رب ضارة نافعة. ذلك هو المثل الشعبي الذي يطلقه الناس عندما ينتقلون من محنة تصيبهم إلى وضع جديد، مختلف عما كان عليه الحال في لحظة المحنة. وهو الوضع الذي يعيد لهم بعض الراحة، ويخفف عنهم ما يكون قد لحق بهم من آلام من جراء تلك المحنة. وهذا هو بالضبط، أو ما يشبهه، القول الضمني الذي عبّر به اللبنانيون بحذر عن مشاعرهم، في أعقاب الإتفاق الذي وقّع في الدوحة. وكان هذا الإتفاق قد ولد، بعسر، بعد أحداث السابع من أيار المأساوية، ثم توّج في الخامس والعشرين من الشهر ذاته بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان، الرئيس الثاني عشر للجمهورية اللبنانية، منذ الإستقلال. وتشاء الصدف أن يكون هذا اليوم بالذات، هو الذي تم اختياره ليكون بداية النهاية للأزمة التي عصفت بلبنان، وطالت في الزمن والمحن، وأرهقت اللبنانيين، وعطلت الدولة ومؤسساتها. فمن المعروف أنه في مثل هذا اليوم بالذات من عام 2000، كان لبنان قد حقق، بالمقاومة المسلحة، مقاومة حزب الله، وبالتضحيات الجسام، وبتضامن اللبنانيين من كل الإتجاهات، تحرير أرضه من الإحتلال الإسرائيلي. وهو كان انتصاراً تاريخياً في ذلك العام. وكان ذلك الإنتصار الأول من نوعه، إنتصاراً غير مسبوق، في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي على امتداد الأعوام التي أعقبت “النكبة”.
صدفة هي أم ميعاد، تطابق هذين الموعدين، موعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، بعد سبعة أشهر من التعطيل المفتعل لهذا الإستحقاق، والعيد الثامن لتحرير الأرض من الإحتلال الإسرائيلي. لا يهم. فرب صدفة هي خير من ميعاد.
فرح اللبنانيين باتفاق الدوحة كان عظيماً. لكن هذا الفرح العظيم، برغم صدق الشعور فيه، وبرغم أهميته السياسية، لم يقلل من الغصة عند كثرة من اللبنانيين. ومصدر هذه الغصة يكمن في الآلام العميقة التي سبقت ذلك الفرح. وطبيعي أن يكون من حق اللبنانيين، في شكل عام، ومن حق بعض اللبنانيين، خصوصاً، الذين فقدوا أعزاء لهم خلال اجتياح حزب الله للعاصمة بيروت ولبعض مناطق الجبل، ومن حق كثرة من اللبنانيين الذين دفعوا من أموالهم وأرزاقهم الكثير في ذلك الإعتصام الذي عطلت به المعارضة وسط بيروت خلال عام ونصف العام، من حق اللبنانيين هؤلاء أن يسألوا، أو يتساءلوا، من دون أن يتنظروا الجواب من أي كان: هل كان اتفاق الدوحة الذي فرحوا به بحاجة، لكي يتحقق، إلى كل هذه الآلام، وإلى كل هذه الكوارث والمآسي، وإلى كل هذه التضحيات البشرية والمادية؟ وهل كان اتفاق القادة من طرفي الصراع بحاجة إلى كل هذا الحشد من القوى العربية والعالمية لكي يتمكنوا من الوصول إلى هذا الإتفاق؟ وهل كنا بحاجة فعلاً إلى كل هذا الحشد الكبير أيضاً لتأمين انتخاب الرئيس التوافقي العماد ميشال سليمان؟
