مؤخرا إستضافت روسيا للمرة الأولى القمة السنوية العشرين للمنتدى الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادىء (أيبك) والذي يضم في عضويته 21 دولة تطل جميعها على المحيط الهادي، وتمتد من الصين إلى تشيلي، وتمثل 44 بالمئة من تجارة العالم، ونحو 40 بالمئة من سكان الكرة الأرضية.
وقد اختارت الحكومة الروسية مدينة “فلاديفوستوك” الواقعة على سواحل بحر اليابان في أقصى سيبيريا، والبعيدة عن موسكو بنحو 6500 كيلومتر مكانا لإستضافة القمة التي عقدت تحت شعار “التوحيد من أجل النمو، والإبتكار من أجل التقدم”، فأعادت بذلك الأضواء إلى مدينة كاد العالم أن ينساها من بعد أن كانت زمن الإتحاد السوفيتي، القاعدة الرئيسية لترسانة موسكو البحرية، والتي بسببها جعلها قادة الكرملين من عام 1958 وحتى عام 1992 مدينة مغلقة يحظر على الأجانب دخولها.
وعلى الرغم من أهمية هذه المدينة لإستراتيجيات موسكو في الشرق الأقصى، ومكانتها التاريخية والثقافية والفنية منذ القرن 19 كمركز لإنطلاق الرحلات والبعثات العلمية، وكحاضنة لمئات المعالم الأثرية، وكمستضيفة لعشرات المهرجات السينمائية والموسيقية والمسرحية السنوية، وعلى الرغم من دورها المشهود في إعداد الكوادر الإدارية والصناعية والجيولوجية والبيئية، وإحتضانها للعديد من المنشآت الصناعية المدنية والعسكرية (مثل منشأت صيد الأسماك وتعليبها، ومصانع صنع الماكينات البحرية والقوارب السريعة وأحواض بناء وإصلاح السفن) فإنها لاقت الإهمال طويلا من صناع القرار في موسكو. ويبدو أن الأخيرة أرادت الحيلولة دون خروج ضيوفها من قادة “إيبك” بذلك الإنطباع، فقررت أن تنفق مبلغا خياليا هو 700 بليون روبل أو ما يعادل 21 بليون دولار على تحسين وتطوير البنية التحتية المتهالكة لهذه المدينة التي يقطنها نحو ستمائة ألف نسمة، وتحويلها إلى بوابة باسيفيكية، ومركز عالمي للتعاون الدولي، وميناء رئيسي لربط إقتصاديات الشرق الأقصى بالإقتصاديات الغربية في أوروبا.
وقد أستثمر المبلغ المذكور في بناء الفنادق والجسور والمطارات والطرق السريعة والسكك الحديدية والقاعات والمباني الجامعية، لكن هذا العمل من جانب السلطات الروسية لئن إستحسنه البعض لتوفيره عشرات الآلاف من فرص العمل في قطاع البناء وغيره، فإنه جوبه بإنتقادات شديدة من قبل البعض الآخر بحجة أنه تبذير للمال العام من أجل قمة لن تستغرق سوى أسبوع.
لكن السؤال الذي لا بد من طرحه هو هل نجحت موسكو في تحقيق ما أرادت تحقيقه أثناء إستضافتها للقمة المذكورة؟
لقد هيأت موسكو نفسها للدفاع عن فكرتها المتمثلة بأنه حينما تتضاعف المبادلات التجارية بين دول آسيا وأوروبا خمس مرات بحلول عام 2020 (كما هو متوقع)، فإنه لا مفر أمام هذه الدول من الإعتماد على روسيا الإتحادية وحدها، بإستخدام الطرق البرية والحديدية والبحرية التي قامت بتطويرها من أجل أن تلعب دور حلقة الوصل ما بين منطقة آسيا والمحيط الهادىء، والاتحاد الأوروبي. كما إستعدت لمواجهة المبادرة الإمريكية الخاصة بالشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين دول المحيط الهادي، والمتمثلة في اتفاقية تجارة حرة بمنطقة المحيط الهادي، والتي قامت واشنطن بدعوة بعض الدول الآسيوية للانضمام إليها دون روسيا أو الصين.
غير أن ما حدث هو أن ثلاث مسائل خلافية رئيسية طغت على أعمال القمة وألقت بظلالها القاتمة عليها بصورة لم تترك معها فرصة للتداول حول مضامين الأجندة الرئيسية للقاء وعلى رأسها تحرير المبادلات التجارية والإستثمارية، وتقوية التعاون الإقتصادي.
هذه المسائل الثلاث تمثلت في:
• ما يسود العلاقات الإمريكية – الروسية من خلافات وصراعات حول النفوذ في منطقتي الشرق الأقصى والشرق الأوسط ، وحول الموقف من أطراف ثالثة كسوريا وإيران أوقضايا مثيرة للجدل كقضيتي برامج إيران النووية، ونصب شبكة للصواريخ الأطلسية المضادة بالقرب من التخوم الروسية.
• ما بات ملاحظا من علامات عدم الثقة بين واشنطون وبكين، خصوصا بعد الإنتقادات المتكررة من قبل واشنطون للصينيين حول ملفات حقوق الإنسان والملكية الفكرية والإغراق التجاري.
• التوترات السياسية في منطقة المحيط الهاديء والمهددة للسلم والتعاون والإستقرار الإقليمي، وهي قائمة بين لاعبين كبار مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين وروسيا الإتحادية وبعض أقطار منظومة آسيان حول أحقية السيادة على بعض الجزر المتنازع عليها منذ فترة طويلة مثل جزر الكوريل (تتنازع عليها اليابان وروسيا) وجزر سبارتلي (تتنازع عليها الصين مع الفلبين وماليزيا وتايوان وفيتنام وبروناي) وجزر تاكشيما (تتنازع عليها الصين وكوريا الجنوبية) وأرخبيل ديايو/سينكاكو (تتنازع عليه اليابان والصين وتايوان).
وهكذا فإن من راهن على أن تباطيء معدل النمو في العالم والأزمة النقدية في منطقة اليورو سوف يدفعان منتدى إيبك نحو تعزيز النمو عبر تحرير التجارة وتوثيق العلاقات الاقتصادية البينية، وجد أن النزاعات الحدودية والتوترات السياسية المصاحبة، إضافة إلى قرب إنتقال السلطة في بكين من زعيمها الحالي “هو جينتاو” إلى زعيم جديد، وإحتمال خروج باراك أوباما من البيت الأبيض، وهشاشة وضع الساسة الحاكمين حاليا في طوكيو، وقرب إجراء إنتخابات عامة في كل من كوريا الجنوبية واليابان كلها عوامل أضعفت من عزيمة أعضاء المنتدى على تنحية خلافاتهم جانبا من أجل الصالح الإقليمى، بل حالت أيضا دون الموافقة المطلقة على المبادرتين اللتين تقدمت بهما موسكو للقمة وهما: إصدار شهادة واحدة للمنتجات السمكية في إطار التعاون الإقتصادي لبلدان آسيا/الباسيفيكي وذلك للحيلولة دون الوقوع في مشاكل الصيد البحري غير المشروع، وإنشاء مؤسسات تلاحق المظالم الإستثمارية في جميع إقتصاديات الإيبك.
لذا كان حديث الزعيم الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحفي في ختام أعمال القمة عاما وفضفاضا وأقرب إلى التمنيات. فقد ركز حديثه على أن خيار بلاده هو المشاركة والتعاون مع بقية أعضاء المنتدى بإتجاه التكامل ولا سيما في مجالات العلوم والتكنولوجيا الحديثة والطاقة، معربا عن أمله بسرعة تخطي منطقة اليورو لأزمتها الإقتصادية كي يلقي ذلك بظلاله إيجابا على النمو في منطقة آسيا/ الباسيفيكي (تمثل واردات أوروبا حوالي خمس إجمالي صادرات منطقة آسيا/الباسيفيكي ويستحوذ المستثمرون الأوروبيون على نحو ثلث الأصول المالية في المنطقة)، ومضيفا أن روسيا تحاول اجتذاب الاستثمارات لتنمية أقاليمها في الشرق الأقصى، وأنه يمكن أن توظف الاستثمارات الصينية في مجالات مختلفة، كالتقنيات العلمية المعاصرة وفي صناعة السفن والطائرات النفاثة الكبيرة، والمروحيات الضخمة التي تزيد حمولتها عن 20 طنا، ويمكن استخدامها للإنقاذ في حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية.
أما البيان الختامي للقمة فقد جاء هو الآخر فضفاضا دون الدخول في التفاصيل العملية. إذ تضمن ان المنتدى ناقش مسألة الأمن الغذائي، وتطوير الاستثمارات في القطاع الزراعي والاتفاق مع اليابان على مكافحة الصيد البحري غير المشروع، وجرى الاتفاق على تطوير التبادل التجاري بين دول ابيك والاتحاد الأوروبي عبر ممرات روسية وفي الفضاء الاقتصادي الموحد (روسيا، بيلاروسيا، كازاخستان)، وعن طريق القطب المتجمد الشمالي. إلى ذلك قال البيان أن المنتدى إتفق على التبادل في 54 مجموعة سلعية في مجال البضائع البيئية، وعلى التكامل الإقليمي في الإقتصاد، وعلى توحيد العلاقات مع الإتحادات النقابية من أجل مكافحة البطالة، ومشاركتها في اتخاذ القرارات الاقتصادية الإستراتيجية، وعلى حماية البيئة وتنظيف الطبيعة من مخلفات الصناعات الكبيرة بما في ذلك الأنهار والمجمعات المائية الأخرى.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh