إلى الأعمال المترجَمة في نصها الأصلي، ومعه تعذَّر رجوع العقل الفلسفي إلى غرضه الأول. وبذلك حكمت الفلسفة العربية على نفسها بأن لا تستقي من بعدُ إلا من مَعينها وحده، الأمر الذي فعلتْه حقًّا طوال مدة طويلة.

أشكر لكم حسن استماعكم.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

*** *** ***

للاستزادة راجع:

· بدوي، عبد الرحمن (نصوص حققها وعلق عليها)، أفلاطون في الإسلام، دار الأندلس، بيروت، طب 3: 1982.

· بدوي، عبد الرحمن (حققه وقدم له)، أفلوطين عند العرب، وكالة المطبوعات، الكويت، طب 3: 1977.

· بدوي، عبد الرحمن (دراسات لكبار المستشرقين ألف بينها وترجمها)، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، وكالة المطبوعات، الكويت/دار القلم، بيروت، طب 4: 1980.

· بدوي، عبد الرحمن، دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 1: 1981.

· عباس، إحسان، ملامح يونانية في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 2: 1993.

· غوتاس، ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربية، بترجمة وتقديم نقولا زيادة، المنظمة العربية للترجمة/مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طب 1: 2003.

· قنواتي، جورج شحاته، المسيحية والحضارة العربية، دار الثقافة، القاهرة، طب 2: 1992.

* نص محاضرة ألقِيت في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في 13/01/2009.

 

 

** باحث لدى وزارة الخارجية الفرنسية وعضو مشارك في “مخبر الدراسات حول أديان التوحيد” (المركز الوطني للبحث العلمي). صدر له في العام 2004 كتاب الفارابي ومدرسة الإسكندرية: من مقدمات المعرفة إلى الفلسفة السياسية. اختصاصه الفلسفة العربية الكلاسيكية، وهو حاليًّا نزيل علمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] في أثناء تنقيح الترجمة وقعنا على نص للبيروني يؤيد تمامًا ما يذهب إليه فيليپ ڤالا في محاضرته عن دور صابئة حرَّان في انتقال التراث اليوناني إلى العالم العربي، كونهم آنذاك الورثة الباقين لدين الإغريق وروحانياتهم: “ويوجد أكثر هذه الطبقة بسواد العراق، وهم الصابئون بالحقيقة، وهم متفرقون غير مجتمعين ولا كائنين في بلدان مخصوصة بهم دون غيرهم، ومع ذلك غير متفقين على حال واحدة، كأنهم لا يُسندونها إلى ركن ثابت في الدين من وحي أو إلهام أو ما يشبههما، وينتمون إلى أنوش [أخنوخ] بن شيث بن آدم. وقد يقع الاسم على الحرَّانية الذين هم بقايا الدين القديم المغربي البائنون عنه بعد تنصُّر الروم اليونانيين، وينتسبون إلى أغاذيمون وهرمس وواليس ومابا وسوار، ويتدينون بنبوتهم ونبوة أمثالهم من الحكماء. وهذا الاسم أشهر بهم من غيرهم، وإن كانوا تسمَّوا به في الدولة العباسية في سنة ثمان وعشرين ومائتين ليُعَدُّوا في جملة مَن يؤخَذ منه ويُرعى له الذمَّة، وكانوا قبلها يُسمَّون الحنفاء والوثنية والحرَّانية” (أبو الريحان البيروني، كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية، بتحقيق إدوارد زخاو [نسخة بالأوفست عن طبعة لايپزيش: 1923]، دار صادر، بيروت: ب ت، ص 318). (المترجم)

[2] Cf. Philippe Vallat, Fārābi et lʼÉcole d’Alexandrie, Des prémisses de la connaissance à la philosophie politique, Librairie philosophique, Paris, 2004.

[3] نقلاً عن مقدمة كتاب الصيدنة في الطب، بتحقيق الحكيم محمد سعيد، كراتشي، 1974، ص 12.

نقلاً عن موقع “معابر” المميّز الذي ننصح قرّاء “الشفّاف” بالإطلاع على ما يحتويه من دراسات قيّمة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.