لكن السؤال الأكثر إلحاحاً، بالنسبة إلى الكثرة الكبيرة من اللبنانيين، هو ذلك السؤال الذي لا يقدرون جميعهم على طرحه بالجرأة وبالصراحة المطلوبين، اليوم وربما غداً وبعد غد: هل كان لبنان حقاً بحاجة إلى أن يبقى على الدوام في حالة مقاومة مسلحة، بديلاً من الدولة، بعد أن حقق شعبه، بتلك المقاومة بالذات، وبذلك التضامن الشعبي والسياسي، الإنتصار على العدو الذي كان يحتل الأرض، وأخرجه بالتضحيات الجسام مدحوراً؟ وما هي الحكمة في أن يبقى لبنان لوحده، بعد أن حرر أرضه، ساحة مفتوحة للصراع، تمارس فيها كل قوى الأرض تناقضاتها، على حساب مصلحته هو، أي لبنان، وعلى حساب حرية شعبه وأمنه وسلامه؟
ليس ضرورياً أن يجاب عن هذه الأسئلة اليوم، في هذه اللحظة العارمة العامرة بالفرح، المفتوحة على مستقبل أفضل، بالطريقة التي طرحت فيها. ولا بد أن يأتي اليوم، ولو بعد حين، لتطرح فيه الأمور بحرية أكثر وبمسؤولة أكبر، وبمراجعة نقدية يقوم بها الجميع من مواقعهم المختلفة. لكن الإجابة الأصح والأسلم عن هذه الأسئلة، في هذه اللحظة بالذات، الإجابة الأكثر واقعية، التي يطالب بها اللبنانيون جميع القوى السياسية من دون استثناء، هي التي تتمحور حول مدى الجدية والصدقية في ولوج لبنان، فعلاً لا قولاً، في شكل طبيعي، في إطار اتفاق الدوحة، وعلى قاعدة الدستور الذي أسس له اتفاق الطائف، ولوجه الطريق الموصل إلى استعادة سلامه وحريته واستقلاله. وهو الطريق الذي يفترض أن تستعيد فيه الدولة وظائفها كاملة، ويستعيد فيها المجتمع اللبناني حريته كاملة، ويتم فيه الإحتكام إلى الديمقراطية التي كانت في أساس قيام لبنان، في تاريخه القديم وفي تاريخه الحديث.
على قاعدة ما تقدم أود أن أسهم في عرض تصوري لمرحلة ما بعد اتفاق الدوحة، ولمرحلة ما بعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. وهذا التصورهو أشبه ما يكون بالقراءة الرومانسية لمستقبل لبنان في الحقبة القادمة. والرومانسية، في قراءتي هذه للمستقبل، تكمن في أن ما أطرحه من مهمات للجمهورية الثالثة، إنما يحتاج إلى وقت لكي يتطابق مع الوقائع الجديدة. يتمثل الضروري من هذه الوقائع بارتقاء القوى السياسية المتصارعة إلى إدراك مسؤولياتها في التعامل مع بلدها. كما يتمثل باستعادة المكونات الشعبية اللبنانية وعيها، لكي تكون، بالفعل لا بالغرائز، رقيباً حقيقياً على القيادات السياسية، وعامل ضغط على تلك القيادات لكي تقوم بالدور الذي يعود لها بالحفاظ على الوطن ومصالحه وعلى الشعب وحقوقه، بدل أن تكون هذه المكونات فاقدة للوعي وللإرادة، منساقة، في شكل غرائزي أعمى، وراء زعاماتها، وهي تمارس، أي هذه الزعامات، بحق الوطن والشعب، هذا الفعل التدميري للبنان من خلال انقساماتها وصراعاتها واستقوائها بالخارج. وحين يلج لبنان هذا الطريق يكون قد دخل في الجمهورية الثالثة.
