يمكن المسيحيون اللبنانيون، الذين يعود اليهم الدور المحوري في تأسيس الكيان اللبناني، ان يقولوا انهم نجحوا في بلورة هوية وطنية لبنانية. نجح جزء اساسي من نخبهم الفكرية والثقافية والسياسية في تكوين هذه الهوية، وفي الدمج بين انتمائهم الديني والهوية الوطنية. بحيث كان من الصعب الفصل بين المسيحية اللبنانية ولبنان. لم تستمر الحال ودخل المسيحيون اللبنانيون، لأسباب ذاتية وخارجية، في نفق نقل المارونية السياسية من مرحلة التنظير للبنان الكبير، الى فكرة لبنان الصغير، وصولاً الى حروب الالغاء الداخلية. ومنذ ما بعد الطائف يعيش المسيحيون حالة ارباك: فشلوا في حماية الوطن الذي اسسوه، ولم ينجح المسلمون بعد انهيار المارونية السياسية في ان يبلوروا مشروع الوطنية اللبنانية.
وزاد من المأزق والارباك المسيحي بروز الاسلام السياسي السني في المشرق العربي، بالاضافة الى المشروع الشيعي المقتحم لهذا المشرق من دون النظر امامه او وراءه. ذلك ان اشكالية الهوية السياسية والدينية هي مشكلة اسلامية، اذ لا يمكن ان تجد لدى المسيحيين مشروعًا سياسيًا ذات ارتكازات لاهوتية. ففكرة الفصل بين المجالين اللاهوتي والسياسي هي فكرة متأصلة مسيحيًا وعمرها منذ القرن الثالث الميلادي: “ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. لذا استطاعت النخب المسيحية في النصف الاول من القرن العشرين انتاج وعي وطني ووعي قومي في المجال العربي، من دون ان تصطدم بعائق اشكالية الهوية السياسية والدينية.
على ان هذه الاشكالية تبدو في لبنان صارخة في المقلب الشيعي اكثر منها لدى السنة. فرغم وجود الاسلام السياسي السني، الا ان نفوذه يبقى اقل في البيئة السنية منه في البيئة الشيعية. فشعار “لبنان اولا”ً الذي اجمعت عليه النخب السياسية والدينية في الطائفة السنية، لم يظهر ما يوازيه في التعبير عن الاندماج الشيعي بالوطنية اللبنانية اليوم، رغم المساهمات النوعية التي قدمها الامام موسى الصدر والامام محمد مهدي شمس الدين في العقود الاربعة الاخيرة من القرن العشرين في محاولة ترسيخ الهوية الوطنية في الوعي الشيعي، عبر نبذ المشاريع التي تدفع الشيعة الى الخروج على الانتماء الوطني وشروط الدولة.
كان خيارهما واضحا على صعيد الاندماج في الاوطان، ونبذ المشروع الشيعي الخاص العابر للحدود. هذا الارث لم تستطع حركة امل ان تحمله، بل بدت تلهث في اللحاق بسلوك حزب الله من جهة، والايغال في السياسة النفعية التي حولت حركة امل الى مكان يمكن من خلاله تحقيق بعض المكاسب الخاصة والخدمات الضيقة، علمًا أن هذا النموذج السياسي الشيعي اللبناني يمكن تعميمه على شيعة المنطقة، فيما يبقى النموذج السني اللبناني ذات خصوصيّة لا يمكن تشبيهها بالنموذج السني السائد في المنطقة.
فرغم المهارة السياسية التي يتمتع بها حزب الله، ومساهمته الكبيرة في تحرير لبنان من العدو الاسرائيلي، الا ان المسألة اللبنانية ظلت عابرة لديه، على المستوى الديني والثقافي والمسألة الوطنية غير موجودة، النظام السياسي والدستور لا يعنيان له الكثير، ولا الدولة ولا شروطها من الانتماء والولاء. هذه عناصر غير اصيلة في ثقافته وفي تعبئة جمهوره. قل هي عناوين ثانوية وليست غاية او هدفاً. والا ما معنى تمسكه بالسلاح واعتبار هذا السلاح مقدسًا ما دام في يده؟ وما معنى تحويل هوية هذا السلاح الى حيث تقتضي حاجة الاخ الاكبر وليس باتجاه ما تتطلبه الدولة اللبنانية؟ وما معنى الانتقال السلس وغير المثير لديه للقتال من لبنان الى سورية؟ وما معنى رفض مرجعية الدولة ورفض تحديد مهمته، والاصرار على الصلاحية المطلقة في استخدامه؟
اذا تنازل اللبنانيون عن حقهم الدستوري والميثاقي والوطني، وطالبوا حزب الله بأن يصوغ لهم هويتهم الوطنية ودستورهم وقوانينهم بشرط اعتبار ان الولاء للدولة لا يعلو عليه اي ولاء لدولة او جهة خارجية، فأغلب الظن سيعتذر الحزب لأنه ببساطة لا يمتلك رؤية للبنان خارج منظومة الولاء لايران او ولاية الفقيه. كما لا يستطيع الفصل بين الهوية الدينية والهوية الوطنية. ولأننا لن نجد في ادبيات حزب الله ما يجعل من لبنان وطناً ودولة وانتماء يجعل من الشريك اللبناني، سواء كان مسلما او مسيحيا، شريكاً لا يتقدم عليه شريك آخر في الحياة الوطنية.. وان المصلحة الوطنية، بما هي مصالح جميع أبناء الوطن، تتقدم على ما عداها من مصالح اخرى. هذا ما كان الامام موسى الصدر يؤكده وما شدد عليه الامام شمس الدين في وصاياه. إلا أن ايران نجحت في ان تحول الهوية الشيعية الى هوية في خدمة مشروع الدولة الايرانية القومية العميقة.
alyalamine@gmail.com
البلد