إذا كان قانون الستين النافذ، الذي وقَّع على أساسه كل من وزير الداخلية ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية مرسوم دعوة الهيئات الناخبة قد مات، وفقاً لما تُعلنه قوى سياسية من فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، فإن اقتراح القانون الأرثوذكسي الذي أقرته اللجان النيابية المشتركة، وشَرِب رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» نخبه قد مات بدوره هو الآخر. لكن الفارق بين الاثنين أن قانون الستين مات ولم يُدفن بانتظار دفنه شرعياً في المجلس النيابي، إذ لا يمكن إلغاء قانون إلا بقانون جديد، كما أعلن رئيس الجمهورية، فيما اقتراح القانون الأرثوذكسي مات وتتم التحضيرات لدفنه، وفق متابعين لحركة الاتصالات الجارية بحثاً عن مشروع انتخابي جديد. ذلك أن حظوظ تمريره في الهيئة العامة لمجلس النواب قد أضحت ضئيلة، إنْ لم تكن معدومة، بعدما باتت مسألة اكتمال النصاب صعبة المنال. وحتى إذا تم اكتمال النصاب، ومرّ الأرثوذكسي بغالبية أصوات الحضور، فإن ردّه من قبل رئيس الجمهورية إلى المجلس النيابي لقراءة ثانية يتطلب عندها حصوله على 65 صوتاً، وهو ما لن يكون متوافراً في الحساب العددي لتوجهات القوى السياسية.
الأكيد أن المشهد اليوم تغيَّر. فتوقيع دعوة الهيئات الناخبة على أساس القانون الحالي، أعاد نوعاً من توازن سياسي كان مفقوداً، على أقله في الشكل، من شأنه أن يفتح الباب لإمكانية التفاوض على اقتراح توافقي على قاعدة القانون المختلط بين صيغتي الأكثري والنسبي.
ولكن على الرغم من توالي الاتصالات بين تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي للتوصل إلى اقتراح لقانون مختلط، فإن ضبابية موقف «حزب الله» والتيار الوطني الحر من هكذا قانون، تُلقي الكثير من ظلال الشك حول إمكانية سيرهم به بعدما لم يتخط موقفهما التخيير بين القانون الأرثوذكسي ولبنان دائرة واحدة على أساس النسبية. هذا الشك يجعل تيار المستقبل حذراً في محض موافقة مسبقة على اقتراح القانون المختلط ، خوفاً من أن يتحول لاحقاً السقف الذي يبدأ منه التفاوض مع قوى الثامن من آذار لمزيد من التنازلات، فتيار المستقبل، الذي جاهر برفضه النسبية تحت وطأة السلاح، يعتبر أنه قدّم التنازل المطلوب حين يقبل بمبدأ السير بالقانون المختلط . وهو تالياً ليس في وارد جرّه للذهاب إلى أكثر مما يقدّمه، مع تأكيده أن ثمة تفاصيل كثيرة في اقتراح القانون المختلط لا تزال غير واضحة المعالم لجهة النسب بين الصيغتين وتقسيم دوائر الأقضية ودوائر المحافظات ومن يكون ترشحه على الأكثري ومن على النسبي وأين، وماهية دور الصوت التفضيلي، وما إلى ذلك من تفاصيل تشكل جزءاً مهماً من الصورة التي على أساسها سيُعطي موافقته.
وإزاء ضبابية موقف «حزب الله»، فإن الاتجاه الذي ستسلكه البلاد في المرحلة المقبلة يبقى غير واضح، إذ أن القوى السياسية على إدراك تام بأن اليد الطولى للمسار الآتي تعود إلى «حزب الله». وعليه، فإن الاحتمالات متعددة، تبدأ من احتمال الاتفاق على قانون مختلط يتطلب إقراره تأجيلاً تقنياً للانتخابات لفترة زمنية بغية الإعداد له سواء لوجستياً أو تثقيفياً للمرشحين كما للناخبين. وهذا لا يمكن أن يتحقق إذا لم يتخلَ «حزب الله» عن مشروعه في التعامل مع الانتخابات النيابية بكونها مناسبة لزيادة إطباقه على السلطة، والذي كان يهدف إليه من خلال القانون الأرثوذكسي. ولا تنتهي عند فتح الباب أمام التمديد لمجلس النواب لفترة زمنية أو التمديد لولاية جديدة أو حكومة بصلاحيات تشريعية بل تصل أيضاً إلى إحداث فراغ في البلاد.
غير أن مسار التطورات الداخلية والإقليمية يدفع بقوى الرابع عشر إلى الاعتقاد بأن «حزب الله» سيكون أمام احتمالين: أولهما، تسهيل الوصول إلى قانون للانتخاب مرفقاً بتفاهمات ما بعد نتائج الانتخابات حول رئاسة المجلس والحكومة والتركيبة الوزارية والبيان الوزاري، وهو الأمر الذي لا يمكن لقوى الرابع عشر من آذار أن تخوض غماره من جديد، بعدما أثبتت التجرية السابقة مع الحزب أنه لا يتوانى عن قلب المعادلة وفقاً لمصالح مشروعه الاستراتيجي غير آبه بما يترتب عليها من نتائج داخلية.
وثاني الاحتمالات: سيناريو الإبقاء على الوضع الحالي الذي يعطيه هامشاً واسعاً من الإمساك بالسلطة في لبنان، ويتفادى من خلاله مواجهة مطبّ تشكيل حكومة جديدة وتركيبة التوازنات فيها وبيانها الوزاري، ولا سيما أن ضمان قدرته على فرض معادلات شبيه بالمعادلات السابقة ليس مضموناً في ظل التحوّلات والمتغيرات، وما قد تحمله الأشهر المقبلة من تطورات إضافية. وهذا الاحتمال يمكن الدفع باتجاهه من دون أن يكون في الواجهة، سواء من خلال عدم انعقاد الهيئة العامة لمجلس النواب تحت عنوان عدم التوافق على قانون جديد، ومن ثم التصدي لإجراء الانتخابات على أساس قانون الستين، بوسائل عدّة أقلها المقاطعة الشاملة للقوى الرافضة للقانون، ما سيجعل الحكومة في موقف عدم القدرة على إجراء الانتخابات، وأكثرها اللجوء إلى خلق واقع أمني غير مؤات لإنفاذ العملية الانتخابية، وإن كان ثمة قناعة لدى بعض المراقبين أن الحزب قادر على تعطيل الانتخابات من غير بوابة الأمن.
في استنتاجات قوى المعارضة أن الانتخابات لا يمكن أن تحصل إذا كان قرار «حزب الله» تغيير المعادلة النيابية لإمساك كلي بالسلطة، وبالتالي فإن القانون المطلوب إقراره لا بد من أن يحمل معه «الوضوح الجلي» لنتائج لا ترجّح كفة فريق سياسي على أخر، وليس «الغموض البنّاء» لما يمكن أن يُسفر عنه الاستحقاق الانتخابي، لأن المعارضة لن تسير بقانون «يُشرعن» إمساك «حزب الله» بكل مؤسسات البلاد.
ولكن السؤال المحوري يكمن فيما إذا كان «حزب الله» ينطلق في حساباته من مبدأ القبول بإعادة إنتاج قانون يعيد التوازنات السياسية في البلاد إلى ما كانت عليه قبل انقلابه على نتائج انتخابات العام 2009؟ ولمَ عليه تالياً أن يذهب في هذا الاتجاه في وقت يوظف كل إمكاناته في معركته الاستراتيجية، وفي مقدمها استمرار إمساكه بالسلطة في لبنان والبحث في كيفية إطالة الظروف والحيثيات لذلك؟
rmowaffak@yahoo.com
إعلامية لبنانية
اللواء