وفي الواقع، فحين أتحدث عن الجمهورية الثالثة في لبنان، فلست أرمي بذلك إلى تجاوز ما نص عليه اتفاق الطائف. بل إن ما أرمي إليه هو الإسهام في التحديد الدقيق للديمقراطية التي نص عليها اتفاق الطائف، من خلال إدخال بعض التدقيقات والتوضيحات والإضافات إلى هذا الإتفاق، لكي يتم البدء بتطبيق بنوده، وبنود الدستور الجديد الذي قام على أساس هذا الإتفاق، تطبيقاً صحيحاً، خلافاً لما ساد طويلاً في ظل الوصاية السورية. فمن المعروف أن تلك الوصاية قد عملت على تجاوز بنود اتفاق الطائف، وعلى القفز فوقها، وعلى تعطيلها، وعلى تغييب جوهر ما رمى إليه الإتفاق، نصاً وروحاً. وكان الهدف من ذلك التعطيل لاتفاق الطائف إبقاء لبنان رهينة لمصالح أصحاب تلك الوصاية، بهدف الوصول، في نهاية المطاف، إلى إلحاق لبنان بالوصي الشقيق الجار، سوريا، بدلاً من أن تكون العلاقة بين البلدين الشقيقين الجارين علاقة أخوية ندية تعمق الروابط التاريخية بينهما. وهذا الأمر، أعني إعادة العلاقة بين سوريا ولبنان إلى طبيعتها التي أشرت إليها، يشكل اليوم هدفاً حقيقياً مطروحاً أمام جميع اللبنانيين العمل من أجل تحقيقه.
إن هدف هذه التدقيقات والتوضيحات والإضافات هو الوصول إلى الصيغة التي تجعل الديمقراطية اللبنانية، العريقة في وجودها في هذا البلد، ديمقراطية أكثر رسوخاً، وأكثر قدرة على طمأنة جميع مكونات المجتمع اللبناني إلى أن حقوقها مصانة، وإن صيانة حقوقها هي من صلب هذه الديمقراطية، التي استلهمها لبنان مما هو سائد في الأنظمة التي تحمل تلك الصفة في عالمنا المعاصر.
غير أن الكلام عن الجمهورية الثالثة، لا سيما بعد توقيع اتفاق الدوحة، إنما يشير إلى أننا، باعتماد هذه الصيغة التي أشرت إليها لتطبيق اتفاق الطائف، من جهة، والبدء بتطبيق بنود هذا الإتفاق من دون تشويه أو إعاقة، من جهة ثانية، إنما ننتقل من جمهوريتين، هما جمهورية الإستقلال وجمهورية الوصاية السورية، إلى الجمهورية الثالثة، الجمهورية الديمقراطية البرلمانية، جمهورية التعدد والتنوع والإستقرار، جمهورية التطور في الإتجاه الأكثر ارتقاءاً، والأكثر استجابة لحاجات الشعب اللبناني، والأكثر تعبيراً عن أن لبنان هو جزء من العالم العربي وأنه جزء، في الوقت عينه، من العالم المعاصر، ومن تحولاته، مسابقاً في ذلك العديد من أشقائه العرب.
إن الحديث هنا عن الجمهورية الثالثة ليس جديداً بالنسبة إليّ. فقد سبق لي أن أصدرت كتاباً تحت هذا العنوان في عام 2001، العام الذي تلا تحرير الأرض من الإحتلال. وقد ركزت في فصول الكتاب على الأمور التي اعتبرتها أساسية وجوهرية في تلك الحقبة، لكي يستعيد لبنان كيانه وحريته واستقلاله وسلامه، بعد عقد على انتهاء الحرب الأهلية، وبعد عام على تحرير الأرض.
وإذ أشير إلى هذه الأمور التي ظلت تشغلني، مثلما تشغل شعبي، فلكي أتابع الجهد في الإتجاه ذاته. لكنني لن أدخل هنا في قضايا ذات أهمية متصلة بتاريخنا القديم والحديث وبصراعاتنا وباستقوائنا بالخارج وبالنتائج التي ترتبت على ذلك الوضع. سأدخل مباشرة في البحث في المهمة الراهنة المطروحة أمام جميع اللبنانيين، المهمة، التي بانخراطنا في إنجازها، نسهم في إخراج بلدنا من الأزمات التي ظلت تعصف به منذ الإستقلال حتى هذه اللحظة من تاريخه.
