دأبت «ثقافة الممانعة» بفروعها العلمانية المتخثّرة والإسلاموية المنتشية، على اختزال المبادئ الحقوقية والمفاهيم السياسية الى مجرّد نعوت. حدث هذا منذ تأسست «ثقافة الممانعة» بعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر مدريد، ولأجل الحيلولة دون أي ثقافة نقدية كان من شأنها أن تكون الأقدر على الدفع قدماً بالمقدمات المتفق عليها في مؤتمر مدريد لما فيه التحسين النوعي، الرمزي والملموس، من شروط الهزيمة القومية العربية وأقدارها.
ومن بعد انفراط عملية السلام، وتحديداً مع دخول العالم في عصر ما بعد 11 أيلول، أخذت «ثقافة الممانعة» تكثر من دأبها الأول: توظيف ما يمكن من مبادئ ومفاهيم كمجرد نعوت ليس أكثر، اما بغرض الامتداح والتضرّع والابتهال، واما في معرض القذف والهجاء.
هكذا يجري اختزال مفردات «القانون الدولي» و«الدستور» و«الشرعية» و«الديموقراطية» و«الوفاق» الى مجرّد نعوت، تستحضر دون السياق المانح للدلالات، وعلى أساس الاتكاء على مفردة لتعطيل فاعلية أخرى، ثم العكس بالعكس. وبما أنه ليس من معيار أمام الممانعة الا الممانعة نفسها، هذا من بعد التشكي من «الظلم العالمي» الذي يكيل بمكيالين، فإن «الهمّ الفكري» سرعان ما يستحيل نزقاً محضاً، يستسهل التحايل على جملة المبادئ الحقوقية والمفاهيم السياسية. والحيلة هنا لا ترادف الدليل أو البرهان، كما أنها عادة ما تتخلّف عن جذل البيان. الحيلة هنا اما صوتية وإما عضلية. إما بكاتم صوت وإما بكاتم عالي الصوت.
طبعاً يمكن أن يسوّغ كل ذلك بالمفهوم الوحيد الذي تفقهه الممانعة، أي مفهوم القسمة الضيزى لكل حي ودابّ على وجه المعمورة بين ما هو شرّ لها وبين ما هو خير لها، لكن طبعاً على أساس دوام التشكي من غياب العدل في الأرض، وغروب الضمير عن البشرية. من يتذكّر صدّام حسين.. هذا الروائي المرهف، كان يكثر دوماً في خطاباته من مفردة «الإنسانية».
ما يحدث هو أن المركب العضلي للممانعة، الكافي وحده لإبطال كل ما في «ثقافة الممانعة» من ادعاء ثقافة، هو الذي يتصرّف بهذه النعوت على هواه، ويوجهها بقوة الساعد، لكن دائماً، بالاحتجاج على أن الغرب، وأميركا تحديداً، ينظر الى كل شاردة وواردة من موقع «القوة العسكرية» وحسب، وفي ذلك إغفال الى أن الغرب افتتح أقاليم الأرض كلها في العصر الكولونيالي ليس بالقوة العسكرية وحدها، ولو أن الغرب احتكم الى القوة العسكرية وحدها لما كان الاستعمار ليدوم قروناً عدّة، ويحفر في الذاكرات الجماعية بكل هذا الوقع، علماً أن بعضاً من قوة «ثقافة الممانعة» هي أنها تنهض في الشرق الأوسط الذي لم يتغلغل اليه الاستعمار بشكل مزمن وعميق كما في حال أقاليم أخرى من العالم. ليست ما يميز الشرق الأوسط كثرة المشاريع الغربية الهادفة الى استعماره، وإنما يميزه أن هذه المشاريع تأخرت، وظلت تعيق بعضها بعضاً في «لعبة الأمم»، ولم يكن وهج المرحلة الكولونيالية ليتجاوز عقدين أو ثلاثة في كثير من البلدان.
لأجل ذلك، يسهل على هذه الثقافة الممانعة أن تتوجه رأساً لمسخ المبادئ الحقوقية والمفاهيم السياسية التي لها سند في القانون الدولي، وردّ هذه كلها إلى مجرّد نعوت بقصد تبجيل أو مجاملة أو أبلسة وتخوين.
إن «ثقافة الممانعة» نفسها التي تستنكر أن يوجه الى أي نفر منها أدنى تهمة، ما لم تكن التهمة مدعمة باعتراف خطي وبصري وسمعي لا غرو فيه، هي «الثقافة» التي تستعيض عن الحجة والدليل بالإشاعة والتسريب، لتنسج المرويات على هواها. فهل مثلاً، تمتلك «ثقافة الممانعة» بالفعل رواية متناسقة لتاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي يمكن أن يواجه بشكل حاسم وجدي الرواية الصهيونية أو الغربية لهذا الصراع، المعاد إنتاجها جيلاً بعد جيل بمزيد من التفاعل بين عناصرها الأولى؟
فمن وراء هذه المناظرة بين روايتين عن صراع مزمن يمكن التبصر في عين سوء الفهم الحضاري. فإن كان ممكناً لثقافات خارج القيد الغربي أن تتميّز بالمأكل والملبس أو بالفولكلور الشعبي أو بالصلوات أو بطريقة حفر القبور ثم زيارة الأضرحة، أو حتى بأشكال التكاتف الاجتماعي وأولويات الاستـهلاك السلعي، ناهيك عن أساليب السرد والقص وآفاق التخيّل والابداع، فإن ثمة ما لا مناص من اعتماد مركزيته الغربية الأوروبية: ليس ثمة من بديل لمركزية المنظومة الحقوقية والقانونية التي من إنتاج الحداثة الغربية، الا على قاعدة إنكار هذه الحداثة أو محاولة تلفيق حداثات وهمية.
إما أن تكون عولمة القانون هي عولمة للحداثة، وإما أن تكون عولمة للافتراق بين السائرين في ركب هذه الحداثة (أي عالم القانون) وبين المتخلفين عن هذا الركب أو المتحايلين عليه. وهنا يصير الجدل الداخلي في «عالم القانون» إن كان ينبغي أن يعامل عالم الغيب والغاب الذي هو خارجه بمفاتيح الغيب أو بتقاليد الغاب، أو بشروط عالم القانون نفسها. وتلك مسألة قديمة جديدة في تاريخ الفكر الحقوقي الغربي: ما رأي القانون في واقعة ليس فيها قانون أو في إقليم ليس يخضع لقانون؟! أما السؤال الذي تحظره علينا «ثقافة الممانعة» فهو: ما الرأي بين وجوب الاختيار الحاسم والتاريخي والنهائي بين مقدمات القانون الغربي وبين وضعية «الخارجين عن القانون» و«الخارجين عن الشرعية الدولية»؟
السفير