أبى عام 2014 في أيامه الأخيرة إلا أن يسجل صفحة مكتوبة بدم أطفال باكستان، وهي تضاف إلى سجلات قتل الإنسانية والبراءة في سوريا حمزة الخطيب، وفي نيجيريا رعب بوكو حرام ضد المرأة، وفي العراق الذي عاد به البرابرة إلى زمن سبي النساء والأطفال.
باسم الدفاع عن كرسي الحكم، أو باسم قراءة منحرفة للدين، أو باسم استراتيجيات دول يتم اصطياد الأبرياء بالطائرات من دون طيار وبغربان الموت وبالأجساد والسيارات المفخخة، أو يتم نحر الناس أو ممارسة أبشع أنواع التعذيب بحقهم.
في بدايات الألفية الثالثة يسقط سلم القيم ويستأسد هابيل على قابيل و”يرتوي الباشق من دم العصفور”. تترنّح الإنسانية وتموت في شوارع مدن وبلدات من بلاد الشام وفي مخيمات النزوح فيها، وأيضا في بيشاور تحل لعنة القوة وينبري قساة القلوب بسادية ليست لها مثيل في ارتكاب مذبحة بحق تلامذة مدرسة تأوي أبناء الجيش الباكستاني مما أســـفر عن 148 قتيلاً بينهم 132 تلميذاً.
وكم كانت معبرة ومقززة في آن معاً شهادة أحمد فراز (14 سنة) الذي نجا من الهجوم وأصيب برصاصة في كتفه: “اختبأ أولاد تحت الطاولات، وسمعت مسلحاً يقول لآخر لا تترك أحداً حياً، ثم بدؤوا يقتلون التلاميذ، واحداً تلو آخر، تحت الطاولات والمقاعد. وأصابني أحدهم في كتفي فاعتقدت أنها النهاية”.
تقول وثيقة حقوق الأطفال التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة في العام 1984: “لكل طفل الحق في البقاء والنماء، وفي التعليم، وفي التحرّر من العنف وسوء المعاملة، وفي المشاركة وإسماع الصوت”. أين هؤلاء القتلة – الوحوش من هذا الكلام، وأين هم أيضا حكام الدول الفاشلة والأنظمة القمعية التي تمعن في الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان، والتي استهوت جلد شعوبها وكانت بين أسباب نشأة حركات الغلو والانحراف واستسهال قتل النفس البشرية.
الإسلام السمح براء من كل القتلة باسم الاستبداد أو باسم الدين. في إحدى آيات سورة المائدة ورد: “من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً”. ولا تقتصر الارتكابات على من يبررون القتل تحت عناوين دينية وجهادية من جماعات إسلاموية متشددة، بل هناك جماعات من باقي الديانات التوحيدية أو غير التوحيدية أو الملحدة أو العلمانية ممّن ترتكب أيضا المعاصي في القتل واستباحة إنسانية الإنسان.
عالم اليوم متطور جدا ونسميه “القرية الكونية”، لكنه نفسه هو عالم الأنا المنفلتة والعصبية القاتلة والتنافس الذي لا يرحم، وفي أحيان وأنحاء كثيرة يصبح أشبه بغاب، حيث لا نظام ولا قواعد، وحيث تسقط الحقوق الأصلية للشعوب الضعيفة أو لمن يتم الاستقواء عليهم من النساء والأطفال.
تعد البشاعة وانتفاء الإنسانية من السمات المشتركة لجماعات الإرهاب، ولكن هذا النمط من التغول يجسد الإرهاب البشع والعبثي الذي لا لون له ولا دين له ولا تبرير له.
أراد إرهابيو “طالبان باكستان” من مجزرة بيشاور الانتقام من الجيش الباكستاني (الملفت أن طالبان أفغانستان استنكروا المذبحة) وهذا يتصل بالتاريخ القصير والمعاصر لهذه البلاد منذ 1947.
عاشت باكستان دوماً في عين العاصفة. لقد كانت في قلب الحرب الباردة، ثم في “الحرب الكبرى ضد الإرهاب”. غالبا ما دارت إسلام آباد في الفلك الأميركي لاحتواء المد الشيوعي في الخمسينات، ولعبت دور الحاضنة للجهاد الأفغاني ضد السوفيات لاحقاً مع الاحتفاظ بحلفها مع الصين ضد الهند غريمها التاريخي. ولعب الإسلام دوراً مركزياً في تأسيس الأمة، وكان للجيش كلمته في المفاصل الصعبة على حساب الديمقراطية الخجولة.
لكن مما لاشك فيه أن التوازنات المعقدة بين الجيش والإسلاميين والانقسامات العرقية والقبلية، زادت من متاعب باكستان في الفترة الأخيرة بعد اندلاع العنف مع المتطرفين والمناطق القبلية.
وعلى الأرجح تعتبر مذبحة بيشاور وكأنها أول دفعة من رد طالبان المحلية على الحكومة في سنة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لكن المريع في كل ذلك لماذا تتم تصفية الحسابات فوق شلال من دماء الأطفـال أو مـن المصليـن في المساجد، أو من بقية المدنيين ممّن ليس لهم شأن بالصراع؟
بعيداً عن أحاجي الوضع الباكستاني، يتكرس صعود جيل جديد من الإرهابيين، بعضه لا صلة تنظيمية له بالقاعدة أو بالتشكيلات التاريخية، وبعضه الآخر انخرط في تنظيمات مثل “الدولة الإسلامية” وبوكو حرام وغيرها، وما يجمع كل هؤلاء مظلة أيديولوجية من الجهاد العالمي الذي تغذيه فتاوى التحريض ولعبة تجييش المشاعر والحث على الكراهية ورفض الآخر.
في مناخ صعود قوى التطرف ولعبة استغلال الانتماء المذهبي في مشاريع إقليمية (حالتي إيران وتركيا) تلتهب الأحاسيس في بلاد عديدة من العالم الإسلامي، تعاني شبيبتها التهميش والبؤس، مما يزيد من أعداد المرشحين للإرهاب والتشدد.
إلا أن كل هذه الافتراضات والتقييمات لا تصمد أمام فظاعة الجرائم المرتكبة. هذا التطرف أكبر عدو للمسلمين وحائل دون تقدمهم، والوصفة السحرية لوضع حد للانحراف القاتل لن تأتي من الحروب الأميركية والغربية ولا من مصانع سياساتها، بل من قلب العالم الإسلامي ومن نخبه الدينية والمدنية.
إن التطرف والعنف العبثي وقتل البراءة والإنسانية والقطيعة مع باقي العالم، لن تقدم حلولا للقضايا العادلة أو لبناء الأوطان، بل تعني الدوران في حلقة مفرغة تقود إلى الانحطاط والتهميش.
أستاذ العلوم السياسية المعهد الدولي الجغرافيا السياسية ـ باريس
khattarwahid@yahoo.fr