فما هي هذه الإقتراحات التي أرى ضرورة إدخالها في الدستور، أو في القوانين، لكي تؤمن، في الواقعية، الصيغة الأكثر استقراراً للنظام الديمقراطي في لبنان؟
الإقتراح الأول يتعلق بتحديد الصيغة التي تؤمن احترام التنوع والتعدد في المجتمع اللبناني، الصيغة التي تم تبنيها في اتفاق الطائف. وهو ما يتعزز بالإقرار باللامركزية الإدارية، التي تتشكل من مجالس محافظات ومجالس أقضية ومجالس بلديات منتخبة جميعها ديمقراطياً، أي خارج التقسيم الطائفي. ويتم ذلك بإعادة تشكيل المحافظات من خلال زيادة عددها. على أن يراعى في زيادة العدد التمثيل الصحيح من جهة، ووحدة الشعب من جهة ثانية. وبالطبع فإن اللامركزية لا يجوز بأي شكل من الأشكال أن تتعارض مع مركزية الدولة في مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والمالية والقضائية والدفاعية والأمنية، وفي السياسة الخارجية. لأن مثل هذا التعارض، إذا ما حصل، يكون بداية حقيقية لتقسيم البلد، أي لتحويله إلى فدرالية طوائف، مهيأة في أي وقت للإنتقال إلى نزاعات فيما بينها وإلى حروب أهلية. إن هذه المؤسسات المركزية، أسوة بما هو قائم في الكثير من الأنظمة الديمقراطية، هي التي تؤمن وحدة الدولة والوطن والشعب، وتؤمن استقلال البلاد عن كل تدخل خارجي في شؤونها.
الإقتراح الثاني يتعلق بتحديد الصيغة التي تضمن لكل مكونات المجتمع وجودها وحقوقها الطبيعية. وهذا التحديد وضعه اتفاق الطائف، وأكد فيه على أن تكون مؤسسات الدولة كلها مكونة من مسيحيين ومسلمين بالتساوي، لا سيما في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد نص اتفاق الطائف على إنشاء مجلس شيوخ يمثل تمثيلاً دقيقاً كل الطوائف اللبنانية. لذلك ينبغي وضع هذا البند من الإتفاق موضع التنفيذ. على أن تكون وظيفة هذا المجلس مشاركة مجلس النواب في اتخاذ القرارات المصيرية وحدها، من دون أي تدخل منه، أي مجلس الشيوخ، في القضايا المتصلة بإدارة شؤون البلاد اليومية. والمقصود هنا بالقضايا المصيرية تلك القضايا التي تتعلق بالحرب وبالسلم، وبتوقيع المعاهدات، وبتعديل الدستور، وبسوى ذلك مما يتصل بحياة الوطن وبمصائره، وبنظامه الديمقراطي.
الإقتراح الثالث يتعلق بالنظام الإنتخابي الذي يستند إليه اللبنانيون لاختيار ممثليهم في المؤسسات والهيئات المنتخبة. وهو الأمر الذي كان على الدوام موضوع خلاف واختلاف لم يكن من الممكن الحسم فيهما حتى هذه اللحظة من تاريخ لبنان، بما في ذلك في اتفاق الدوحة ذاته. وفي اعتقادي فإن أفضل صيغة تحترم فيها إرادة اللبنانيين هي أن يكون الإنتخاب إلى مجلس النواب على مستويين مناصفة: نصف عدد النواب ينتخبون على أساس الدائرة الفردية المتساوية فيها نسب الناخبين. والنصف الثاني من النواب ينتخبون على أساس الدائرة الوطنية القائمة على النسبية. على أن تحترم في كل من المستويين المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. ولهذه المناصفة الطائفية وظيفة، تتصل بخصوصية لبنان، القديمة والثابتة، في محيطه العربي الكبير. وجوهر هذه الوظيفة هو الإقرار، من خلال المناصفة الطائفية، بهذه الخصوصية للبنان، التي ينفرد بها عن سائر البلدان العربية. أما فيما يتعلق بالمجالس المحلية، في المحافظات والأقضية، وبالمجالس البلدية، فيجب اتباع النسبية، وتجاوز القيد الطائفي في التمثيل.
الإقتراح الرابع يتعلق بالبحث في إعادة صياغة الأسس والقوانين التي تؤمن لمؤسسات الدولة القيام بوظائفها، وذلك أخذاً في الإعتبار التجربة التي مر بها لبنان، منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب حتى هذه اللحظة من تاريخه. وفي تجربة الرئيس شهاب ما يستحق العودة إليه، وتجديده. وتوجد في الأدراج قوانين كانت سائدة، تم تجاوزها، وتشويهها في التعديلات التي كانت تخدم مصالح ومطامح ومطامع، نأمل أن يكون لبنان قد بدأ، في العهد الجديد، التحرر منها، لصالح الوطن، ولصالح الشعب. وعندما نتحدث عن المؤسسات القديمة، وعن القوانين التي وضعت لتأمين شروط أفضل لممارسة وظائفها، فإنما نرمي إلى الربط بين أمور أساسية: التقدم الإقتصادي في مجالاته كافة، الذي توفره وتوفر شروطه القطاعات المنتجة، والدخول في ميدان إنتاج التكنولوجيا الحديثة، والتقدم العلمي والمعرفي الذي تؤمنه المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث الرسمية والخاصة، والتقدم الإجتماعي الذي يتمثل بوضع القوانين المتصلة بالأجور وبتأمين فرص العمل للشباب، وبالضمانات الصحية خصوصاً، وبضمان الشيخوخة ونهاية العمل، وسوى ذلك من ضمانات، والتقدم العمراني، الذي يجب أن توضع له قوانين تحد من عشوائيته، والتقدم في ميدان الحفاظ على البيئة.
ربما يكون من الرومانسية التفكير بإخراج لبنان من النظام الطائفي، في صيغته القديمة وصيغته الجديدة الراهنة. لكننا لا نستطيع إلا أن نحلم بذلك، وأن نناضل من أجل أن نحقق هذا الحلم. وربما يكون من المفيد، في هذا الصدد، أن نستعين بمادتين. الأولى مستقاة من الدستور القديم، المادة 95، التي تشير إلى الإتجاه لتحرير لبنان من الطائفية. والمادة الأخرى، التي وردت في اتفاق الطائف، والتي تدعو إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية من النظام السياسي. وتدخل، في هذا السياق، الحاجة للبدء بوضع قانون جديد للأحوال الشخصية، من خلال ترك الحرية للمواطنين في اختيارهم نمط أحوالهم الشخصية. هذا أولاً. ثم جعل المحاكم الشرعية أكثر استقلالاً عن مرجعياتها الدينية، عبر تحويلها إلى محاكم يُختار لها، من خلال مجلس الخدمة المدنية، أصحاب الكفاءات العلمية التي بوجودها في هذه المحاكم تحررها، أي هذه المحاكم، من مزاجية لا رقابة عليها في تطبيق الشرائع الدينية للطوائف المختلفة، وتدخلها أكثر في صلب تلك الشرائع، مأخوذاً فيها في الإعتبار، العصر وتحولاته وتحولات البشر فيه.
هذه الخطوط العريضة التي تشكل، في نظري، أساساً لقيامة لبنان فيما يشبه جمهورية ثالثة، إنما تحتاج إلى أن تخرج عن صمتها تلك المجموعات الكبيرة من اللبنانيين، وتشكل بنهضتها الواعية كتلة تاريخية حقيقية حاملة مشروع لبنان الغد، لبنان الديمقراطي الحر السيد المستقل، لبنان التعدد والتنوع، لبنان الذي امتاز دائماً بصيغته الديمقراطية عن كل جيرانه وأشقائه، لبنان الثقافة والإبداع المفتوح على كل منجزات العصر في ميادينها المختلفة. هذه القوى الكبرى من اللبنانيين، إذ تنهض للقيام بدورها التاريخي هذا، فإنها معنية، وهي في طريقها إلى تحقيق الحلم ببناء لبنان الغد، بأن تجهد لجعل المجتمع اللبناني، بمؤسساته المختلفة، مؤهلاً للتعامل مع الدولة، ليس فقط فيما يتعلق بوظيفتها كضامنة لوحدة اللبنانيين، والمدافعة عن استقلال لبنان وسيادته، بل كذلك للإهتمام بكل ما يتصل بمصالح الشعب، في كل المجالات، ومنع استئثار الرأسمال وأربابه بالثروة الوطنية.
