“قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضرّ لو كان جلس”
بهذا البيت الشعري لابو نواس يمكن إختصار واقع مدينة وكرسي إنطاكيا البطريركي، الذي أصبح أثرا بعد عين، بعد ان شكلت إنطاكيا تاريخيا مخمرا للأفكار وموئلا للصراعات المسيحية التي أدت الى إنقسامها اواسط القرن الرابع ميلادي، لتتلاشى تدريجيا وتفقد مع الفتح العربي هويتها المسيحية. واستكملت السلطنة العثمانية طمس هذه الهوية، بحيث لم يبق من آثار المسيحيين فيها سوى كنيسة القديس بطرس الرسول، التي يمكن أن يطلق عليها تسمية “اول كنيسة في العالم”، أنشأها بطرس الرسول الذي بقي في إنطاكيا سبع سنوات، أسس فيها الكنيسة، والرعية، قبل ان ينتقل الى روما.
فمدينة أنطاكية إحدى أهم المدن في تاريخ سورية وهي حاليا تخضع للسيطرة التركية، قبل ان تتخلى سوريا عن لواء “الاسكندرون السليب”، حيث أنها كانت عاصمة سورية قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع، وما زالت حتى الآن عاصمة للكنائس السورية المسيحية.
كانت إنطاكية في العصر الهيليني عاصمة الإمبراطورية السلوقية، وفي العصر الروماني تصاعدت أهميتها حتى صارت ثالث أكبر مدينة في العالم بعد روما والإسكندرية.
نقل العرب عاصمتهم من أنطاكية إلى دمشق لأسباب لوجستية. كما تعرضت إنطاكية في التاريخ الإسلامي للغزو مرات عدة من الروم والصليبيين. وبعد انتهاء الحروب الصليبية صارت تابعة لحلب . كما وقعت تحت النفوذ الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى قبل انتقالها تحت السيطرة التركية سنة 1939. الى ان تخلى الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد عن “اللواء السليب” فأصبحت انطاكيا تركية الهوية واللغة.
زائر انطاكيا يكاد لا يعرف ان المسيحية مرت من هنا، او أن المدينة كانت ذات يوم مدرسة لاهوتية منها تخرج عدد من القديسين من بينهم، “يوحنا فم الذهب” والشاعر والملحن المسيحي “مار افرام” السرياني” الذي لقب بـ”كنّـارة الروح القدس”، وسواهما من اللاهوتيين المسيحيين. وكانت تشع حضارة على ما يعرف اليوم بلبنان وسوريا وبلاد ما بين النهرين، وفلسطين، وفيها حدثت الانقسامات المسيحية، وانقسم الدين طوائف! كما اشتهرت بتعدد اللغات، يتقدمها اللغتين الآرامية، لغة الانجيل، والسيد المسيح، واللغة السريانية، التي غلبت الآرامية لاحقا، لتتحول الى لغة الطقس الديني، الذي ما زال بعضها مستخدما الى اليوم.
زائر انطاكيا اليوم، لا يجد فيها رمزا دينيا مسيحيا واحدا، ولا حتى إشارة صليب، فكل ما تبقى من تلك الحقبة المسيحية، اول كنيسة أنشأها القديس بطرس. ومع ذلك لا ترفع فوقها إشارة الصليب، وهي تستخدم كمعلم سياحي أثري، يخلو من أي معنى ديني، كما ان المدينة في حد ذاتها تفتقر الى البنى التحتية السياحية، وهي تشهد حاليا ورشة تأهيل لطرقاتها وبناها التحتية.
ومع ان الموارنة في لبنان لم تربطهم تاريخيا اي علاقة مباشرة بانطاكيا، خصوصا ان ظهور الموارنة جاء إثر الانقسامات المسيحة، حيث غادرتها فرقة سريانية، ومنها خرج من تبع طريقة القديس مارون، ليطلق عليهم لاحقا تسمية الموارنة. ومع ذلك، فإن بطريركهم تُطلق عليه تسمية تسمية “بطريرك انطاكيا وسائر المشرق”، تيمناً بالاهمية التاريخية التي اكتسبتها هذه المدينة المقدسة في الوجدان المسيحي، بشكل عام، والمشرقي منه بوجه بوجه خاص.
ومع انها اليوم فقدت هويتها المسيحية فإن لانطاكية أهمية كبيرة لدى المسيحيين في الشرق. فهي أحد الكراسي الرسولية، إضافة إلى روما والإسكندرية والقسطنطينية والقدس. وبطاركة الطوائف التالية يلقبون ببطريرك أنطاكية: السريان الأرثوذكس، الأرثوذكس الشرقيين، السريان الكاثوليك، الروم الكاثوليك، والسريان الموارنة.
حسب احد السكان من المعمرين السوريين، وهو من الطائفة العلوية، أن عدد سكان انطاكيا اليوم قرابة 200 الف نسمة، من بينهم 40 الف مسيحي من الروم الارثوذكس، و50 الف علوي، واقليات مسيحية أخرى من أرمن وسريان، مشيرا الى ان مجموع الاقليات في المدينة يفوق عدد السكان المسلمين الذين هم في غالبيتهم من الطائفة السنية.
ويضيف : ان احدا في انطاكيا لا يجاهر بهويته الدينية، فكلنا اتراك اولا، واللغة التركية هي اللغة المتداولة، ومن بعد إشهار الهوية التركية، يمكن الحديث عن الهوية القومية او الدينية، فالجميع هنا اتراك، اولا، وسوريون ثانيا، ومن ثم مسيحيون او علويون او مسلمون …
الوضع في انطاكيا “سربس”، اي “حر”، كما يقول السكان! بامكانك ان تمارس حياتك كما تريد تحت سقف القانون والنظام. فما زالت القوانين التي أرساها مؤسس الدولة العلمانية مصطفى كمال اتاتورك ترخي بظلالها عليها، فلا داع اليوم لإشهار الهوية الدينية، بعد ان كان ذلك ممنوعا في السابق.
وزيارة انطاكيا، تستوقفها الرحلة البطريركية التي قام بها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، ولقبه الرسمي هو “بطريرك إنطاكية وسائر المشرق”، في زيارة هي الاولى لبطريرك ماروني الى الكرسي التي ينتسب اليها. فأقام الذبيحة الالهية في كنيسة القديس بطرس، على خطى الرسول، وخاطب والي انطاكيا قائلا:”انا اوقع من المعاملات بإسم انطاكيا اكثر منك، لقد حان الوقت لتقوم السلطات بتخصيص عقار من املاك الكنيسة لبناء دار للمطرانية المارونية في انطاكيا”.