بالعود إلى مادّة عَنسَ، نتبيّن أنّها تُطلق على الرجل والمرأة. ” فالعانس من الرجال والنساء الذي يبقى زمانا بعد أن يدرك (يبلغ) لا يتزوّج’، و”رجل عانس والجمع عانسون’. وفي السياق نفسه نجد أنّ مادة عَزب تفيد: ” العُزّاب الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء. وتعزّب الرجل: ترك النكاح، وكذلك المرأة ‘. وهذا يعني أنّ اللغة العربية لم تكن، في البدء منحازة لجنس على حساب آخر. ولكنّ التداول اللغوي رسّخ العكس فاستقرّ في الأذهان أنّ العنوسة تخصّ النساء فهي عيب طارئ عليهن، يُخرجهن من حالة ‘الطبيعي’ إلى حالة ‘غير الطبيعي’ وغير السويّ. ولذلك استدرك اللغويون فقالوا: العانس ” أكثر ما يُستعمل في النساء” فعبّروا بذلك عن قيم المجتمع البطريكي ومصالحه. فلا غرابة حينئذ أن وجدنا اللغويّ يُسهب في تعريف العانس من النساء وفي المقابل ألفيناه يوجز في تعريف العانس من الرجال. فـ”المُعنسة والعانس إذا كبرت وعجزت في بيت أبويها ،إذا طال مَكثها في منزل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار هذا ما لم تتزوج”. و”عَنست إذا صارت نَصَفا وهي بكر لم تتزوج ، العانسُ فوق المُعصِر(التي دنا حيضها) وهي “التي لم تتزوج وهي تترقّب ذلك”.
والجدير بالذكر أنّ عددا من اللغويين أجازوا فعل ‘عَنست’ المرأة ، أي كانت فاعلة متحكّمة بإرادتها بينما اعترض آخرون فرأوا ”أنّه لا يقال عَنست بل عُنّست وعنًّسها أهلها، أي حبسوها عن الأزواج”، وهو أمر يخبر عن رؤية تجعل أمر النساء بيد الرجال. فالمجتمع هو المتحكّم بمصيرهن يخضعهن للعلاقات التبادلية بين القبائل وفق نظام المصاهرة وما يقوم عليه من مصالح. ومن ثمّة لا يمكن للمرأة أن تكون صاحبة قرار.
يعكس هذا الوضع التمييزي خصوصيات مجتمع اعتبر أنّ الحياة لا تستقيم إلاّ داخل مؤسسة الزواج. فمن خلالها يمارس النكاح الحلال ويتكاثر القوم ويؤسّسون الأسر وينجبون الأبناء، وفيها يحتّل المرء موقعه داخل النظام الاجتماعي ويضطلع بمجموعة من الأدوار.
ولمّا كانت المرأة مسؤولة عن النهوض بمجموعة من الأدوار فإنّها خضعت منذ الطفولة لفترة تدريب تُلقّن من خلالها المنظومة القِيَميّة التي تؤهّلها لأن تكون امرأة مطلوبة للزواج: وجسدا مرغوبا فيه، وفي مرحلة لاحقة أمّا صالحة . إنّ جوهر وجود المرأة يتوقّف على مدى قدرتها على ضمان موقع لها داخل مؤسسة الزواج إذ لا إمكانيّة للاعتراف بكينونة المرأة إلاّ متى كانت ‘تحت’ رجل يتولّى أمرها، ويمارس سلطته من خلالها ويثبت رجولته بواسطتها. فكلّما أشعرته بضعفها وحاجتها إليه انتشى وصار مزهوّا. وكلّما أدركت المرأة أنّ حياتها لا تستقيم إلاّ متى كانت زوجةَ فلان وأمَّ فلان وأخت فلان ازداد وعيها بأنّها نالت مُرادها وتميّزت عن أخريات قصّرن عن الاضطلاع بهذه الأدوار وحُرمن من نيل هذه العطايا.
وليس يخفى أنّ المرأة /المتزوجة /المُنجِبة تشترك مع الرجل في الإستنقاص من شأن ‘العانس’ التي لم تدرك من نعيم الحياة إلاّ الفُتات، بل إنّها تساهم، عبر فعل التنشئة الاجتماعية، في تكريس مجموعة من الصور النمطية والتمثّلات الخاصة بـ’العانس’. فتبدو ‘العانس’ وفق هذا التصوّر غير مكتملة الأنوثة، متدنّية المنزلة، مفتقرة إلى الجمال غير قادرة على الإنجاب. ولذلك تفقد المرأة ‘العانس’ إحترام الآخرين لها باعتبار أنّها كائن مرفوض اجتماعيا وملعون، خاصّة إن تمرّد على وضعٍ ارتأى له أن يكون كائنا بغيره غير مستقلّ بذاته. فوجود المرأة لا يكون إلاّ إدماجيا: في الآخر.
ولئن بدا حضور ‘العانس’ في التمثيل الثقافي محدودا إن لم نقل مغيّبا، فإنّ التحوّلات الطارئة على مكانة المرأة في العصر الحديث جعلت نظرة المرأة إلى ذاتها مختلفة. فقد ساهم التعليم وانتشار مجموعة من القيم الحداثيّة كالحرية والاستقلالية والكرامة والفردانية، فضلا عن التأثّر بثقافة حقوق الإنسان، في تغيير نظرة المرأة إلى ذاتها ومحتوى مطالبها. فبات التحصيل المعرفي يتصدّر سُلّم الأولويات في الحياة باعتباره الضمان الوحيد للسعادة، وصار تحقيق الاستقلالية المادية والمعنوية مطلبا أساسيا يَشغل اهتمام عددا لا يستهان به من النساء.
والناظر في الإنتاج الإبداعي في مجال الرواية، والقصة، والشعر، والسينما والرسم، والنقد، والمسرح، والكتابة في مواقع الإنترنت، والمدوّنات، وغيرها من أشكال التعبير، يتبيّن أنّ موضوع العنوسة لم يعد مغيّبا عن ساحة النقاش. فإلى جانب الدراسات الاجتماعية والنفسية، وغيرها برزت في السنوات الأخيرة روايات عديدة، وخاصّة الروايات النسائية التي تعالج موضوع العنوسة من زاوية نقدية بادية في لبوس فنيّ. نذكر على سبيل المثال ‘نساء بأقفال’ لـ”هيفاء بيطار” التي عبّرت عن معاناة ‘العانس’ من عقليّة المحيطين بها الذين يفرضون عليها قوانين صارمة تنتقص من كينونتها وتحوّلها إلى نصف إنسان يسخّر حياته لخدمة الآخرين: ‘صار شعورها الوحيد الذي تحسه تجاه كلّ شيء في حياتها هو الازدراء لأنّها ملّت من هذا الكفاح اللامجد، كفاح دون آمال لترويض طاقة الفرح والحبّ وسحق عنفوان الرغبة الجنسية، وتحويل كلّ تلك الطاقات الحيويّة المتفجّرة النابضة بحبّ الحياة إلى سمّ بطيء…. سمّ اسمه الصبر’.(منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008، ص 8)
أمّا الفضاء الافتراضي فإنّه وفّر مساحة تحرّر حفزت عديد الفتيات على إنشاء مواقع أو منتديات أو مدوّنات أو مجموعات على “الفايس بوك” للتعبير عن ذواتهن. نذكر على سبيل المثال موقع ‘عوانس من أجل التغيير‘ و موقع العانس، ومدوّنة ‘عايزه اتجوز‘ لغادة عبد العال التي تحوّلت إلى رواية بلغت طبعتها السابعة. (صدرت عن دار الشروق ، القاهرة، 2008)
ونظرا إلى أنّ عددا من الفتيات أعرضن عن توظيف هذه الوسائل التواصلية، وخاصّة ما تعلّق منها بالإعلام الجديد لعرض الذات افتراضيا (Virtual Seduction) والبحث عن عريس، والترويج لإعلانات الزواج “أنا هنا يا ابن الحلال، على الفايس بوك” وارتأين استغلال هذه الوسائط للتعبير عن أفكارهنّ وحقوقهن وذواتهن Express your Self) ) فإنّنا ارتأينا الوقوف عند هذه النماذج التي تعكس تحوّلا على مستوى الوعي.
ترفض فئة من الفتيات’العوانس’:
1- البقاءَ في وضع المفعول به، المعبَّر عنه بالنيابة، ولذلك تفتكّ الفتاةُ القلمَ لتكتب عن تفاصيل تخصّ الحياة اليومية لآلاف الشبّان والشّابات.
2- استمرارَ الجماعة في تداول لفظ ‘عانس’ المشحون بدلالات سلبية فهو بمثابة وصم اجتماعي ونفسي للفتاة يحكم عليها بالبقاء في الهامش.
3- قصر استعمال لفظ عانس على الإناث وحدهنّ وكأنّ الرجل إذا ما كان عانسا لا يضيره هذا في شيء.
4- الضغط الاجتماعي الممارَس على الفرد والممارسات الإقصائية التي تكرّس تهميش من كانوا خارج مؤسسة الزواج وإدانتهم.
5- العنف اللفظي المسلّط على الفتيات، والحَجْر الممارس على حريتهن في أن يخترن الزواج أو عدم الزواج إذ لا يخفى أنّ النظرة السائدة تعتبر أنّ الفتاة التي ترفض باختيارها أن تعيش في ظلّ رجل امرأة منحرفة أو مسترجلة ترفض أنوثتها وفي كلتي الحالتين هي شاذّة. “لازم المجتمع يبطّل يحصر البنت في دور العروسة وبس’.( ‘عايزه اتجوز’ ص20)
6- تشييئ المرأة، واعتبارها منتوجا قابلا للاستهلاك والتسليع وفق أحكام العرض والطلب فإذا ما تجاوزت الفتاة سنّ الشباب اعتُبِرَت سلعة فاقدة لمعايير الجودة، انتهت صلوحيتها وقد تتسبّب في الأذى.
7- الخطاب الذي يقرِن ظاهرة العنوسة بنظريّة المؤامرة التي تُحمّل الغرب كلّ ما يجري في العالم العربي، واتّخاذ الإحصائيات المبالغ فيها: ‘العوانس في مصر، في تونس، في الخليج… مطيّة لإدانة ما حققته المرأة من مكاسب والتنفير من الفكر الحداثي، وخاصة “العلمانية التي تعدّ شرّ البلية” والترغيب في زواج القاصرات. (مقال غادة الترساوي، نصف الإناث فاتهن قطار الزواج: في تونس… متحررة بدرجة عانس’،26 أبريل 2009، موقع islamonline.net)
ولئن ارتأت بعض الفتيات ممارسة الحكي والبوح والتنفيس من خلال فعل الكتابة، فإنّ عددا آخر قارب موضوع العنوسة من زاوية مختلفة نأت عن التطرّق إلى الموضوع من موقع “الضحيّة “التي تشكو النّاس والزمان، وتصف معاناتها ومدى إحساسها بالوحدة والحرمان العاطفي والجنسي والقهر والخواء.
إنّ موضوع العنوسة يوضّح ما طرأ على الهويات من تغييرات إذ تصدّع بنيان الرجولة وبرزت ممارسات جديدة كتعهّد الجسد الذكوري بتدليكه وتزيينه… وظهر سلوك جديد يجعل الرجل يتشبّه بالمرأة في المشية وطريقة الكلام… وهو ما جعل بعض الفتيات يعزفن عن الارتباط برجال لا يعكسون أنموذج الرجولة ويفضلن العيش بمفردهن على أن يتورطن في علاقة يكون فيها الزوج عوّالا على امرأته.
وبالمثل تغيّرت ملامح الأنوثة واختلفت صورة المرأة وموقعها في بعض المجتمعات ممّا جعل الرجل يهاب المرأة ‘القويّة’ ويحذر جانبها ويرفض الاقتران بها لأنّها قد تستقوي عليه أو تنازعه القيادة في الحياة الأسرية بسبب ‘تلوّثها” بالأفكار الغربية، وإصرارها على أن تكون في موقع صنع القرار، ولهثها وراء وسائل ‘التمكين” سياسيا واجتماعيا وفكريّا.
وأدّى جدل الأنوثة والذكورة إلى ظهور علاقات تبادلية جديدة. فأمام استشراء خطاب ترهيبي من ظاهرة العنوسة الأنثوية يحذّر من خطر يتهدّد الأمّة، تغيّرت نظرة بعض الرجال إلى ذواتهم. فكم من فتاة رامت الارتباط برجل “على سنّة الله ورسوله”، فصار يفرض شروطه ويوضّح لها سنّته وقوانينه: “عايز واحدة خام لا خرجت ولا اتكلمت مع حد غيري’.( ‘عايزه اتجوز’ ص9). وإن رفض الأهل الإذعان لمطالب الرجال ردوّا: ‘خلّيها تعنس”.
والواقع أن نمط العلاقات بين الفتيات حكمته معايير أخرى. فصار التنافس على أشده بين هؤلاء من أجل الظفر برجل وحيكت المؤامرات والدسائس وبات الصراع جليّا. تقول بطلة ‘إسمه الغرام’ لـ”علوية صبح”، متحدثة عن: ” امرأتين أعرفهما تخاصمتا بعد قصة صداقة طويلة بينهما، عندما لطش إحداهما وغازلها شاب مشى خلفهما في شارع الحمرا. كلّ واحدة منهما ادّعت أنّه غازلها هي وقامت القيامة بينهما برغم أنّهما في أربعينيات عمريهما.”( دار الآداب،بيروت،2009، ص 244)
لقد استطاع عدد من الأصوات كسر جدار الصمت، وتبنّي مواقف متعدّدة من مسألة العنوسة. وبعض هذه المواقف معبّر عن وعي نسائيّ جديد ورؤية مختلفة للأنا والآخر. فبِنتُ الثلاثين لم تعد تنظر إلى الزواج على أنّه مشروع يحقق لها كلّ أوجه السعادة بل هو مسار، ومحطة في رحلة الحياة: ‘بنت الثلاثين اشتغلت وكسبت وما عادتش محتاجة لراجل بس عشان يصرف عليها، فغالبا مش هاتقدر تزغلل عينها بشقة وشبكة وعربية’.( ‘عايزه اتجوز’ ص174) والبنت التي لم تدخل مؤسسة الزواج ترفض المعاملة التمييزية: ‘إن لم تتزوجي إلبسي حزام العفة وأهدري طاقاتك في الخدمة، أما الرجل فليضاجع ما شاء له من النساء فهكذا تكتمل رجولته”.(‘نساء بأقفال’ لهيفاء بيطار،ص30)
ينبغي للجماعة حينئذ أن تعترف بأنها تمارس التهميش والفرز فتصنف النساء إلى مجموعات. فعالم الفنانات والعالمات يشهد تزايد عدد ‘العوانس’ ومع ذلك فإن حكم المجتمع على هؤلاء يختلف. فـ”ليلى علوي لحد قريب لطيفة و أنوشكا كل دول عدّوا الأربعين… ورغم كده… عمركوا سمعتوا حد قال عليهم عوانس؟ ما حصلش.” ( ‘عايزه اتجوز’ ص143)
غير أنّ استغلال الفضاء الافتراضي لانتقاد المواقف الاجتماعية ومقاومة ترسانة التمثلات والصور النمطية التي تحيط “بالعانس” أفضى إلى بروز ردود فعل مناهضة للكشف عن عورات المجتمع العربي في ظل صراع ضدّ الإسلام قائم على تشويه صورة الإسلام والمسلمين. ولذلك كانت ردود الفعل على بروز هذه الأصوات عنيفة ” الله الله يا أمة الله… بعت نفسك في سوق… إنّ الفتاة المسلمة العاقلة ما كانة (كذا) لتلجأ إلى مثل هذه الأساليب الدنيئة من نشر صورها وأفلام فيديو تكون هي بطلتها… من أجل الحصول على زوج…. أهنت نفسك يا ابنتي، أين العفّة ؟ أين هي كرامتك؟” (تعليق قارئ على مقال أنا هنا يا ابن الحلال على الفيس بوك لمنى سليم، 18 يونيو، 2008 موقع islamonline.net)
ومهما تباينت المواقف وردود الأفعال من افتكاك مجموعات نسائية حقّ الكلام عن أنفسهنّ فالحقيقة التي لا مرية فيها اليوم أنّه قد صار ‘للعوانس’ صوت. فعبّرن ‘أنّ من حقّنا أن نكون أحرارا وأن نملك حريّة التصرّف بأجسادنا وحياتنا…” (نساء بأقفال’ لهيفاء بيطار، ص 104.)
amel_grami@yahoo.com
* جامعية من تونس