حتى وقت قريب جدا كانت كوريا الجنوبية إحدى الدول الآسيوية القليلة التي تطبق العقاب البدني في مدارسها ومعاهدها ما قبل الجامعية. فاليابان مثلا منعت رسميا العقاب الجسدي في كافة مدارسها إبتداء من عام 1947 ، وإن كانت المعلومات تفيد بإستمرار تطبيقه في بعض المدارس كنتيجة لإعتقاد ما لا يقل عن 60 بالمئة من المعلمين اليابانيين بضرورته من أجل تخريج أجيال مطيعة وملتزمة ومهذبة. والصين منعته نظريا منذ إنتصار ثورتها الشيوعية في عام 1949 ، على الرغم من وجود مصادر تؤكد بإستمراريته في مدارس الأقاليم النائية. وهذا ينطبق أيضا على تايوان التي منعت حكومتها العقاب البدني في مختلف المدارس إبتداء من عام 2006 . والفلبين منعته في كافة مدارسها العامة والخاصة تحت طائلة معاقبة المعلمين المتورطين فيه.
أما في ماليزيا، فإننا نجد بعض الإختلاف. فمدارس هذه الدولة المسلمة تطبق العقاب البدني، ضد طلبة العلم الذكور الذين غالبا ما يتلقون الجلد بعصا من الخيزران فوق ظهورهم، فيما تتلقى الطالبات عقوبة الضرب على باطن كفوفهن بالوسيلة ذاتها، علما أن قانون معاقبة الطالبات جسديا جاء متأخرا ومن بعد جدل طويل في الأوساط التربوية والدينية.
وتبدو حالة سنغافورة، بطبيعة الحال، مختلفة تماما. حيث شرعت حكومتها منذ إستقلال البلاد في الخمسينات عملية العقاب البدني الصارم ضد الطلبة الذكور في مختلف المراحل الدراسية ما قبل الجامعية، بل وأكدت على تطبيقه أمام مرأى من جميع طلبة المدرسة وبيد مدير المدرسة، بمعنى عدم تطبيق العقوبة داخل صف الطالب المعني على يد المعلم، لكنها من جهة ثانية فرضت ست ضربات كحد أقصى للعقوبة، على أن يستعمل فيها عصا من الخيزران الصلب الموجع، وأن يكون الضرب على باطن القدمين.
وإذا ما عدنا إلى حالة كوريا الجنوبية التي كانت مدارسها إلى وقت قريب تطبق العقوبات البدنية بصرامة وقسوة ضد الطلبة والطالبات على حد سواء، ويستخدم معلميها ومعلماتها في ذلك أدوات مختلفة مثل الخيزران الصلب، وعصي البليارد، ومضارب رياضة الهوكي، والصفع على الوجه، تحت دواعي فرض الطاعة العمياء، والسلوك المهذب، ومنع الثرثرة في الصفوف، وأداء الواجبات المدرسية بإتقان وحرص، وإعداد خريجين مؤهلين تأهيلا مناسبا لخوض مجالات العمل أو التعليم العالي أو بناء الأسرة السعيدة، فإن القرار الذي صدر مؤخرا بحظر العملية برمتها أثار جدلا واسعا في المجتمع ما بين مؤيد للخطوة ومعارض لها، علما بأن قرارا مماثلا إتخذ في عام 1998 لكنه لم يكتب له النجاح بسبب شكاوي المدرسين من عدم قدرتهم على السيطرة على صفوف مكتظة بالطلبة (تضم الصفوف في كوريا الجنوبية 35.3 تلميذ كمعدل عام).
المعارضون إستنكروا القرار، قائلين أن هناك ضرورة ملحة للإبقاء على العقاب البدني لمواجهة ما إعتبروه حالة متزايدة من اللإنضباط واللاإلتزام في أوساط الدارسين، خصوصا وأن إنفتاح البلاد السياسي وما جرى فيها من إصلاحات ديمقراطية في العقدين الأخيرين، من بعد عقود طويلة من الممارسات القمعية للحكومات العسكرية التي توارثت السلطة ما بين ستينات وثمانينات القرن العشرين، وما أتت به العولمة من وسائل لهو وسلوكيات دخيلة على العادات والتقاليد المحلية، أغرت دارسين كثر على التمرد وعدم إحترام المعلم أو عدم إطاعته لجهة متطلبات بدء اليوم الدراسي الذي عادة ما تبدأ في كوريا بطابور الصباح فالتمارين الرياضية المتعبة (مثل الركض لمسافات طويلة، والسير حول الملعب بوضعية القرفصاء، والإنبطاح على الأرض مع محاولة الإرتفاع عنها عدة مرات بالإستناد على أطراف اليدين والقدمين).
ومما قاله هؤلاء أن وسائل العقاب الأخرى المطبقة في الدول الأوروبية مثل إستدعاء أولياء الأمور، أو أسلوب الخصم من درجات أعمال السنة، أو تحميل الدارسين واجبات منزلية إضافية، أو إرسالهم إلى صفوف خاصة “للتفكير”، أو التشهير بهم، أو حرمانهم من الفسحة المدرسية، لم تعد مجدية، وأثبتت التجربة فشلها في كوريا، فيما أثبت الضرب بعصا يبلغ سمكه سنتيمترا واحدا، وطوله نصف متر، نجاحات مدهشة في ردع الطلبة المشاغبين وذوي السلوكيات الناشزة، خصوصا حينما تجري العملية علانية وعلى مرأى من أفراد المجتمع.
والغريب في الأمر هو ظهور نسبة كبيرة تتجاوز الـ 50 بالمئة من الطلبة ضمن من أيدوا إستمرار العقاب البدني، قائلين أن هذا النوع من العقاب “قد يشعرننا ببعض الإهانة، لكنه في الوقت نفسه ينبهنا إلى تقصيرنا في حق أنفسنا ومجتمعنا ووطننا”، ومضيفين أن “النهضة التي تعيشها كوريا الجنوبية اليوم لم تكن لتتحقق لولا الجدية والإلتزام والطاعة ونبذ التسيب والكسل والفوضى والتمرد على التقاليد المتوارثة، وكلها أمور تولدت بفضل الخوف من العقاب البدني”.
والنسبة المذكورة متقاربة إلى حد ما مع ما أفصحت عنه دراسة ميدانية أجريت في عام 2003. في تلك الدراسة أفاد نحو 70 بالمئة ممن أستطلعت آراؤهم من طلبة وطالبات المدارس الإعدادية والثانوية أن تطبيق العقوبات البدنيه لها مبرراتها المفهومة والمتسقة مع التقاليد الكورية القديمة، لكنهم شددوا على ضرورة تطبيقها في الحالات القصوى فقط.
أما المؤيدون لخطوة الحكومة الكورية فقد إستندوا في تأييدهم إلى النظريات التقليدية المعروفة والقائلة بأن العقاب الجسدي له تأثير سلبي على مدارك الطالب ومواهبه وقدراته، وبما يقتل فيه روح الإبداع، ويحول دون تنمية شخصيته وإطلاق مواهبه، بل وينمي في داخله الإحساس بالخوف، والشعور بالمهانة، والرغبة في التمرد أو الإنتقام بأساليب عنيفة، فضلا عن دفعه دفعا نحو كراهية التحصيل العلمي، أو التسرب من المدرسة قبل نيل مؤهلات يستطيع بها شق طريقه في الحياة، مضيفين – كرد على من يحبذون إستمرار العقوبات البدنية – أن المعلم الذي يعتقد أنه بالضرب يستطيع القضاء على سلوكيات الطلبة المعوجة، إنما هو كالطبيب الذي يفرح بمسكنات المرض بينما حالة مريضه تتدهور.
ونختتم بمعلومة ربما كانت خافية على البعض هي أن فرنسا كانت السباقة عالميا إلى سن تشريعات في عام 1886 تحرم بموجبها على المعلمين تطبيق العقوبات البدنية ضد طلبتهم، بل كانت الأولى أيضا لجهة تقديم مقترحات بديلة مثل التوبيخ اللفظي، والخصم من الدرجات، وإجبار الطالب على الوقوف طويلا في الفصل.
elmadani@batelco.com.bh
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين