كثيرا ما أكدت في مقالاتي الثقافية ، بان النقد هو الغائب الكبير من أدبنا العربي في اسرائيل. لم أقصد اطلاقا انه لا توجد كتابات نقدية ، أو تقع عموما في باب النقد.أو تسمى نقدا لأنها أقرب شيء الى أشكال الكتابة النقدية . واعترفت بوضوح اني لا أعتبر نفسي ناقدا الا بالتعبير المجازي لهذا الاصطلاح .
كذلك أكدت بلا تردد ان ما أكتبه يقع في باب الكتابة الثقافية ، مراجعة كتاب مثلا ،أو طرح فكرة ثقافية أو قضية فكرية عامة ، أو فكر سياسي ، أو اجتماعي . وكثيرا ما قيل لي من زملاء ادباء ان مراجعاتي وطروحاتي الفكرية ، هي من نوع النقد الثقافي أو الفكري الصحفي ، السهل والممتع وسهل الهضم . وقد اعتبرت هذا التقييم أقصى ما أطمح اليه من كتاباتي الثقافية ( النقدية ) .
لايعني ذلك ان النقد غائب تماما ،حقا لدينا نقاد ونقد أدبي ، غير انه لم يشكل تيارا ثقافيا مؤثرا وحاسما في صيرورة ثقافتنا وتطورها. بل لم يشكل حتى تحديا أدبيا أمام مبدعينا ، اسوة بما يشكله النقد من موقف حاسم في كل ثقافة ذات جذور واجندة ثقافية .
هل في مسيرة ثقافتنا أجندة ثقافية ؟
هل ثقافة بلا اجندة يمكن ان تسمو الى ثقافة قادرة على اختراق مجتمعها والتأثير فيه؟
امامنا تجربة ثقافية نادرة في تجارب الشعوب ، تجربتنا الذاتية . في سنوات الستين والسبعين نجحنا بخلق تيار ثقافي مؤثر لدرجة بات الأدب ( الشعر اساسا) نجما في مهرجاناتنا السياسية. وكانت كل ندوة أدبية تعقد تتحول الى مهرجان ثقافي .. كنا نبحث عن الاصدار الجديد لنقرأه قبل الندوة ونشارك في طرح انطباعاتنا . كنا جزءا من حركة ثقافية نشطة . كان للتيار الثقافي بعده الاجتماعي المؤثر ، الأخلاقي التربوي ، بل وأكثر ، كانت الثقافة سلاحنا السياسي الروحي . لذا ليس بالصدفة ان الحزب ( الشيوعي ) الذي تبنى انقاذ الثقافة والهوية العربية ، للأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها ، وربط حاضرها بماضيها الثقافي ، وبواقع الثقافة العربية في العالم العربي ، هو الحاضنة ، او الدفيئة ، التي اعطت لشعبنا أولا ، ثم للشعوب العربية ، وللثقافة التقدمية في العالم ، كتابا وشعراءا مميزين ، اثبتوا انفسهم على الساحة المحلية ليس كمبدعين فقط انما كمناضلين في الوقت نفسه ، مما ترك انطباعا لم يغادر ثقافتنا حتى اليوم ، بأن الثقافة غير الوطنية وغير الملتزمة بقضايا الجماهير هي غير ذات بال . كان لهذه الفكرة سلبيات ستظهر في المستقبل – الذي نعيشه اليوم . وللأسف أفرزت هذه السلبيات قيما مشوهة ، ونقدا مشوها وثقافة مشوهة ، ودخلاء على الأدب والنقد ، وعلى النشر المشوه في الصحافة خاصة ،والترويج الكاذب ذي الصبغة القبلية. وأكاد أقول ان غياب اقلام واعدة هو نتيجة الفوضى الثقافية ، التي بات مروجوها من نقاد لا علاقة لهم بالأدب ، او بعض من صمتوا دهرا ونطقوا كفرا أدبيا، أو كتاب نثر لا شيء من الجمالية الأدبية في نصوصهم ،يصرون ان يقتحموا عالم الابداع ظانين ان الموضوع لغوي انشائي فقط، ويجدون مع الأسف من يستجيب لنزواتهم ، كل هذا أوصلنا الى حالنا المضحكة المبكية . فهذا يلوح بعشرين كتابا وصلوه وانه يجمع عدته ليكتب “مراجعات نقدية” لكل ما وصله . من النقد الأول سيقرر( أجل نحفظ الدرس وأستطيع ان أكتب مقدمة نقده قبل ان ينشره وربما ان أشير الى ما هو أكثر من المقدمة) اننا امام شاعر قل مثيله في الشعر أو النثر ..
تصفحت العديد من الاصدارات الجديدة ، لم اجد ما يشجعني على قراءة كاملة لأكثريتها. وبعضها لم أفهم علاقته بالابداع الأدبي .. الا بالتسمية التي تحملها الأغلفة. حقا هناك مواهب جيدة ، وهناك كتابات جيدة ، ولكنها تغرق في بحر من الكتابات غير الناضجة.
لا أكتب لأقلل من أهمية المراجعات ، حتى للاصدارات التي لم ترق الى مستوى الشعر او القصة . ولكني اتوجه برجاء ، لنقاد هذا الأدب ، لا تبيعوا أوهاما ، اذا كنتم حقا تعتبرون أن نقدكم يقع في باب الثقافة .. احترموا صاحب العمل الذي يريد توجيها صحيحا وصريحا ، حتى لو كان مؤلما، لأنه قد يكون موهوبا حقا ، ونقدكم ، اذا لم يلتزم منطق الصدق ، يجعل البعض على قناعة انهم أصبحوا أصحاب مدارس أدبية ، وان ما يخرج من مداد أقلامهم ، بصالحه وطالحه ، هو الابداع بجوهره .
كما قلت أعرف ما سيكتب سلفا … ولم يخب ظني .
اذا كان هذا التقييم الرائع للأديب الأول فسنجد ان التقييم للثاني سيكون أكثر روعة، خطوة أخرى الى الأعلى ، والثالث أكثر وأكثر … اذ يبدو لي ان مبدعينا المبشرين بالخير كما أرجو ، يطلبون العلالي من اللحظة الأولى ، ووقعوا على من يستجيب لرغباتهم . هذه كانت رغبتي أيضا مع أول قصة نشرتها وانا في جيل الخامسة عشر ، وظلت هذه الرغبة ترافقني حتى جيل أستطيع ان اسمية جيل الاكتمال النسبي للوعي الثقافي . وأقول النسبي لأن الوعي لا يكتمل ابدا انما يزداد اثراءه بالتجارب الابداعية واكتساب المعارف الجديدة وتوسع عالم الأديب الثقافي والفكري وتجاربه الحياتية بالتأكيد..
بعض هذا النقد الذي أحذر من مخاطره ، يذكرني بحكاية سمعتها اثناء دراستي في الاتحاد السوفييتي السابق.تقول الحكاية:
كان ستالين مولعا بتدخين البايب ، يوما فقد البايب المفضل لديه .. ستالين على ثقة ان البايب سرق من الغرف التي يستعملها في الكرملين. وعليه ، اللص لا بد ان يكون من الحاشية المقربة. أعطى علما بالأمر لقائد المخابرات المشهور وقتها بيريا ، وطلب غاضبا بايجاد البايب بأي ثمن . بيريا الرهيب بدأ بالتحقيق والاعتقالات والتعذيب … في هذا الوقت وجد ت المساعدة بايب ستالين تحت وسادته ، واعلمت الرفيق ستالين انها وجدت البايب الضائع .. ستالين سارع بالاتصال بالرفيق الرهيب بيريا ليعلمه ان مسألة البايب حلت فقد وجده .. بيريا لم يصدق ، قال : كيف يمكن ان تجده يا رفيق ستالين ولدي ستة معتقلين من قيادة الحزب اعترفوا انهم سرقوا البايب المفضل لديك ؟!
ايها الرفيق الناقد بيريا ، رحمة بادبنا لا تستعمل اساليب اقناع حتى لو كانت باسلوب رقيق وقمة في اللطافة والتبجيل والتشجيع وحسن النية !!
بالطبع اتمنى للأدباء العرب الفلسطينيين في اسرائيل المزيد من الابداع والرقي الثقافي .ولكن الامنيات لوحدها لا تصنع أدبا.
تعالوا نفحص جوانب أخرى لها صلة الرحم بالنقد .
هل يملك نقدنا المحلي السائد ، وعيا جماليا؟ وهل هو قادر على ايصاله للمتلقي؟!
ما يقلقني ان وعينا الجمالي الأدبي لم يتبلور بعد بصفته ركنا ثقافيا وفكريا مقررا وحاسما في تقييم الابداع الأدبي. . في مرحلة سنوات الستين والسبعين كنا متعطشين . الثقافة أعطتنا أجنحة لنتواصل مع تاريخنا وهويتنا القومية والحضارية. أعطتنا دفقا من المعنويات لنتحدى الواقع السياسي الرهيب الذي انكشف امامنا عقب نكبتنا وبقائنا في وطننا . بعضنا بلا هويات يهددهم خطر القذف وراء الحدود ، بعضنا حاضر غائب حسب قوانين قراقوشية تحكمت بمصيرنا ، الأرض تصادر ، قرى تهجر وتهدم حتى بعد اقامة الدولة ( اقرث وبرعم ). لا جئون على بعد مسافة قصيرة من قراهم واراضيهم . ذاكرة شعب كامل تهدم . بقايا شعب ممزق ومهزوم ويتلمس الطريق في واقع غريب عنه بكل ابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لم تكن فترة لالتقاط الأنفاس . كل شيء يسير بسرعة غير معتادة . خطط للتجهيل بلغتنا وهويتنا ، اسماء بلداتنا وملاعب صبانا تعبرن ، من أكثرية تحولنا الى أقلية مضطهدة ، تفتقد للمثقفين ، المتعلمون قلة ، نفتقد للبنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والمدنية. من مزارعين تحولنا بفقدان الأرض الى عمال أجرة في المشاريع اليهودية ، قرانا ومدننا تحولت الى فنادق تأوينا بعد يوم العمل . المعلمون يلاحقون ويفصلون ارهابا وقمعا لجعلهم خصيانا ينفذون أوامر الحكم العسكري . شعب بلا مؤسسات ، القيادات التقليدية هربت ، المخاتير بأكثريتهم الساحقة تحولوا الى زلم للحكم العسكري الاسرائيلي ، وقبل ذلك كانوا من جيش الظلال الذي دعم نقل الأرض لليهود وباع شعبه لقمة سائغة لمصير رهيب ما زال يدفع بالدم ثمن مأساته حتى اليوم*.
في هذه الظلمة برز الحزب الشيوعي بقيادته الطليعية التاريخية . مجموعة من المثقفين الوطنيين الأبطال حقا بكل المعايير . من اليوم الأول قرروا التحدي . دفعوا ثمنا رهيبا ، ولكن طريقهم انتصرت .. الثمن كان ضياع حيوات أجيال ، حتى لا يضيع شعبنا ويفولذ تمسكة بأرضه وحقوقه . وكان تطوير الأدب أحدى المهمات الاستراتيجية الهامة للطليعة الشيوعية . وهو موضوع سبق وان استعرضته في مقالاتي.
ويبدو لي اليوم ان غياب الطليعة أفقد الحزب مركزيته وطليعيته . وهو موضوع يحتاج الى دراسة خاصة . وأرى انه ترك آثارا سلبية على تطورنا الأدبي .
أحبائي ، الادباء الشباب خاصة ، نحن بحاجة الى تحليل نقدي ، ما يقلقني ان ذوقنا الجمالي لا يتبلور من خلال الفوضى الأدبية ، وبتنا عاجزين عن استيعاب الجمالي في الابداع والتلقي.
مثلا الشعر العربي القديم له بنية تختلف عن الشعر الحديث . قرأنا تحليلات للشعر القديم ومبانيه الجمالية ، وعشقنا هذا الشعر بعد ان انكشف كالكنز امامنا . والسؤال ، اذا كنا ذواقة لشعرنا العربي القديم ، لماذا لا نشعر بأي احساس مع معظم ما ينشر من شعر ، حتى لو حاول بيريا تسويقه باللطف او بالعنف؟
وربما نتساءل ما هي مركبات هذا الذوق الجديد ؟! أقول بوضوح جوابا على سؤالي ، ان هذه هي احدى مشاكل النقد الحديث . الاشارات الأدبية عاجزة عن الايفاء بالمطلوب ، واسلوب الكتابة التقريرية ، مهما اجتهد صاحبها لن يستطيع ان يقرب بين القارئ والنص موضوع النقد .
ان أجل ما يغيب عن الناقد هو المستويات التعبييرية للابداع .
عندما يصعب على الناقد ان يستوعب الوعي الجمالي ، بصفته الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء من خلال سماتها الحسية ، وقدرتها في التأثير على المتلقي ، عند ذلك يغيب تماما أهم ما في النقد ،وأعني : المضمون الجوهري للمقياس الجمالي في الابداع الأدبي.
آمل ان لا تكون كلماتي معقدة ، لذا اسمح لنفسي ان اقول انه لا يوجد في أدبنا الا القليل القليل من النقد الأدبي ، وأكثريته لم يتناول أدبنا .
النقد يحتاج الى فكر ، والاحظ ان أكثرية كتاب ما يعرف ضمنا بالنقد يفتقدون لأكتمال الفكر واكتمال الحس الثقافي ، وكتاباتهم بلا فكرة نقدية محددة .
والفكر يحتاج الى رؤية فلسفية للثقافة والحياة ، وليس فقط القدرة على صياغة الانشاء.
بالطبع لدينا معوقات تتعلق بتركيبة مجتمعنا ، الحياة الثقافية النشطة والفعالة هي سمة للمجتمعات المدنية ، ونحن للأسف الشديد نحقق تراجعا في مدنية مجتمعنا . نعود الى تجزئتنا العائلية وتباعدنا الطائفي ، حتى فكرنا القومي يتحول الى فكر طائفي منغلق.
ما دخل هذا بالثقافة ؟
الثقافة ارتبطت دائما بالتطور العلمي والاقتصادي والرقي الاجتماعي والعلوم وانتشار المدنية عبر الانتقال الدائم من أولوية الريف الى أولوية المدينة.
قد يكون أيضا ما كان من هبة ثقافية في سنوات الستين والسبعين في الوسط العربي داخل اسرائيل هي الطفرة التي أحدثها الانتقال من مجتمع زراعي غير متطور الى حياة اجتماعية تعتمد على العمل في الصناعة والاندماج باسلوب حياة مدنية ، ولو قسرا ، نتيجة مصادرة الأرض وفقدان الزراعة العربية لمكانها الاقتصادي المركزي في حياة المجتمع العربي …. وقبل ان نبدأ بما يجري اليوم ، من عملية ارتداد فكري وعائلي وطائفي كنا نظن انها لم تعد تشكل عائقا امام مجتمعنا العربي في اسرائيل ، الذي تحول الى اقتصاد انتاجي حديث ، وعلاقات انتاجية حديثة ، وما فرضه ذلك من اسلوب حياة مدني . حقا التطور كان قسريا، وسطحيا ، أي لم ينجح بتغيير حاسم للعلاقات الاجتماعية القديمة ، علاقات المجتمع القروي الصغير المتماسك عائليا ، الى مجتمع مدني منفتح ومتحرر من الروابط القروية ، تحكمه قيم غريبة ودخيلة . قيم مجتمع برجوازي اوروبي ، كولونيالي في نهجه مع الأقلية العربية الباقية رغما عن خططه في وطنها ، الى جانب الحقيقة غير القابلة للجدل ، بأن نكبتنا هي الوجه الآخر للواقع المتغير الذي يعصف بنا.
اليوم ما نشاهده اختفاء الأحزاب من حياة بلداتنا ، وتحولها الى قوة ثانوية في النشاط الاجتماعي ، والحكم المحلي ( السلطات المحلية )ز بدل تحويل جهاز الحكم المحلي الى قوة محركة اجتماعية وسياسية ، نرى ان الأحزاب فقدت مكانتها ، وصارت تتجند لدعم مرشح عائلي أو طائفي للحكم المحلي ، وبامكان القارئ ان يجري استعراضا لسلطاتنا المحلية ، ليرى صحة تقييمي . ان تسمية الحزب لمرشح لرئاسة سلطة محلية لا يعني ان المرشح ينفذ برامج الحزب ويلتزم برؤيته الفكرية . لذا ليس بالصدفة ، بل سيكون من الغريب ان لا ينعكس هذا الارتداد المرضي على ثقافتنا وحياتنا الثقافية.بل وعلى فكرنا الاجتماعي بمجمله.
* راجعوا “عرب طيبون” و “جيش الظلال” للباحث اليهودي هيلل كوهين لفهم الحقائق الرهيبة التي اتحدث عنها .
– كاتب واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com