أثار اهتمامى تعبير قاله الفريق أول عبدالفتاح السيسى، نائب رئيس الوزراء، وزير الدفاع والإنتاج الحربى، إنه يريد لمصر أن تكون «أد الدنيا». وعندما كرر التعبير مرة أخرى فى خطاب أخير أضاف له أن ذلك سوف يكون له ثمن، وأن من يرغب لمصر تحقيق هذا الهدف فإن عليه إدراك الصعوبات والعقبات والحاجة إلى العمل الشاق حتى يمكن الوصول إلى هذا الهدف العظيم. التعبير لاشك فيه قدر كبير من البراءة، كما أن طبيعة التحدى فيه تُذكر بكلمات تشرشل إلى الشعب البريطانى التى طالبه فيها ببذل العرق والدموع والدم من أجل تحقيق النصر. ولكن الهدف كان آنذاك محدداً وهو الانتصار فى الحرب العالمية الثانية وهو من الوضوح بحيث لا يمكن لأمة تجاهله أو تجاهل ما يقف أمامه من صعاب وعوائق. أن تكون مصر «أد الدنيا» لابد لها من إدراك ما هى تلك الدنيا المراد الوصول إليها، فهى من الاتساع الجغرافى حتى تصل إلى نهاية الكون، وهى فى المساحة الزمنية ما يغطى المستقبل كله. هى حالة معروفة جداً حينما نرى فيها أن تكون مصر أفضل مما هى عليه الآن، وتلحق بصفوف الدول المتقدمة، بل وأكثر من هذا أن تستعيد أمجادها التى كانت فيها فى مقدمة العالم. وصدق أول لا تصدق أنه كان هناك زمن فيه مصر مثل الولايات المتحدة فى عالم اليوم، فكانت مصدر الفلسفة والقيم والتكنولوجيا والقانون. هل يعود مثل هذا اليوم أو لا ربما كان هذا هو الموضوع، ولكن الدنيا تغيرت ولم تعد كما كانت، وعلى أى الأحوال، ومن يعلم، ربما كانت لدينا فرصة أخرى ونحن على أبواب مرحلة جديدة من تاريخنا!
تاريخنا القريب لا يبعث كثيراً على التفاؤل، فكما ذكرت أكثر من مرة فى هذا المكان أنه منذ نشأة مصر الحديثة فى عهد محمد على عام ١٨٠٥ وهى تحاول الصعود على جبل الدولة المدنية ثم الديمقراطية والحداثة، ولكن لم يقدر لها أبداً الوصول إلى القمة والوقوف فى صفوف الدول المتقدمة. كان الأمر مثل صخرة سيزيف فى الأسطورة اليونانية، يصعد سيزيف بناء على حكم الآلهة بالحجر الثقيل إلى قمة الجبل، ولكنه قبل الوصول إلى القمة فإنه وصخرته يسقطان إلى السفح، وهكذا كان أمر مصر على مدى أكثر من قرنين من الزمان سلسلة من الإخفاقات المتعددة. فهل نحن على طريق إخفاق آخر أم أن الأمر هذه المرة سوف يكلل بالنجاح وتصبح مصر حقاً وقولاً «أد الدنيا».
المسألة تحتاج إلى تحرير يحدد الهدف والوسائل والقضايا الملتبسة فى هذا وذاك، وربما من آن لآخر نعرج على أسباب الفشل والإخفاق والسقوط، فربما كان فى التجربة عبرة، ولا نغالى إذا قلنا أن قرابة ثلاثة سنوات من الثورة ما لم تفتح الطريق إلى الصعود إلى قمة الجبل فإنها مثل غيرها سوف تصير خسارة صافية تفتح الباب لفترة زمنية كبيرة من الركود والتراجع. المسألة هى إما أن نصعد أو نسقط!.
منذ سنوات حاولت أن أعرف معنى التقدم فى مصر من خلال النظر إلى البلدان المتقدمة، ووجدت أن حدوث ذلك «التقدم» يجرى عندما يتوافر أمران: أولهما أن تحقق الدولة عدداً من الإنجازات المتزامنة يقع فيها تحقيق معدلات للنمو لا تقل عن ٨٪ سنوياً ولفترة لا تقل عن ١٥ سنة، بحيث يبلغ متوسط الدخل للفرد ١٠ آلاف دولار، وترتفع فيها نسبة المتعلمين الذين يعرفون القراءة والكتابة ومبادئ الحساب إلى ١٠٠٪ ممن هم فى سن التعليم، ويبلغ متوسط العمر المتوقع عند الميلاد ٧٥ عاماً. وثانيهما أن تجرى المحافظة على إنجازات ما سبق وقوته الدافعة للعبور من التخلف إلى التقدم من خلال نظام سياسى ديمقراطى على غرار الدول الديمقراطية المتقدمة بلا استثناءات ولا تمييز، ونظام للقيم يحسبنا جزءاً من العالم وليس خارجاً عليه.
هكذا كان ولايزال حال الدول المتقدمة جميعاً، فالتكامل والاعتماد المتبادل، والتخصيب الجارى للقيم والثقافات بينها يتم بسرعات خارقة، وهى باختصار ناد التقى أعضاؤه بعد أن وصلوا إلى القمة على البقاء فيها، وبعدها لا يسمحون لأحد بالدخول إلا إذا استوفى شروط الترقى والعلا.
كيف نصل إلى هذه الأوضاع حاولت فى مقال قريب أن أضع ثلاثة محفزات لها: أولها الملكية- بكسر الميم والكاف وتسكين اللام- التى يجب وصولها للمصريين، بحيث يمتلك الشعب أراضية ويتاجر فيها ويستثمرها، ويقترض على أساسها، ولا يستثنى من ذلك إلا ما يرتبط بالأمن القومى، أو أن يكون من المحميات الطبيعية، وغنى عن الذكر أن الاستثناءات دائماً تعنى ما هو قليل وأقلية، ولا تعنى الكثير والأكثرية. وقد وجب التنويه لأن بلادنا دأبت على أن يكون ما هو استثنائى قاعدة، وما هو طبيعى يصير استثناء تقوم البيروقراطية بتوليه حتى لا يبقى منه شىء.
وثانيهما تغيير حال البلاد من دولة نهرية وضعت أصول الاستبداد وجعلته مستمراً لآلاف السنين، إلى دولة بحرية منفتحة على آسيا وأفريقيا عن طريق البحر الأحمر، وأوروبا وأمريكا الشمالية عن طريق البحر الأبيض، والمشرق العربى والجزيرة العربية من خلال خليجى العقبة والسويس وسيناء بالطبع. لا يحتاج الأمر أكثر من مد حدود محافظة القاهرة ومحافظات الصعيد إلى البحر الأحمر، وربط الساحل الشمالى بالدلتا من خلال استثمارات سياحية وزراعية وصناعية.
وثالثهما اللامركزية التى تنقل السلطات من القاهرة المتضخمة، والتى لا يشبعها مال ومن ثم تستحوذ على القدر الأكبر نسبياً من الموازنة العامة، إلى بقية المحافظات فتنتج وتستثمر ويكون لها من التعليم والصحة ما يتناسب مع ظروفها.
الوصفات الثلاث هى القوة الدافعة لصخرة الوصول إلى مصر التى هى «أد الدنيا»، وهى السبيل للتعامل مع عملية إنتاج الثروة فى مصر بحيث يتزايد نطاقها، وتتعدد مصادرها ومواردها ومن ثم يمكن التعامل مع القضايا الملحة مثل الفقر والجهل والمرض. هناك من يريد أن يجعل مصر «أم الدنيا» بالقضاء على الفقر، والحقيقة أنه لا يوجد ما يقضى على الفقر بالوسائل القائمة، وإنما كل ما يجرى فعله هو التعامل معه وربما صيانته وبقاءه على حاله.
ورغم كثير من النقد والصراخ، فإن الحقيقة هى أن مصر هى من الدول عالية الإنفاق- مقارنة بدول أخرى- على الفقراء فى مصر (٢٥٪ من الموازنة العامة تنفق على الدعم، و٩.٧٪ من الناتج المحلى الإجمالى) ولكن النتيجة لا تساعد فقيرا، ولا تجعل فقيراً يخرج من دائرة الفقر. والأدهى والأمر هو أن السياسات القائمة تؤدى إلى نتيجتين: أن الأغنياء يستفيدون أكثر من هذه السياسات، وأن التفاوت الاجتماعى بات لا يجرى بين الطبقات، وإنما بين الأقاليم حيث يعيش ٦٢٪ من الفقراء و٦٦٪ من المعدمين فى جنوب مصر والمحافظات الحدودية. مثل ذلك ذكرت من قبل، ولكن الجديد هو أن ما وجدته من تعليقات على قضية الفقر فى بلادنا تقوم على المطالبة بتكثيف ذات السياسات من ناحية، وتمويل ذلك عن طريق الضريبة التصاعدية من ناحية أخرى.
توزيع الثروة هنا ربما يحل المشكلة فى رأى جماعة منا، ولكن هناك حقائق لابد من ذكرها وهى أن ما يحدث فى مصر فعلاً هو ضرائب تصاعدية، أما الطريقة القائمة على التصاعد حسب شرائح الدخل المطروحة فهى التى كانت مطبقة فى مصر، وكانت النتيجة هى أن عدد من يدفعون الضرائب فى مصر لم يزد على ٣٠٠ ألف نسمة فقط كانوا يدفعون ما لا يصل إلى ٣٠ مليار جنيه. فى ظل الطريقة الراهنة، وقبل الثورات، فإن عدد دافعى الضرائب على الدخل بلغ ٣.٥ مليون نسمة دفعوا فى عام ٢٠١٠ ما تجاوز ١٦٧ مليار جنيه فى ظل معدل للنمو بلغ فى سنوات ٧٪ أو أكثر. القضية كما تقول الأرقام ليس أى نظام للضرائب التصاعدية نتبع، بل ولا يقل أهمية، أيها أكثر كفاءة. الطريق إلى مصر «أد الدنيا» تحتاج المزيد من التفاصيل!.
إقرأ أيضاً: