في يوم ما، عندما تصبح لدينا دولة، ونفكر في وضع قانون للجنسية في دولتنا، سنفكر في ما كتبه غسّان كنفاني ذات يوم: “ليس الفلسطيني من يُولد لأبوين فلسطينيين، بل الفلسطيني هو المناضل في سبيل الحرية”. ولن نفكر في عبارة كهذه لأننا نريد تأبيد فكرة النضال، وجعلها شرطاً من شروط الهوية، بل للتقليل من شأن الوراثة البيولوجية في تكوين الهويات الجمعية والفردية لبني البشر، ولتأكيد حقيقة أن الهوية خيار، وليست، بالضرورة، نوعاً من قدر أعمى.
ولكن حتى إذا أردنا التدليل على صدق هذه العبارة، سنجد في حياة وسيرة فرانسوا أبو سالم المثل الحي، الذي لم يكن مضطراً للتدليل على أمر كهذا، ولم تعوزه شهادة النضال.
لم يُولد لأبوين فلسطينيين، لكنه كان فلسطينياً بالإرادة. وعندما نؤرخ للمسرح الفلسطيني بعد العام 1967 سنجده هناك، ركيزة أساسية وكبيرة، ولامعة، بنيت عليها دعامة المسرح، الذي كان وما يزال حاضنة للروح الوطنية، وجبهة أمامية لمقاومة الاحتلال، ومعملاً للتجريب الإبداع. ومن حقه علينا الاعتراف بحقيقة أن ما مثّله في حياتنا يمكننا من التفكير في هويتنا الجمعية والفردية بشكل أفضل.
من المؤسف أن مناسبة حزينة تحرض على الكلام عن الهوية. وهذه المناسبة هي رحيل فرانسوا أبو سالم عن دنيانا قبل أيام قليلة بطريقة مروّعة. هل انتحر؟ أغلب الدلائل تشير إلى احتمال كهذا، وإلى كآبة تمكنت منه في أيامه الأخيرة وفتكت به. بيد أننا نحتاج إل استلهام الدائم، والحي، والمستقبلي، في سيرة شخص يشبهنا في الواقع، ويختلف عنّا في خطاب الجماعة المتأخر عن نفسها.
يشبهنا بمعنى أننا نحن أبناء هذه البلاد نتاج هجنة صنعها التاريخ، وحكمت بها علينا الجغرافيا، وتجلت في ملامحنا، ولون عيوننا، ولهجاتنا، وأسلوب حياتنا. ويختلف عنّا بقدر ما ينجح خطاب الجوهرانيات القومية والدينية في تجريدنا من خصوصياتنا التاريخية والثقافية، واختزالنا في قوالب دينية وطائفية باسم العروبة مرّة، وباسم الأممية الإسلامية العابرة للحدود مرّة أخرى، كأن للماليزي حقوقاً في فلسطين أكثر من حقوق فرانسوا أبو سالم، لمجرد أن الأوّل مسلم.
المسألة، على أية حال، تتجاوز حدود فلسطين، وتمس العالم العربي برمته. من قال إن الأكراد، مثلاً، كانوا يحتاجون إلى ثورة شعبية في سوريا للاعتراف بهم كمواطنين في بلادهم، وإلى كرم خاص من جانب نظام مأزوم يحاول رشوتهم بالإفراج عن جانب ضئيل من حقوقهم. وهذا يصدق على وضع الأكراد في بلدان أخرى.
ومن قال إن الأمازيغ يحتاجون إلى مرافعات تاريخية، وجبهات وطنية، وجمعيات لحقوق الإنسان، للاعتراف بخصوصيتهم الثقافية والقومية في بلادهم. وعلى ذلك فقس في المشرق العربي وشمال أفريقيا، وفي مصر حيث يتعرّض الأقباط للتمييز من أعلى ومن أسفل. الشرق فسيفساء لغوية وحضارية، يشبه سجّادة فارسية ثمينة، كلحت ألوانها منذ عقود أصبحت طويلة.
في العقود القليلة الماضية شهدنا ما يشبه عودة المكبوت، عندما أعدنا اكتشاف ذكريات ومذكرات اليهود المصريين والعراقيين في المنفى، وذكريات ومذكرات الإيطاليين واليونانيين الذي سكنوا شواطئ المتوسط وأطاحت بهم موجة العروبة بعد الحرب العالمية الثانية، وطردتهم من بلاد عاشوا فيها على مدار قرون وكانوا جزءا من نسيجها الحضاري والاجتماعي. النسيج الحضاري والاجتماعي التقليدي لسواحل المتوّسط حتى أواسط القرن العشرين.
إن عودة المكبوت تمكننا من تعريف أنفسنا بشكل أفضل، ومن التعرّف على ملامح بلادنا، وعلى النسيج الحضاري والثقافي لبلادنا. وهذا يعني في جانب منه إعادة النظر في المضمون الثقافي والسياسي لفكرة العروبة، التي نشأت في ظل نشوء الحركات الاستقلالية الدولانية، والكفاح المعادي للكولونيالية.
كان الكفاح ضد الكولونيالية أمراً لا مفر منه، بقدر ما كان جزءاً من حركة كونية اجتاحت العالم منذ مطلع القرن العشرين. وغالباً ما تحكمت القوى الكولونيالية الكبرى (والصغرى كما تفعل الكولونيالية الإسرائيلية بالفلسطينيين هذه الأيام) في مصائر شعوب وأقوام يصعب حصرها، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بطريقة ما تزال ملموسة، ومأساوية في أحيان كثيرة، حتى يوم الناس هذا.
بيد أن تاريخ الكفاح ضد الكولونيالية ينتمي إلى الماضي بالنسبة لشعوب وأقوام كثيرة، نجحت في نيل استقلالها، وفي ترسيخ دعائم دولتها القومية الحديثة. وهذا يستدعي في جانب منه إعادة النظر في المضمون السياسي والثقافي لذلك التاريخ، دون الخوف من استحضار أشباح الماضي. وقد حدث ذلك في حقل العلوم الإنسانية في الهند، وفي أدب أميركا اللاتينية.
في العالم العربي ما تزال أشباح الماضي مخيفة، وما يزال مشروع الدولة القومية الحديثة غير قادر على مجابهة ماضيه. ولهذا السبب لم تستقر فكرة المواطنة بعد، لأن الدولة القومية ما تزال قلقة على مصيرها، ولم تستقر بعد. وحتى يحدث ذلك ستظل الهجنة العرقية والثقافية والسياسية والاجتماعية جزءاً من السكوت عنه، والمكبوت، واللامفكر به.
ربما فتح الربيع العربي طاقة جديدة في أفق كان مسدوداً حتى وقت قريب. ربما. ولكن كل ما في الأمر أن في حادثة مُحزنة، وما ينجم عن استلهام الحي، والدائم، والمستقبلي، في السيرة الشخصية والفنية لفرانسوا أبو سالم، ما يحرض على استعراض تاريخ أكبر وأشمل. ربما نعبّر بهذه الطريقة عن امتناننا العميق لوجود أمثاله في حياتنا.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني