في فيلم الفيديو المنقول على برنامج التواصل الاجتماعي ”يوتيوب“ ترفع المرأة المحجبة رأسها عالياً فوق جثة طفل أو شاب صغير، وتنظر إلى السماء فوقها وتصرخ صوتاً يخرج من رئتيها أو من قلبها، صوت لا يفهم منه شيئاً إلا أنه يشبه صوت بكاء قاس، لا يخرج الصوت عالياً من ”يوتيوب“، ولكن عيني المرأة وقسمات وجهها الذي تغطيه خصلتي شعر خرجتا عنوة من تحت حجابها تظهران حجم الألم الذي لا يطاق، الذي تعيشه تلك المرأة السورية.
يقترب منها رجل قد يكون شقيقها أو زوجها محاولاً تهدئتها، ولكنه يبكي فوق رأسها فيزداد نحيبها، تأخذ بيد الرجل وتقول ”يا ابني“ كأنها تحاول ايقاظ الشاب الممدد أمامها مغزواً بدماء متفرقة تغطي منه عيناً وقليل من الجبهة والوجه. فيبكي الرجل أكثر، ويرتفع صوته قليلاً، كأنه يحاول أن يضبط نفسه، ولكن الألم لا يجد مفراً من الخروج.
فيلم الفيديو ”اليوتيوبي“ والمنقول من مدينة حمص السورية لا يقول كيف استشهد الشاب، ولا يخبر إن كان هذا الشاب من المتقدمين في التظاهرات والمنادين ”سوريا بدها حرية“ أو من العاملين في إعلام الإنتفاضة حيث يقتصر دوره على تصوير التظاهرات ونقلها إلى ”يوتيوب“ نفسه الذي نقل صورته الأخيرة على هذه الأرض قبل أن يتلقفه التراب، أو أن هذا الشاب من المعتقلين الذين عادوا جثثاً من أحد المعتقلات الجديدة والطارئة. هو فقط ينظر بنصف عين مفتحة إلى أمه كأنه يختبئ منها كما كان طفلاً صغيراً يغمض عينيه فيظن أنها لا تراه، أو كأنه يقول لها إنه يراها ويحبها ويتمنى لو يعود لها لحظة واحدة ليضمها ويشم رائحتها ويقبل وجنتيها قبل أن يعود إلى نومه الأبدي.
لا تعتب المرأة على الشاب السوري الممدد كطفل صغير تحت أناملها، لا يقول صوتها شيئاً غير نحيب مرّ، ولكن الذي يصوّر الفيديو يحكي بصوت منخفض عن الشاب الممدد تحت أنامل والدته، كأنه حين يخفض صوته يحاول أن لا يقطع عن الأم وابنها هذه اللحظات الأخيرة التي لن تتكرر بينهما ولكنها ستتكرر مع كثير من العائلات في سوريا وغيرها كلما أصرّ الديكتاتور على ادمان رائحة الموت والقتل.
حمص نفسها المدينة التي كانت بالنسبة إلى كثير من الناس ”مزحة“ جميلة، أو نكتة ساخرة فاجأ شبانها الدنيا كلها بانفتاحهم وتنوعهم وبسخريتهم من السوداوية التي يعيشونها، فهم ومنذ الأيام الأولى لمشاركتهم في انتفاضة شعبهم استطاعوا أن يصنعوا من سلمية تظاهراتهم الكبيرة قصصاً ستروى طويلاً، أفكار لا يمكن إلا لأهل حمص أن يمنحوها لثورتهم، فيوم اتهامهم بالتسلح من قبل النظام في سوريا، صنعوا من الخشب والباذنجان والكوسا والبامية أسلحة ورشاشات وقاذفات وصوروها أفلاماً على ”يوتيوب“ أيضاً ليهزأوا من الأبواق التي انطلقت تتحدث عن التسلح، وحين أرادوا أن يسخروا من القول إنهم قلة وليسوا كثيرين، وضعوا على صفحات الفايسبوك صفحات خاصة للسخرية مثل ”مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات“ الذي يصنع من كل المصائب سخريات ونكاتاً لكي يخرج الحزن من بيوتهم بعد خمسين عاماً من صناعة الديكتاتوريات في وطنهم.
بالأمس وحين دخلت الدبابات إلى حمص بعد سقوط 16 شهيداً من المتظاهرين حين كانوا يشيعون ثمانية شهداء، كتب ”الأدمين“ مدير صفحة ”مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات“ أن ”الدبابات في حمص تطلق 10 آلاف قذيفة احتفالاً بوصول عدد زبائن المغسل إلى 10 آلاف زبون، هذا وقام عدد من الدبابات بالتشفيط ابتهاجاً بالمناسبة وذكر شاهد عيان أنه رأى دبابة تمشي على دولاب واحد.. والذي منو“.. يسقط المتظاهرون من الرصاص ويعتقل الشبان من التظاهرات أو المنازل فيبقى مزاج أبناء حمص رائعاً وجميلاً وحساساً، وخارج عن مألوف الخوف والرعب.
في حمص قلب أم على ولدها، وقلب ولدها على حجر، وقلب الحجر على قلب النظام، منذ أكثر من أربعة أشهر يسيرون في تظاهراتهم، يصرون على السلمية، يخسرون أبنائهم واحداً تلو الآخر، ويصرون على رفض حمل السلاح مع أن التهم جاهزة من بعض الإعلام الذي يباع ويشترى بالكيلو بين دمشق وبيروت.
شبان حمص كما يظهر دائماً في تحركاتهم وفي صناعتهم للحدث أنهم مداد ثورة الشعب السوري، فهم موجودين في حماه يغنون قصيدة ابراهيم القاشوش، ويتحولون إلى ”الرجل البخاخ“ يرسمون فوق الجدران شعاراتهم، ويغنون العراضات، وحين يكتبون على صفحاتهم الفايسبوكية ”شنغليلي شنغليلي الله يعينك عهالليلة“ يعني أن صباحهم سيشهد تظاهرات كبيرة جداً، يصرخون فيها ”الشعب يريد اسقاط النظام“، ويهربون من الرصاص الحي الذي يستهدفهم، ويتنقلون في أحياء مدينتهم بين بابا عمرو وباب السباع والخالدية والوعر وغيرها. إنها مدينتهم التي صارت مثل درعا رمزاً للانتفاضة التي لن تتوقف.
oharkous@gmail.com
* كاتب لبناني
في حمص قلب أم على ولدها، ودبابة ”تشفّط“ على دولاب واحد
متي سيتوقف هذا العهر العالمي الذي يسمح لعصابة الأسد المجرمة بشن حرب جبانة على شعب أعزل ؟؟