على الرغم من أن أنصار مدرسة التفسير الديني التقليدي التاريخي يتبنّون قاعدة في التفكير يدّعون من خلالها بأن فهمهم للدين والشريعة يقع في إطار المعرفة الدينية البشرية، إلا أن ذلك يحمّلهم مسؤولية الاعتراف بالآتي: انه ليس فهما نهائيا للدين، وانه ليس فوق باقي الأفهام، ولا يعتبر فهما يتجاوز الإدراك البشري. وتلك النتيجة ترتبط بأسباب عدة من ضمنها أن المعرفة الدينية هي معرفة متنوّعة، وأنها عجينة بالمعارف البشرية الأخرى غير الدينية. بالتالي لا يمكن وصم من يختلف في فهمه للدين، ممن يعتمد على منهجية في التفسير تستند إلى الاستعانة بالعلوم غير الدينية، بالزندقة والتكفير، كما حدث ويحدث مع العديد من الباحثين في الشأن الديني ممن لاينتمون إلى المدرسة الدينية التقليدية التاريخية. فالمعرفة الدينية، بوصفها معرفة بشرية، لا يمكن ان تنفصل عن المعارف غير الدينية، بل هي تعتمد عليها وتستفيد منها وتنطلق من خلالها، مثلها مثل جميع المعارف الأخرى. بمعنى أنها لكي تصبح معرفة وفهما، لابد أن تعتمد على علوم بشرية مختلفة. ويؤكد المفكر الإيراني الدكتور عبدالكريم سروش على ذلك بالقول بأن علم الأنسنة وعلم الاجتماع ومناهج العلوم والفلسفة كلها حاضرة في فهم الدين. ويضرب مثلا على ذلك: إن فيلسوفا مثل هيغل أو مثل كانت، بعدما اعتنقا فلسفة خاصة، فإن هذه الفلسفة أفسحت مكانا للدين، وبالتالي فإن شريعة الدين لا يمكنها ان تكتشف معطى يسمح بطرد الفلسفة من الدين. كذلك يقول: حين يرى حكيم أرسطوي (نسبة إلى أرسطو) في أحد النصوص الدينية ألفاظا مثل الانسان، الجسم، الحلم، الموت، النور، السماء.. فإنه لا يمكن إلا ان يدركها إدراكا أرسطويّا، وبالتالي فهو يعرف الله المعرفة التي تقتضيها أدلته الفلسفية.
إن الفهم الديني القائم على نظرة فلسفية أو علمية حديثة، يعارضه البعض ويعتبره باطلا ويوصمه بالبدعة والزندقة ويخرج صاحبه من الدين لمجرد انه فهم انطلق من نقطة لا يعترف بها هذا البعض، رغم انه – أي هذا البعض – ينطلق في فهمه للدين من نظرة علمية تاريخية ومن مناهج بشرية في التفسير. وعلى الرغم من هذا التباين والاختلاف إلا ان المعرفة الدينية في النهاية ليست سوى فهم بشري غير منته، ولا يمكن أن يكون ملكا لأحد، كما لا يستطيع بأي حال من الأحوال ان ينفك عن العلوم البشرية، ويمكنه ان يكون فهما صحيحا أو فهما باطلا.
وتعتبر المحاولات العلمية والبحثية التي يقوم بها البعض لإعادة النظر في علاقة الدين بالتاريخ، أو لفلترة تلك العلاقة، أو حتى قطعها، دعوة مشروعة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فهذا البعض لا يسعى إلى قطع العلاقة بالله والوحي ولا بالعلم المستند إلى التاريخ، إنما يريد أن يضع حدا للعلاقة التقليدية المصلحية بالتاريخ الديني، كما يريد انتشال الدين من مستنقع الصراع المادي من أجل رفع وصاية رجال الدين التقليديين عن الإنسان والمجتمع. فهذا البعض يرفض التبعية للتاريخ، ويعارض الخضوع التام للماضي الاجتماعي الديني الساعي إلى أن يصبح أساسا للحياة في الحاضر، ويرفض منهج التقليد الأعمى، تقليد الفقيه غير المنتمي للواقع الراهن. وحسب هذا البعض فإن بناء علاقة إيمانية متميزة في المجتمع يحتاج إلى نشر فهم للدين تصب مخرجاته في هذا الإطار، فهم يخدم الجانب القيمي والمعنوي والأخلاقي للإنسان بعيدا عن تداخله بالمسائل السياسية والاجتماعية والمصلحية، وهو ما قد يحرّر العقل من وصاية الخطاب الديني التقليدي التاريخي. فالخلافات السنية الشيعية ترتبط بقضايا سياسية واجتماعية تاريخية أو ما يسمى بعرَضيات الدين. ومسببات الإرهاب الفكري والبدني لا تتعلق بذات الدين إنما بالعرضيات. والصراعات السياسية العربية والإسلامية فيما بينها ومع مختلف الأطراف الدولية تنتمي إلى ظروف تاريخية لا دخل لذات الدين فيها. لكن أنصار المدرسة الدينية التقليدية التاريخية وكذلك أنصار الإسلام السياسي استغلوا عرضيات الدين لبسط وصايتهم على الدين وعلى المجتمع.
