من يقرأ موروث الدم في تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي.. يجدنا أقواماً، متعطشة جائعة، نهمة للدم واللحم تحيا بهما، وتنطفيء بانعدامهما.
ولعل ذاكرتنا الجمعية متخمة بطقوس واحتفالات فلكلورية الدم واللحم،. فالتعابير الشعبية اليومية التي يراد بها التعبير عن حالة الألم، فيقال: “يا جماعة اتقوا الله أنا إنسان من لحم ودم” ومنها ما يرد في معرض التهديد والوعيد: “والله لاشرب من دمك ” أو “يجعل النسور تأكل لحمك” أو “يدقوا لحمك على عظامك”. وحتى في تجلي العشاق بالمناجاة المعروفة يقال “أحبك موووت”. وفي الذكورية المتضخمة يتجسد ذلك أن الرجل حارس للحم (النساء). وبالنسبة لجمالية المرأة، فتقاس بكمية اللحم فيقال: فلان، والله تزوج بمره (فرش وجمش) كناية على التدفئة باللحم المكتنز. وفي المائدة التقليدية اليمنية خصوصاً عند القبائل حيث يقدم اللحم على بقية المأكولات، ويستفتح الغداء به، وتقول أضراس الشهية الذكورية القبلية عن اللحمة الجيدة “ما لحمة إلا تهز الدقون”. وتعج الذاكرة الفلكلورية بطقوس القرابين، والأضحيات، والنذور، والزواج، والختان، والموت، والاستسقاء، وحل المنازعات (تهجير الأثوار)* وذبحها على رؤوس الأشهاد، كل ذلك لا ينجز إلا في حضرة السكاكين المسنونة وانسكاب الدم وتفرق اللحم النيئ و(الحنيذ) و(الممرق). من منا لا يتذكر تعويذة أمهاتنا (قحرم دمك ولحمك) أي أن تكف الأرواح الشريرة عن إيذاءنا، فيحرم عليها دمنا ولحمنا. ولا ننسى في تقاليدنا ومعتقداتنا استجداء الأرواح الشريرة بكف الأذى بفدية (جدي مرقشش/ مرقمش) و(ديك منقط) .. الخ. أما طقوس العذرية فما زلنا نحتفى بها رقصاً ورصاصاً ونقوداً نذروها على رقعة دم لكرنفال بدائي يطلق عليه زفة افتضاض البكارة.
هكذا يتبدى الوجدان الجمعي متخماً دماً ولحماً يحضر بقوة أيضًا في السياسي بفجاجة يستحضر الحياة البدئية المتوحشة التي توهمنا بأنها قد اختفت بالتطور والتغير أو تكون قد هُذبت بالفنون، والأدب والمعيشة المدنية.. لكن في مجتمع يتنفس بدواة وقبيلة فلا ينفصل الاجتماعي عن الثقافي عن السياسي. وتصبح الحياة القبلية مركبة بالطقوس الوثنية التي تدخل ضمن النسيج القب- بدوي اليمني. فثقافة اللحم والدم والنشح إحدى مكوناتها الأساسية.
فعلى المستوى السياسي تمسرحنا بذاكرة اللحم والدم، فأهرقت الدماء البشرية والحيوانية في أيام الانتخابات على صناديق الانتخابات: دماء البشر تزهق ببساطة عند التلاعب بالأصوات، أو حضور مهرجانات التأييد والمناصرة، والحيوانية للاحتفالات بالانتصار، أو التهجير والتسوية بالحلول القبلية.
ويتزامن مع ظهور الأبطال، وتتابع فصول المسرحية، نثر القصائد والملاحم المكتوبة بالدم، وتعميد العهود التي يقطعها الرعية للحاكم بالدم. وهذا ما طالعتنا به صورة لرئيس جامعة يمنية وهو من أشهر الأطباء يقطع من لحمه لوثيقة الدم. وبالمثل فعلت دفعات من المتخرجين ذكوراً وإناثاً من جامعة صنعاء، ليقدموا للحاكم وثيقة معمدة بالدم وسط عاصفة من التصفيق البلهاوي، الملهاوي والمأساوي معاً..
أما أعياد الشباب فكل يوم يطل علينا زعيم للشباب أو مجموعة من الشباب (الممصوصين دماً ولحماً) وكأنهم خارجون من مجاعة مزمنة من اهراق دمهم – إذا كان ذلك دمهم فعلاً – ليرصوا معلقات عصماء وعجماء لأحرف من دم مسفوح في سبيل استدامة الزعيم القائد الى أبد الآبدين.
وكأن الشغل الشاغل لليمنيين ينحصر في اكتنازهم الدم من أجل أن ينثروه على العرائض واللوائح والقصائد، وما تبقى منه يتفرق على المشاحنات والمشاجرات اليومية في الطرقات والأسواق والمساجد.. الى الدرجة التي غدونا معها لا نجد مدنياً، ولا عسكرياً، ولا شيخاً، ولا شاعراً، ولا طبيباً، وأستاذ جامعياً، ولا مثقفاً، ولا أديباً ، ولا امرأة، ولا معلولاً أو مسلولاً، إلا ويعبرون عن الولاء والطاعة ورص الصفوف بالدم. ستجد المشهد الدموي واللحموي مسفوكاً في مدرجات الجامعة، في ساحات وعتبات مجلس النواب، في عتبات بيوت المشائخ والرعية، في ساحة القصر الجمهوري، في أعراسنا، في مأتمنا، في عباداتنا في السلخانة، وعند إشارة المرور…الخ.
وأنا أشاهد هذا الكرنفال العجائبي الغرائبي أقول ربما أني أغرق في أساطير ما قبل التاريخ، أو أني في حاضرة (الجمهورية الدموية اليمنية)، وليست الجمهورية اليمنية.
أتسأل ما هذه النفسية المركبة والمريضة حد الجنون والهذيان؟ ما هذه المخيلة الدموية المرعبة التي تجعل سلمنا لا يعرّف إلا بالدم، وكذلك هي حربنا، وكذلك عارنا وشرفنا يتكرس جودهما بالدم، ومحوهما بالدم، كتاباتنا بالدم ولعبنا بالدم. نحب وطننا بالدم، ونثور عليه بالدم نعشق بالدم ونرقص بالدم، ونموت بغائلات الدم؟
الأمس هو اليوم، الوعي واللاوعي واحد، لم نخرج بعد عن طقوس الوثنية والشامانية التي تحركنا.
في هذا السياق تذكرت حكاية جدتي عندما حدثتنا عن امرأة لم تف بنذرها فكان عاقبتها هصر وليدها في لحظة الولادة وتفرق دمه ودمها، وكان الفاعل جني شرس يتغذى على الدم واللحم، قد يكون الغول (الجرجوف) أ و (الدجرة). الأساطير لم تقطع بعد زمنياً في مجتمعنا اليمني، مازلنا في متنها، وما زالت كائنات الموت وآلات الدمار الشائهة تعيش بيننا وتسيرنا بمنطقها.
كنا نتمنى أن تصبح الأسطورة في حياتنا معطى فكريا وحسب، أو كما يقول جورج كامبل “مفاتيح للإمكانيات الروحية في الحياة البشرية” لا أن تكون أساطير لا تحتفل إلا بمفردات الدم والقرابين.
أذن، ما جملة الذنوب التي ارتكبناها نحن اليمنيون؟ وما هي النذور التي تثقل كواهلنا بحيث تجعلنا لا نعيش إلا بثقافة المذبح؟؟
…
استسمحكم بتحوير مقولة هيرقليطس الشهيرة بـ”أن الحرب أم لكل الأمور تصنع الآلهة والرجال والعبيد”، ونقول بأن الدم واللحم أم لكل الأمور تصنع الآلهة والرجال والعبيد والحياة أيضا في اليمن!!!
فكيف تشوفوووووا؟
* تهجير الثيران: تقليد قبلي يمني يقوم بذبح مجموعة من الثيران لحل المنازعات، واسترضاء الخصوم، حتى أصبح العرف القبلي قانوناً مهيمناً يسود مؤسسات الدولة، فلا يكاد يمر يوم دون أن تذبح الثيران أمام الوزارات أو مؤسسات الدولة، أو دار الرئاسة.
arwaothman@yahoo.com
* صنعاء
في المخيلة الدموية الجامعة..!اصابني شيء من الانبهار بعدان قراءت ماورد من الاخت اروى العزيزة ,وانبهاري جاء بسبب انة لاول مرة -مند الصراع الدي نشب في 7-7-2007 بين السلطة والمعارضة المتمركزة في جنوب الوطن التي تطالب بحقوقها المشروعة -ابدت مواطنة يمنية (تعيش في اليمن)موقفها من العنف ,وهوواضح من العادات والتقاليد اليمنية التي تستخدم السلاح-الدم- اداة لحل اي قضية او قضايا كانت سياسية اجتماعية ….. مند زمن طويل قبل ظهر القوميين والاسلاميين,ربما يعود الى تركيبنا -البساخالوجي -القبلي ,وقد اعجبني اعطائك اجابة وافية عبر التاريخ,والتقاليد والعادات لهدة الظاهرة الدامية(الدموية) الحيوانية ,حتى انني مقيم مايقارب 25عام خارج اليمن شميت رائحة الحنيذ -الدم الدي سوف… قراءة المزيد ..