الإنسان كما هو معروف كائن يتخلّقُ دائماً في مخاض المشاعر، وهي التي تمنحه تالياً صفته الإنسانية، وماهيته، وتشكلاته المسلكية، وطريقته وأسلوبه في التعامل مع ذاته ومع الأشياء ومع الآخرين من حوله، وقد تفرض عليه أيضاً استيلاد تفسيراتٍ وأحاسيس وأفكار وتصورات معينة حول ما يمرُّ به من تحولات وتبدلات ومواقف وعواطف. فالمشاعر التي تموج في أعماق الإنسان قد تكون فاضحة له في بعض الأحيان، وكاشفة لأعماقه وتوجساته وانفعالاته العميقة مهما حاولَ اخفاءها أو التحايل عليها أو تكميمها أو حتى طمسها. ذلك لأن هناكَ مَن يستطيع أن يتحدث عن مشاعره بصوتٍ عال، وهناكَ مَن يحاول اخفاءها خشيةَ عدم قدرتهِ على ترجمتها في سلوكه وأفعاله وتوجهاته ومواقفه، وهناك مَن يستدرج اللغة إلى حصنه لكي يخلق منها قلعة منيعة تتوارى خلفها مشاعره (خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره) كما يقول الأديب الايرلندي أوسكار وايلد. ولكن هناكَ مَن يرفضُ أن تندرج مشاعره تحت لغةٍ مواربة أو خجولة أو مهادنة أو مخاتلة، حين تكون مشاعره صرخات في الاحتجاج على كل ما يسلب حقه الإنساني في وجوده الطبيعي والحر، وحين تكون مشاعره تحديقاً ونقداً ومساءلة وتفكيراً، وحين تكون مشاعره رفضاً مستمراً لواقع قامع لإنسانيته، وسالبٍ لمشاعره الحرة الصارخة، وخانقٍ لعقله وحريته وتفكيره وقراره واختياره، إنها مشاعره التي تستنهضُ في لغتهِ المشاعرية الحرة حماسة التعبير ووعي النقد وذكاء التحديق وجرأة التفكير وشجاعة البوح..
ولذلك كان لا بد أن نتساءل كيف يكون عليه الإنسان الذي يحيا في مجتمعات قامعة لمشاعره الإنسانية الحرة والحقيقية والطبيعية، وخانقة لأحاسيسه وعواطفه، ألا يتفجّر حينها غضباً واعتراضاً واحتجاجاً، ألا يجد في هذا القمع والسحق تعدياً فاضحاً على إنسانيته وعلى موهبته الحرة في استيلاد مشاعره وإدراكها والتعبير عنها، وألا يجد في كل ذلك بغضاً واحتقاراً واستخفافاً بمشاعره وأحاسيسه التي يريد أن تنشأ في مناخ حر ومتسامح ونظيف؟ ألا يجد في ذلك القمع قسوةً بالغة على مشاعره التي يجب أن تُقابل بالاحترام والتدليل والعطف والدفء والحنان، وأليسَ في كل ذلك احتقار وإهانة لمشاعره الإنسانية؟
ألا تخلق هذه المجتمعات القامعة لحرية مشاعر الإنسان إنساناً مشوّهاً كارهاً لنفسهِ ولمجتمعه ولوجوده، حاقداً على كل شيء، وألا يتربى ويكبر تبعاً لذلك على مفاهيمَ خاطئة ومعتوهة على الضد من كيانه الإنساني الطبيعي، وعلى النقيض أيضاً من طبيعته الإنسانية السليمة.؟ ألا يجد الرجل في هذا المجتمع أن التعبير عن مشاعره بكاءً أو حزناً، مثلاً، اهتزاز وتقليل من رجولته وقوته؟ وألا تجد المرأة في هذا المجتمع أن التعبير، مثلاً، عن ذاتها غضباً أو حريةً أو تمرداً أو احتجاجاً عيب في حق أنوثتها التي يجب أن تبقى قيد الصمت والخنوع والتذلل والانطفاء؟ وحتى الطفل في هذا المجتمع لا يسلم من قمع مشاعره الحقيقية الطبيعية حينما يتم اخماد شعلة السؤال في دهشته وفي استفساراته الصغيرة وفي احتجاجاته، أليستَ مأساة الإنسان تتمثل دائماً في أن يكون هذا الإنسان صارخاً ومحتجاً ومستفسراً ومتسائلاً ومعبّراً بمشاعره وشعوره عن حقيقة وجوده وعن حقيقة كيانه، وفي الوقت نفسه يحيا في مجتمع عنيف وقاس ومتجاهل وقاتل لمشاعره الحرة ولأحاسيسه الناطقة ولعواطفه المفعمة بالرقّةِ وجمال الحياة.؟ ولذلك في كل مراحل التاريخ الإنساني كانت مشاعر الإنسان في السؤال والتفكير والاحتجاج والبوح والتمرد والجمال والتحرر مسكونة بالبحث الحثيث عن مجالاتها المختلفة في التعبير الإنساني المشاعري الحر، وتجد أنها لا بد أن تتجلى بكل عنفوانها وزخمها وتفتحاتها واتجاهاتها وتعرجاتها في اجتراح ما يجعلها على قيد الحركة والاستمرار والتعبير والخصوبة والتوثب والحماس..
ربما أستطيع القول أن مشاعر الإنسان قد تكون تأسيساً عميقاً منه عبر تجربةٍ ما، يخوضها كاملةً وبكل كيانه الفعلي، وبكل تفاعلاته الوجودية والمعرفية مع الذات والطبيعة والحياة والجمال والأفكار والآخر، إنها تجربته التي يخوضها بتعالقٍ حميمي مع الطبيعة من حوله، ويمارسها عميقاً واستشرافاً واستنطاقاً مع الطبيعة أيضاً بنوعٍ من التآخي الشفيف المترع بالشوق واللهفة والمشاعر الرهيفة، إنها الطبيعة التي تفسحُ أمامه تجليّات فكرية جمالية أو تأملاتٍ فلسفية، وتمنحه ذاكرة زمنكانية مفعمة بالمشاعر والأحاسيس والعواطف الرقيقة، وتلهمهُ ربما القدرة على استيلاد المعاني العميقة لتعالقاته الشعورية والتأملية والفلسفية معها، أليست الطبيعة هنا بحد ذاتها تستطيع أن تمدّ الإنسان بفيض من المشاعر الجميلة، كونها مفعمة بدلالات جمالية ورمزية باعثة على الخيال والتصور والتفلسف، وكأنها تجسيد خلاق للموسيقى وللجمال البِكر في ألوانها الساحرة وانهماراتها وظلالها وحركتها وتعاقب فصولها ومعانيها.؟ ألم يُلهم المطر على سبيل المثال الشاعر بدر شاكر السياب أرقَّ المشاعر الإنسانية وأعذبها فسكبها شعراً مرهفاً شفيفاً في أنشودته المطرية الخالدة، وألم يُلهم نهر دجلة، مثلاً، الجواهري العظيم تلك المشاعر الخلابة والمعاني الطافحة برهافة العواطف والأحاسيس الإنسانية الرائعة، فأودعها خالدةً في قصيدتهِ الفاتنة (دجلة الخير)، وليسَ بعيدةً عنا أيضاً أعمال الموسيقيين الكبار في مقطوعاتهم الموسيقية الآسرة بروعة المعاني الناطقة بالمشاعر الإنسانية النبيلة، وكذلك أعمال الرسّامين في لوحاتهم التعبيرية الباذخة بالمشاعر الخلابة التي تثير في النفس جمال التآخي الشفيف مع الحياة في جوانبه المشرقة..
وقد تكون مشاعر الإنسان في خلق المعاني وفي فلسفة الحياة والأشياء وفي الابتكار المعرفي، قد يكون كل ذلك تأسيساً منه عبر تجربته الذاتية مع جمال المعاني والأفكار، الجمال الذي يجده متجسّداً ومتحركاً ورحباً وملهماً في عبارة أو لوحة أو قصيدة أو كتاب أو حتى فكرة أو في تساؤل أو في دفقة موسيقى. هذا الجمال صانعٌ خلاق لمشاعر الإنسان ولشعوره وللغتهِ المشاعرية، لأنه جمال في استيلاد المعاني وفي دهشتها وتصوراتها وآفاقها وفلسفاتها وفي تخلّقاتها المتجددة وفي تجاذباتها وتفاعلاتها معه، إنها المعاني التي يخوض غمارها بحثاً عن ذاته وعن إنسانيته وعن حقيقة شعوره ومشاعره، وهي المعاني ذاتها التي تفتحُ أمامه شرفات التأمل والتفكير والاشتهاء المعرفي، والتي تُفعمُ فيه زخم المشاعر الخلاقة مسلكاً للتعاطي الجمالي مع تفسيراته وتساؤلاته واكتشافاته، إنها التجربة الثقافية الواعية التي تجعله يجد في معاني حركة التاريخ والأشياء والحياة والمواقف استثارة قادحة لمشاعره الإنسانية في التأكيد على أن رهان الإنسان على إنسانيته إنما يتوقف على توافر ذلك القدر الوافر فيه من مشاعر الحب والنبل والإخاء والصدق، وهي التجربة ذاتها التي تدفع به دائماً نحو التقصّي والبحث عن تلك التشابهات الثقافية والمعرفية والفلسفية والمشاعرية بينه وبين الإنسان أينما كان وأياً كان في مجمل الإرث الإنساني والحياة الإنسانية، تلمساً شفيفاً للمشاعر الإبداعية التي حققت انتصاراً باهراً على كل مشاعر الكراهية والعنف والتناحر والحقد والتحارب..
وقد تكون مشاعر الإنسان في اكتشاف ذاته ومهارة الإصغاء إليها واستجلاء مكنوناتها الدفينة، وفي معرفة رغباتها واشتهاءاتها وهواجسها وتساؤلاتها وتطلعاتها وجوانب الخير فيها والبحث عن جماليات المشترك الإنساني في أعماقها، قد يكون كل ذلك تأسيساً منه عبر تجربته الإنسانية مع الآخر، الآخر الذي ينصهر ويتعالق ويتوافق معه شعورياً ومشاعرياً بعيداً عن مفاهيم الانغلاق والتوجس والتوحش والاقصاء، وبعيداً عن تخندقات الانتماءات الدينية والعرقية والمذهبية والهوياتية المميتة، هذا النوع من التعالق مع الآخر اكتشاف حر لجمالية الذات الإنسانية المفعمة بالحب الإنساني الرحب الذي ينتصر على كل مشاعر الكراهية والتنابذ والتحارب والتباغض، إنها المشاعر التي تستجلي فيها أروع حالاتها الزاخرة بأخلاقيات الحب والود، وتتداخل وتتعالق بنفس المستوى بينها لصناعة اللحظة الإنسانية الفارهة بالمحبة والود والانسجام والسلام، فمشاعر الإنسان في تبنّيها للقيم الإنسانية الرفيعة في الأخلاق والحب والجمال والحرية هي انعكاس فعلي لحالته ومستواه الإنساني في وجوده التفاعلي مع الآخرين، إنه في هذه الحالة يستدعي بجدارة مكنونات ذاته المتعالقة مع الآخر ومع الوجود وفقاً لمشاعره التي تأسست عميقاً عبر تجربته الذاتية الثقافية مع الآخر تماهياً حراً مع جماليات المشترك الإنساني..
وبما أن المشاعر عادةً ما تتأسس عبر تجربةٍ شخصية يخوضها الإنسان بتعالقاته وتداخلاته وتفاعلاته مع كل ما حوله، نستطيع أن نقول تبعاً لذلك أن المشاعر أيضاً هي التي بالتالي تمنح ذات الإنسان ملامحها وتشكلاتها الخاصة والمميزة، والتي تتجسّد في عواطفه وأحاسيسه وانطباعاته وأفكاره ونظراته وتفلسفاته وحتى في توجساته وهواجسه، وتحدد المشاعر بطريقةٍ أو بأخرى ملامح وتفاصيل وجوده التفاعلي في الحياة، وتدفعه نحو الاستمرار والتواصل في تبنّي فعل التواجد الإنساني الخلاق..
tloo1996@hotmail.com
* كاتب كويتي