يُتوّج العرب في كل عام مدينة في دول الجامعة لتكون عاصمة للثقافة العربية، وغالباً ما تكون المدينة عاصمة الدولة. لا بأس. فلنضع مؤقتاً حقيقة أن هذه النـزعة المساواتية تنطوي على قدر كبير من التضليل. جاء اقتراح تتويج المدن، قبل عشرين عاماً، عندما أقنع العرب منظمة اليونسكو بتبني الفكرة، على غرار ما يحدث في بلدان الاتحاد الأوروبي. وهنا، أيضاً، نعثر على نزعة مساواتية لا تقل ضلالاً وتضليلاً عن الأولى.
قبل الكلام عن الثقافة فلنفكر لماذا تساوت الرؤوس، أي في النزعة المساواتية باعتبارها دلالة تتجاوز، بالمعنى الضيّق، الشأن الثقافي نفسه. وهذا يعيدنا إلى منعطفات، وقعت قبل ربع قرن، من نوع: انهيار القطبية الثنائية، وصعود مفهوم العولمة، وتحويل التعددية الثقافية إلى بقرة مُقدّسة (بما في ذلك التشكيك في فكرتي التقدّم والتخلّف) وخروج تسمية العالمين الرأسمالي والاشتراكي من التداول، ومعهما العالم الثالث.
يمكن تفسير هذا كله على خلفية الاقتصاد السياسي لليبرالية الجديدة، بطبيعة الحال. ولكن وبقدر ما يتعلّق الأمر بالشأن الثقافي (مع ملاحظة أن لكل ما تقدّم بطانة ثقافية) فإن النزعة المساواتية وليدة تحويل السوق إلى مرجعية لكل المفاهيم والقيم. فلا يهمّ بماذا تفكر، وماذا تلبس، أو ماذا تريد، المهم أن في حسابك المصرفي ما يكفي لجعلك جزءاً أساسياً في حركة السوق المحلية والعالمية. وهذا يصدق على الدول والأفراد.
وهذا يستدعي، أيضاً، فصل السوق عن السياسة، وفصل السياسة عن القيم، أي تكريس التفاوت في مبادئ المساواة، والعدالة، والحرية، من بلد إلى آخر، باعتباره في صميم هويتها الثقافية، أي لا تعوزه الشرعية، ولا تنتقص من جدارته مفاهيم أصبحت “بالية” كالتقدّم والتخلف والجهل، ولم تعد قابلة للصرف في “عالم جديد شجاع”.
وفي سياق ما أطلقته داروينية السوق من ديناميات نعثر على أحد المصادر الرئيسة لصعود الهويات، وانفجارها الدموي، وعلى أحد أهم الروافع السياسية، والأخلاقية، والاقتصادية، والأيديولوجية، لموجة الإسلام السياسي، التي ضربت شواطئ كثيرة، في العقود القليلة الماضية.
وفي ظل ما تقدّم عن الفصل، وشرعنة التفاوت، وداروينية السوق، تتساوى الرؤوس، وتحتاج الذاكرة التاريخية، والثقافية، لعمليات تجميل كثيرة، لتصبح “الثقافة”، كما تتجلى في المدن والعواصم المُتوّجة، جزءاً من حركية وحراك السوق، إذ ينبغي أن تكون بلا ذاكرة، وأن تنفصل عن مبادئ المساواة، والعدالة، والحرية. وفي أكثر الحالات كاريكاتورية إما أن تتجاهلها، أو أن تُسقط عنها دلالتها الكونية، وذاكرتها التاريخية، وتجربتها السياسية، لتضفي عليها جوهرانية تراثية عابرة للتواريخ والأزمان. والمهم في الأمر أن تساوي الرؤوس ينفي مبدأ المقارنة، ويُغيّب المعايير. فلا فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين عربي وعربي.
وطالما تكلمنا عن الذاكرة فلنذكر ما تورده موسوعة ويكيبيديا (بالعربية) تحت بند “عاصمة الثقافة العربية”: ” تستند الفكرة إلى أن الثقافة عنصر مهم في حياة المجتمع، ومحور من محاور التنمية الشاملة. وتهدف إلى تنشيط المبادرات الخلاقة، وتنمية الرصيد الثقافي، والمخزون الفكري والحضاري، وذلك عبر إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة لفعاليات تظاهرة عاصمة الثقافية، وتنمية ما تقوم به من دور رئيسي، في دعم الإبداع الفكري والثقافي، تعميقاً للحوار الثقافي، والانفتاح على ثقافات وحضارات الشعوب، وتعزيز القيم، التفاهم والتآخي، التسامح، واحترام الخصوصية الثقافية”.
هل ثمة، في معرض التعليق على هذا الإنشاء الرديء، ما يُعيد التذكير بجورج أورويل، أو حتى يُبرر العثور على بعض الأكاذيب؟ ما هي القيم الحضارية، وقيم التآخي، والتسامح، في مدن، وعواصم، وبلدان، يقتل فيها انتحاريون أنفسهم، ومَنْ وضعهم سوء الحظ في طريقهم، لأسباب دينية؟ وما معنى الخصوصية الثقافية؟ هل الذعر من الاختلاط، ومرض رهاب الجنس، وكراهية النساء، خصوصيات ثقافية، وتستحق الاحترام؟
وأين هو الدور الرئيس لمدن وعواصم في دعم الإبداع الفكري والثقافي والانفتاح في بلدان تحارب الإبداع، وتحرم مواطنيها من الحق في التعبير، ويُطارد فيها المثقفون والمثقفات بقوانين الحِسبة، ولا يندر أن يُحكم عليهم بالإعدام، ناهيك، طبعاً، عن الرقابة، ومنع الكتب، ومراقبة الإنترنت؟
ومع هذا وذاك، وقبل وبعد هذا وذاك، في مجرد وجود وصعود وحش اسمه داعش (وهي مجرد تسمية تختزل جماعات ورايات كثيرة)، يسبي النساء، ويفرض الجزية على المسيحيين، ويجز أعناق الشيعة، وفي حقيقة انتشار “ولاياته” و”غزواته” في العالم العربي، وحجيج شبّان وشابات من العالم العربي، وخارجه، إلى عاصمتيه في الرقة السورية، والموصل العراقية، وفي حقيقة أن قتل النفس والآخرين أصبح وجبة يومية في نشرات الأخبار، ما يبرر النظر بعين الريبة والشك إلى الثقافة العربية نفسها، كائناً ما كان تعريفها. لم يهبط هؤلاء من المريخ، ولا رضعوا من ثدي آخر.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالثقافة العربية، أو ما تبقى منها في الحواضر على الأقل، فإن الخجل، والاعتراف بالبوار الحضاري والإنساني، يجب أن يكون جزءاً من كل محاولة لتأمل الوجه المرآة، وفي كل محاولة للخروج من قعر الهاوية.
وهذا، بالتأكيد، ما لا يخطر على بال بيروقراطية وزارات الثقافة، في العالم العربي. ففي تتويج هذه العاصمة أو تلك ما يعني ميزانيات، ومناسبات لانتفاخ قوميات محلية لمدة عام، ورقصات، وسفرات، ولقاءات، وخطابات، وبعض الترفيه، ففي القليل منه ما يبدد بعض الملل، وما لا يهدد السوق، أو النظام الحاكم، بل يكرّس تساوي الرؤوس، في عالم عربي لا يخجل قاطنوه، وهم رهينته، وجلاّدوه، وضحاياه، من تأمل وجوههم في المرآة. وكل عاصمة للثقافة وأنتم بخير.