يقول سروش في هذا الإطار: هل تبقى عرضيات الإسلام هي نفسها لو نزل القرآن بلغة أخرى؟ ويجيب: لا جدال في أن الإسلام لو نزل في اليونان أو الهند أو بلاد الروم بدل الحجاز لكانت عرضيات الإسلام اليوناني والهندي المتغلغلة إلى أعماق طبقات النواة المركزية تختلف اختلافا كبيرا عن الإسلام العربي، ولوفرت الفلسفة اليونانية المتينة على سبيل المثال أدوات لغوية ومناهجية، ومنظومة مفرداتية خاصة لنبي الإسلام تغير معالم خطابه، كما أن الإسلام الإيراني والهندي والعربي والإندونيسي اليوم، وبعد قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل أنماطا من الإسلام تختلف عن بعضها بشهادة أدبياتا ونتاجاتها، ولا تقف التباينات عند تخوم اللغة والظواهر بل تمتد إلى أعماق الوعي والثقافة الدينية. فالعرضيات في الدين تعكس الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحضر مع حضور الدين في المجتمع لتضفي عليه نكهة خاصة، غير أن هذه النكهة يجب أن تعين موضوع الدين والتديّن لا أن تشوهه وتستبدله بدين يمارس الإلغاء ويحث على الوصاية والاستبداد، بل يجب إعادة فهم العرضيات لكي تساهم في التقليل من الخلافات بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، وأن تؤسس لدين يرفض قتل الواقع وإجهاض التطور، دين في الضد من الوصاية على العقل.
إن الحياة الراهنة أصبحت تستند إلى رفض العيش في ظل سلطات تاريخية مسبّقة دينية أو غير دينية تتحكم في حياة الإنسان وفي تفكيره وتمنعه من التغيّر والتطوّر. فأطر التفكير باتت مفتوحة بحيث لا يمكن تحديدها أو السيطرة عليها، كما انفتح على الإنسان باب “انتخاب” الأطر التي يجب أن يعيش تحت ظلها بحيث لم يصبح هناك مجال للإنسان لـ”إجبار” إنسان آخر على الخضوع لإطار فكري معين، وبالذات للإطار الديني التقليدي التاريخي. ففي كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل شأن من شؤون الإنسان، انفتح باب الانتخاب على مصراعيه وتعددت الاختيارات بعد أن تنوعت طرق التفكير. وهذا التنوع لم يكن لينشأ لولا ضعف الحجة في المدرسة الدينية التقليدية التاريخية، التي لا تعتبر مناهج التفكير الأخرى إلا مجرد “خزعبلات” تتعارض مع نهجها الديني “الأصيل”، ولا ترضى للإنسان إلا أن يتبعها ويقلّدها ويأتمر بأوامرها. ففي الماضي كانت مسؤولية الإنسان هي “التبعية” للسلطات الدينية المتحكمة في الحياة، ومنها سلطة رجل الدين الفقيه، في حين استطاع نهج “التنوع والاختيار” أن يضعضع تلك السلطات.
إن الإنسان في الحياة الحديثة الراهنة ليس أمامه إلا السير في نهج التنوع والاختيار، لأن جميع الأمور والقضايا خاضعة لهذا النهج. فالتعدد والتنوع ظاهران في مختلف جوانب الحياة بما فيها الدينية، وحتى في الأطر الضيقة منها أيضا. فهناك تعدد في الديانات، كذلك تعدد في المذاهب لدى الدين الواحد، وتعدد في التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية داخل المذهب الواحد. وتنوع الاختيارات في الحياة الحديثة لا يمكن أن يخضع للسؤال التالي: هل نريد هذا التنوع أم لا نريده؟ فالحياة قائمة على التنوع ولا حياة من دونه، لكنه يختلف في مؤشر النسبة من مجتمع إلى آخر.
لاتوجد في الحياة الحديثة حدود معينة للتفكير أو أطر لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، ولا يمكن تكميم فم التفكّر وتكبيل يديه بأغلال تمنع عنه الحرية، كما لايمكن رميه في سجون اللاتفكير المنتشرة في أصقاع العالمين العربي والإسلامي. وأخطر هذه السجون على الأمن والسلم الاجتماعي، بل وأكثرها فتكا بالتفكير الحر، هي تلك التي يصنعها الخطاب الديني التقليدي التاريخي المتحالف مع المستبد السياسي. ولننظر إلى الظروف المحيطة بنا ونحن نعيش وسط عالم العرب والمسلمين كيف استطاع السجّان الديني، الرسمي وغير الرسمي، أن يتحالف مع المستبد السياسي ويصنعا من هذه الحياة سجنا لا يقل سوءا عن أي جدران مسورة بالأسلاك الشائكة والحديد والحراس وأجهزة المراقبة الحديثة لمعاقبة المجرمين وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم. لنتفحص وضع المرأة، وضع الخادم والخادمة، وضع الأجنبي العامل، وضع الأقليات الدينية، والأقليات الإثنية، وضع الفقراء، وضع البدون، التمييز الفاضح بين المواطن والوافد، العادات والتقاليد الاجتماعية المستندة إلى التفسير الديني والتي تقيّد الحريات وتحث على انتهاك الحرمات وحقوق الإنسان. كل تلك الأمثلة توضح كيف أن السجن الذي صنعه الخطاب الديني التقليدي التاريخي المتحالف مع المستبد السياسي، أو ما يسمى بالمستبد الديني السياسي، هو أسوأ من السجن الذي بني للمجرمين. فالمجرم على يقين بأن عالم اللاحرية سوف ينتهي بمجرد انتهاء فترة عقوبته، لكن ما مصير من يعيش في سجن الحياة المكبل دائما بأغلال الأحكام والقوانين الدينية والسياسية المتعجرفة التي حكمت على الحرية والعقلانية واحترام حقوق الإنسان بالمؤبد؟
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي