لا بأس إذا شعرت ببعض الرومانطيقية إذا قرأت عن “كلية التربية” في بيروت. كما تقول فيروز “خلص الحب.. وما وقع ولا نجمة”، ولكن نهاية “كلية التربية” صادفت، أيضاً، نهاية لبنان القديم الذي يترحم عليه روّاد كلية التربية الآن.. لبنان ما قبل “هَولو”..!!
“الشفاف” يفتح باب “الشهادات الشخصية” حول كلية التربية
ثمة قرابة وجودية بين خريجي كلية التربية، الجامعة اللبنانية: في سيماء غالبيتهم شيء من البهجة والتوهّج والطاقة الفائضة، ومن الرسوخ بما تعلّموا فيها وما تعلّموا منها؛ تجربة خاصة كوّنتهم في عمر الطراوة، وجعلت منهم رجالا ونساء أصحاب وثْبة خاصة مع الحياة، أو الجنون بها.
قد لا تكون مجالات وثباتهم متشابهة، ولا معروفة في الشأن العام. لكنك لو دقّقتَ بكل وثبة على حدة، فسوف تجد فيها بصْمة كلية التربية، أو «التربية» كما كنا نحب ان نقول. اختلفت توجهاتهم وطبيعة اهتماماتهم، والعديد منهم بلغ نقطة متقدمة في وجوده أو سيرته. لكن غالبيتهم مدينون لتجربتهم في «التربية» بهذه النداوة الوجودية التي تنْضح من وجوههم وتجعلهم أصحاب نوستالجيا، مؤلمة احيانا، لتلك السنوات الذهبية التي عاشوها في بداية شبابهم.
في زمن العزّ للجامعة اللبنانية، عندما كانت تضاهي، واحيانا تنافس جامعات الغرب بمستوى طلابها وأساتذتها، كانت كلية التربية من بين كلياتها الكثيرة جوهرتها الفريدة. نظام «التربية» نفسه كان الارض الصلبة التي أُقيم عليه عرشها: فاذا كنتَ من أبناء الطقبة المتوسطة، وما فوق أو ما تحت قليلا، وتريد ان تضمن لنفسك مستقبلا في سلك التعليم الثانوي، ويهمّك الاختصاص بواحدة من مواد هذا التعليم، وكنتَ لا تمتلك من المال إلا القليل، وتريد ان تحصل بالتالي من المال الذي يساعدك على مواصلة التعليم، كان عليك ان تتقدّم الى امتحان دخول في المادة التي اخترت، وتحصل على علامات تجعلك من الاوائل، وتكون عندها من بين المحظوظين في دنياك الصغيرة. فتتعلم وتقبض كل آخر شهر 200 ليرة لبنانية، أُضيف اليها بعد فترة 50 ليرة اخرى. وللذين لم يعرفوا هذه الحقبة، كانت الـ 250 ليرة لبنانية كفيلة بتغطية مصاريف طالب جامعي من الفئة المتوسطة، وتزيد.
تدخل الى «التربية» اذن بمباراة، ومطلوب منك بعد ذلك ان تحضر الصفوف، تحت طائلة الحرمان من منحة الـ 250 ليرة. لا أذكر اننا حُرمنا منها يوما على رغم غيابنا، ولكن التزامنا بحضور الصفوف كان عفويا، تلقائيا. كان الشغف بالمعرفة، وشغف أساتذتنا بها يدفعنا الى الصفوف والى الكتاب بما فاق قدرات مكتبتنا الغنية، نسبيا، وبما تماشى مع قدرتنا على شراء الكتب من «مكتبة انطوان»، باب ادريس، وسرقتها أحياناً. كنا نتآمر على بعضنا البعض من اجل كتاب نادر أو مثير للإهتمام. هذا «يخطف» الكتاب من المكتبة «في ليلة ليس فيها ضؤ قمر»… وذاك يراقبه، يلاحقه، يؤنّبه على المدة الطويلة التي مرّت على الخطف… وخطف كتاب آخر، خطف مضاد، مقابل الخطف الاول… رقصة تانغو مثيرة بين محبي الكتاب والنظريات، كانت تنتهي دائما بسؤال الاستاذ «إن قرأ…؟» هذا الصيد الثمين أو ذاك، بقصد التباري معه في مجاله بالذات: المعرفة.
طلاب «التربية» كانوا شخصيات، لا بمعنى الوجاهة، خاصة في هذا العمر، بل بمعنى الطبائع غير المألوفة لكل طالب وطالبة. هذا «دون جوان»، وذاك «حبّيب»، أو «حالم»، أو «مثقف أكثر من اللازم»، أو «مناضل»، أو شاعر، او مجموعة شعراء من الجنوب، «شعراء الجنوب»، وشعراء أفراد… أو الذي يُسقط نفسه في الامتحانات من أجل ان يستمر بالنضال الحزبي الطلابي، مع احدى «المنظمات الجماهيرية للحزب»، والطلابية واحدة منها… والطالبات من مشاريع شاعرات أو روائيات أو حتى «مفكّرات» الى «ملكات الجمال».غالبيتهن «ملكات جمال الكلية»، لا تستطيع ان تحصي عددهن؛ حشد من ملكات الجمال… و»الحمار يمكن أن يكون جميلا في هذا العمر!»، يقول حسن الآن ساخرا متحسّراً.
الجمال والحب والغواية وقصصهما التي لا تنتهي. فالمواظبة على الدوام في «التربية»، خلقت إطارا حميما بين طلابها وطالباتها، يعطف على قصص الحب والغواية ويحوّلها الى واحدة من حولياتها اليومية. ثم حلاوة الصداقة ولذة التواطؤ بين الاصدقاء والصديقات، وشبق النميمة؛ «التربية كانت حاضنة للحب والصداقة والغواية.
الحب لم يكن وحده، ولا الصداقة أو الغواية: كان نادي السينما الاسبوعي، الذي تعرفنا فيه على كبار الاوروبيين والاميركيين من بين صناعها. وكانت الكافيتيريا، بالـ»جوك بوكس» وأغاني فيروز «شو بيبقى من الرواية» أو «ليالي الشمال الحزينة» أو «يا دارة دوري فينا»… وأسعد، صاحب الكافيتيريا، أو متعهدها، «النسْوَنجي» الظريف الذي كان يطبخ لنا يخنة فاصوليا، وطارق الصغير، الصبي بائع العلكة «تشكلس» الذي صار واحدا منا، يلتقط معنا الصور التذكارية، والصخب والنقاشات الحامية دائما، والكراهية الودية بين احزاب اليمين واحزاب اليسار، بل بين أحزاب اليسار نفسها، ولعبة كرة الطاولة، «البينغ بونغ»، المندثرة الآن، والفياضانات السنوية التي كان أسعد يتخطاها بتحويل صناديق الخشب العريضة الى طريق نسلكه فوق مياه المطر الغامرة… والشعارات التي نكتبها على كارتونات بيضاء بأقلام الفوتر، ونتشاجر على مضامينها. والانتخابات ومؤتمرات المندوبين، ومجلس الفرع الذي يقرر أشياء مهمة في حياة الكلية، وحرْمة الجامعة التي لا يدخلها شرطي ولا رجل أمن.
والأجمل من كل ذلك، ان التربية كانت فرعا واحدا جامعا لكل لبنان، لا فروع كما هي الآن الجامعة اللبنانية. في التربية كان يلتقي أبناء الطوائف كلها، والمناطق كلها: مسلمون ومسيحيون، من الجنوب الى الشمال والشرق والغرب، كانوا يلتقون يوميا وعلى امتداد خمس سنوات، يتعارفون، يتفاعلون، يتثاقفون… بوتقة لبنانية فريدة، هي ربما من بين نوادر فكرة الدولة الواحدة التي تحكم وتدير مصير طوائف ومذاهب وتنوعات طفيفة اخرى يزخر بها لبنان. فكرة مستقبلية لم نكن مدركين لمدى خطورتها واستحالة استمرارها في بيئتها الواسعة الذاهبة الى الانقسام بخطى حثيثة.
و»التربية» كانت أيضاً جامعة لفئات من الطبقة الوسطى، الأدنى أو الأعلى قليلا؛ ومعظم الطالبات من فئات أعلى من الطلاب. وهذا ما تفهمه لاحقا عندما تلاحظ بأن الاخوة الصبيان لأولئك الطالبات كانوا يدرسون في الخارج، أميركا وأوروبا، فيما الصبيان من الطبقة المتوسطة الأدنى يشكلون العدد الأكبر من بين طلابها.
وفخر التربية في عزّها انها كانت، بالاضافة الى كل ذلك، ملتقى للأكثر نشاطاً من بين طلاب الكليات الأخرى. وهناك من كنت أعتقده من بين طلاب التربية، واذا به من كلية اخرى، كان يداوم في التربية بسبب جاذبيتها المحتومة وسحرها غير المفهوم. لم نكن نقيم وزنا لهذين السحر والجاذبية، كنا نعتبرهما «تحصيل حاصل»، ونؤمن بأن الحياة تخبىء لنا ما هو أكثر سحراً وجاذبية منها… لم نكن نشك بخلود الكلية، وربما بخلودنا ايضاً.
عندما حصلت الحرب الاهلية، في الجولة الاولى منها، المسمّاة «حرب السنتين»، لم نتهيب لأخطارها. مع انها، اي الحرب، أتت على التربية نفسها. فبعد عودتنا اليها إثر الجولة هذه، كان نصف طلابها غائبين، خاصة المسيحيين منهم؛ وقد تأسست في مناطقهم آنذاك أولى الفروع الجامعية ذات الصفة الطائفية الحصرية. بقي فيها النصف الاسلامي الآخر، فضلا عن قليل من «المسيحيين التقدميين» الذين أبوا الانضمام الى «الانعزاليين». الضربة التي تلقتها «التربية» وقتها، وهي بمثابة بداية نهايتها، كانت، بالاضافة الى خسائرها البشرية والمؤسسية، ضربة رمزية عالية الصوت بمعانيها: تفريغها على أساس طائفي، هي البوتقة والإلفة، كانت بمثابة الطعن في فكرة معينة عن لبنان، لفكرة معينة عن دور الدولة فيه. دور الدولة التوحيدي والتربوي. ولتقيس فداحة الخسارة، عليك التصوّر، مجرد التصوّر، بأن دولتنا الراهنة أسّست صرحاً انسانيا جامعا، غرضه تطوير الموارد البشرية الوطنية كلها. فقط تصوّر، هل هذا ممكن ان يحصل الآن؟
التربية كانت معجزة، واحة تآخ وثقافة وإشعاع، إشعاع حقاً.
مرة أخرى، منذ أربع سنوات، أتت الحرب عليها بحرمان خريجيها من الالتقاء: قبل يوم واحد من اندلاع حرب تموز 2006، كنا، مع بعض «التربويين» السابقين، نعدّ لإحتفال يجمع كل خريجي «التربية». الحرب أضاعت الجهود الأولية هذه، والآن عادت الفكرة… لكن طيف حرب قادمة يهدّدها بالمزيد من النسيان والتخلّي. فهل كُتِب على
«التربويين» ان لا يعودوا فيلتقوا؟
* كاتبة لبنانية
المستقبل