إلا أن لهذه الإقتراحات التي أسوقها هنا شرطاً ضرورياً، وأساسياً، لكي يكون بالإمكان الحلم بتطبيقها، والحلم بالسلم وبالحرية، في ظل ولوج الطريق إلى تطبيقها. يتمثل هذا الشرط بتحقيق أمرين متلازمين: الأمر الأول هو الإقرار من كل المكونات السياسية والطائفية اللبنانية بالدور الوحيد للدولة في كل ما يتصل بشؤون الوطن، لا سيما ما يتعلق بالدفاع عن أرضه وبتحرير ما تبقى منها تحت الإحتلال، وبتأمين مستلزمات حريته واستقلاله وسيادته. الأمر الثاني هو الدخول في زمن السلم من أبوابه الواسعة تحت الشعار الذي ينتظره اللبنانيون: وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلاح.
قد يبدو في هذا الطموح أنني أذهب في اتجاه الحلم. لكنني أعتبر أن اتفاق الدوحة، الذي يعيد الإعتبار إلى اتفاق الطائف، قد مهد له. وفي أي حال فإن أي تغيير من النوع الذي يحتاج إليه لبنان واللبنانيون لا بد أن يكون مقترناً بحلم يؤسس لغد أفضل. وأزعم أن الوقائع الجديدة قد بدأت تشير إلى أن لبنان واللبنانيين قد بدأوا يقتنعون بالمخاطر التي قادهم إليها استقواؤهم بالخارج، وبأنهم باتوا أكثر تصميماً على الخروج من حروبهم الداخلية والخارجية على حد سواء. ويعزز قناعتي هذه ما شهدته من مظاهر فرح، في أعقاب إعلان اتفاق الدوحة وفك الإعتصام الأسود، في وسط بيروت، ثم في يوم انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. فهي مظاهر تعيد إلى الأذهان مشهد اللبنانيين الذين خرجوا في الرابع عشر من آذار من عام 2005 ليعلنوا رغبتهم في الدخول في عصر الحرية والديمقراطية والإستقلال، وفي عصر السلم، عصر الدولة. وإذا كانت الأحداث التي شهدها لبنان في السنوات الثلاث الماضية، بدءاً بالإغتيالات التي طالت رموزاً سياسية وثقافية وإعلامية كبيرة، مروراً بحرب تموز وبنتائجها الكارثية، وصولاً إلى الإعتصام السيء الذكر، وحرب بيروت الظالمة الأخيرة، إذا كانت تلك الأحداث قد خلقت إحباطاً لدى الشباب ويأساً، أو ما يشبه اليأس من المستقبل، فإن اتفاق الدوحة وانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، ومظاهر الفرح التي شملت بيروت وسائر المناطق، إن كل هذه الوقائع الجديدة مرشحة لأن تعيد إلى أولئك الشباب الحلم من جديد بوطن حر سيد مستقل، وطن لكل أبنائه، وطن لوحدتهم ولحقوقهم ولآمالهم بالمستقبل.
* كاتب لبناني
قراءة رومانسية لمرحلة ما بعد اتفاق الدوحة: مرحباً بالدولة وبالسلم، وداعاً للحرب وللسلاح!باختصار: اتفاق الطائف + مسالمة إسرانيل = إسقاط منطق المقاومة المسلحة. لا بأس. ولكن كان المتوقع ان يكون حديثا ما عن ضمانات دولية ما! ايضا لا بأس . اما الحديث عن الرومانسية والحلم ففيه شيءمن التجاوز. هو حديث ” واقعي” الى درجة الإعتناء الشديد الوضوح باستعادة ” الوجاهة ” الشخصية والمناطقية التي، والحق يقال ، استحوذت على جماع تفاصيلها مقاومة اليوم التي حققت ما اسماه الكاتب” انتصارا غير مسبوق”… لكن الحافز، على اهميته ، لم يخرج الكلام من رتابة المكرر والممجوج!!! ولست ادري لماذا تذكرت رحلة السيد مروة… قراءة المزيد ..