قد تكون حرية التشهير بأمانة الخصم في الرأي وبكرامته وبذمّته وبوطنيته، ومن موقع المحصن برأي أهله…. أقوى الحريات في عالمنا العربي. زادت هذه الحرية مؤخراً، بعدما اشتدّ الانقسام السياسي والفكري بين «مقاومين» يريدون فتح كل الجبهات على «المشروع الاميركي الصهيوني»، وبين آخرين لا يرون في هذه «الفتوحات» غير خراب بخراب.
«أشرف الناس! اكرم الناس! انظف الناس!». هكذا يرى «الممانعون» انفسهم. وبهذا الوصف لهم مطلق الحرية الاخلاقية في ان يمرّغوا خصومهم من غير الموافقين على اجندتهم في وحول الخساسة والعمالة والاستزلام والتبعية والتخاذل و»القبض» والسرقة والتعامي عن الحقائق التي لا يراها غير «الوطنيين الشرفاء».
هذا لا يعني أن صفوف «عديمي المقاومة» المستهدفين بالتجريح هم ملائكة الحجة الموضوعية الهادئة. فهم ايضا لهم قاموسهم التشهيري. وبينهم، فوق ذلك، من لا يردّ على الاختلاف الفكري (أو حتى على اختلاف في وجهة النظر) الا بالتشهير الشخصي وبالتشكيك في الذمة والكرامة. لكن الفرق ان «اشرف الناس» المقاومين اقوى منهم جماهيرياً وإعلامياً وثقافياً. اكثر منهم تنعّما بالتالي بحرية التشهير. مع هذا فالجميع سواسية في هذا العيب الخُلقي الفكري-الاخلاقي.
هل من حاجة الى امثلة عن هذه الحرية المقدسة؟ آخر الحريات؟
مثل واحد يكفي. ربما بسبب الضجة الاعلامية التي اثارها صاحب المثل:
افتتاحية الدكتور سماح ادريس الاخيرة في مجلة «الآداب» اللبنانية. عنوانها «نقد الوعي «النقدي»: كردستان العراق نموذجا». وفيه «تشريح» لحالة كردستان العراقية، من الدور الاسرائيلي فيها، الى حقوق الانسان والمرأة، الى تدمير كردستان… الخ. وفي هذا التشريح شيء من الحقيقة. لكن لغته الكارهة واليقينية أضعفت موضوعيته؛ وكذلك رؤيته المؤطرة بالهيكلية التنظيرية «الممانعة»، المعجَبة بخشَبيتها والمصرّة عليها… والتي لا ترى مسؤولية إلا في «المشروع الاميركي الصهيوني».
نتابع: كل هذا الوضع «المزْري» لكردستان العراق هو مسؤولية مثقف معروف ونشيط، هو فخري كريم. فالافتتاحية منكبّة عليه في بدايتها حيث «تنقد» تعامي المهرجان الضخم الذي ينظمه سنوياً عن هذه الحقائق التي تكشفها حول كردستان؛ وتتهم منظّمه بإخفاء حقائق كردستان عن مئات من المثقفين المدعوين الى هذا المهرجان. وهذا ايضا ليس مشكلة عويصة.
المشكلة الحقيقية ان الافتتاحية تنتهي بفقرة هي بيت القصيد: اذ تدعو القراء الى «تصفح الانترنت» او»الالتقاء بأي شيوعي عراقي نظيف» ليعلموا «أين آلت اموال الحزب الشيوعي العراقي وأموال الفقراء والطلاب وعائلات الشهداء، اموال مجلة النهج ودار المدى، ليعلموا صلات بعض «الشيوعيين» القدامى-الجدد بمخابرات صدام نفسه في الستينات والسبعينات، فضلا عن المخابرات العربية والاميركية والبريطانية…». (الآداب. ص96).
ردة الفعل جاءت سريعة: دعوى رفعها فخري كريم ضد سماح ادريس و»دار الآداب»؛ وفي احدى فقرات الدعوى: «للسيد ادريس حقه باتخاذ الموقف السياسي الذي يريد (…) لكن ليس من حقه ان يتجاوز حدود النقد المباح (…) الى سلوك الكراهية والاهانة وتعمد المساس بكرامة فخري كريم (…) والتشهير به وتحقيره من خلال اتهامه بارتكاب جرائم مخلّة بشرفه واخلاقه (…) افتراءات لا اساس لها من الصحة».
اما الرد على الرد فيكون بـ»ميثاق شرف» يُدعى فيه المثقفون الى التوقيع، وعنوانه «ميثاق شرف بين أنصار الكلمة الحرة». ميثاق يستند الى الدستور اللبناني حول الحرية والديموقراطية، ويحرم اللجؤ الى المحاكم «إنطلاقا من الاختلاف في الرأي او المعلومة او الدليل»! هكذا تتحول قضية النيل من الذمة المالية او الاخلاقية الى «فكر لا يجابه الا بالفكر»؛ أو الى «حقائق لا تدحضها الا حقائق». أو ايضا «ليس من اجل مجلة الآداب فقط، بل من اجل حرية كل مواطن عربي»! (بحسب ميثاق الشرف). هل من حاجة الى المزيد؟ حرية كل مواطن عربي يحميها توقيع عدد من المثقفين على هذا الميثاق دفاعاً عن «افتتاحية جريئة لاقت اعجابا من الكثيرين لا لجرأتها (هل تحتاج هكذا افتتاحية الى كل هذه الجرأة؟) في هذا الزمن الصعب فحسب، بل لوضوحها…» الخ.
ولا ينسى «ميثاق الشرف» في حملة التوقيع هذه أن يذكّر بجَميل مجلة إدريس، أو بالاحرى سلطته على الموقِّعين المفترضين، بعدما أُخذ على الخصم استقواؤه بسلطة رئيس جمهورية بلاده، اذ يقول «كم من شاعر وروائي وقاص وناقد -ما بين المحيط والخليج- صعد على صفحات الآداب….».
هذا والملف كله مع الميثاق واسماء الموقعين والدعوى القضائية المقامة ضد «الآداب»، تجدها جميعاً في صدارة صحيفة يومية مقروءة ومعروفة بمقاومتها للمشاريع الاميركية والصهيونية في المنطقة. وعنوان هذا الملف: «تضامنا مع «الآداب» وسماح ادريس»؛ وهذا فقط لقياس مدى الحملة الاعلامية ونشاطها في وجه «العميل… غير النظيف»، فخري كريم. وقد وقعت على هذا الميثاق شخصيات سياسية وثقافية بعضها نافذ جدا… وينتمي جلها الى المعسكر «المقاوم» نفسه.
الآن: قد يكون فخري كريم قد ربح القضية ضد «الآداب»، وقد يكون خسرها. بل اكثر من ذلك: قد تكون ذمة فخري كريم نظيفة وقد لا تكون. لكن المشكلة ليست هنا: ليست في الشخص نفسه، بل في النهج التشهيري الحر المعتمد بين الخصوم السياسيين او الفكريين.
والسؤال الذي يفرضه هذا النهج هو: اذا افترضنا أننا بتنا معسكرين كبيرين: بين «مقاومين» وبين «محذرين من خراب هكذا مقاومة»، بين معسكرين يرى كل واحد فيه في المعسكر الآخر انه «شر مطلق»، ولا يرى في نفسه الا «خيرا مطلقا»… فهل هذا تصور واقعي؟ «واقعي» بمعنى مطابق للواقع…؟ ان يكون كل المقاومين خيّرين نظفاء شرفاء، وغير المقاومين اشراراً مشبوهين عملاء ملوثين؟ وهل يعقل العكس ايضا؟
ميثاق التضامن مع سماح ادريس ينتمي الى مدرسة التشهير التي نعاني منها كلنا. اذا كان هناك من ميثاق فبين متخاصمين، ليس بين متحابين. وهذا هو الامتحان الحقيقي ضد عيب التشهير الذي لا ينال من المشهَّر بهم فحسب، بل من ممارسيه ايضاً.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة