هل نعرف من هم أجدادنا في هذه الأرض التي نسميها بلادنا؟ الأرجح أن الحقيقة الشعرية أقرب إلى الحقيقة التاريخية منها إلى أساطير الأيديولوجيا القومية. في “مديح الظل العالي” يقول محمود درويش: “ولدت قرب البحر من أم فلسطينية وأب آرامي/ومن أم فلسطينية وأب مؤآبي/ومن أم فلسطينية وأب أشوري/ومن أم فلسطينية وأب عروبي”. نحن خليط من كل هؤلاء وغيرهم.
مبرّر هذا الكلام ما نُشر، مؤخراً، عن اكتشاف مقبرة تعود إلى الفلستينيين، من أقدم من سكن هذه البلاد، وقد كانوا جزءاً من شعوب البحر، قدمت من بحر « إيجة »، واستوطنت سواحل المتوسط. وهم الذين منحوا بلادنا اسمها. هذا، على الأقل، ترجيح أغلب علماء الآثار، وما لم تظهر حقائق أركيولوجية جديدة، ستظل هذه الفرضية صحيحة حتى يثبت العكس.
والمهم، أن حظ الفلستينيين، الذين أنشأوا واستوطنوا الكثير من المدن الساحلية، ومنها غزة وعسقلان، كان سيئاً بالمعنى التاريخي. فقد ناصبهم محررو العهد القديم، العداء، ووصموهم بالجهل والخشونة والفوضوية. وبما أن العهد القديم، وحتى ما يزيد عن قرن مضى، كان مصدر المعرفة التاريخية، انطلق علماء التاريخ والآثار من النص للتدليل على ما يبرهن صحته في الواقع، في حين تقتضي المعرفة الموضوعية الانطلاق من الواقع للتدليل على مدى صدقية أو ضلال النص.
وعلى الرغم من حقيقة أن أحداً لا يأخذ روايات العهد القديم على محمل الجد، هذه الأيام، إلا أن البقايا الأركيولوجية لسوء الفهم التاريخي، الذي رافق ظهور الفلستينيين، في تواريخ قرون مضت، ما تزال حاضرة في اللغة الإنكليزية، إذ تُستخدم مفردة فلستيني للتدليل على جهل وخشونة وفوضوية شخص ما. وفي الدعاية الإسرائيلية الرخيصة نعثر، أحياناً، على محاولات لخلق نوع من التماهي الدلالي بين الفلستيني القديم، والفلسطيني الجديد، لاستثمار الرصيد السلبي للمفردة في ذهن الناطقين بالإنكليزية.
على أي حال، الكشف الأركيولوجي الجديد يدحض الرواية التوراتية، ففي مقبرة، تضم رفات قرابة مائتين من الفلستينيين القدامى، عُثر عليها قبل سنوات، وذاع خبرها يوم الأحد الماضي، يتضح من طقوس الدفن، أن ثقافة وحضارة هؤلاء كانت بحر متوسطية، وأكثر تقدّماً من ثقافة وحضارة جيرانهم الإسرائيليين القدامى، الذين ناصبوهم العداء.
ولنفكر في أشياء من نوع: إذا فكرنا في الانتساب إلى هؤلاء، بوصفهم من الأجداد المحتملين، فنحن نفعل ذلك بطريقة إرادية، تماماً، تصدق فيها وعليها كل آليات ودوافع إنشاء الجماعة المُتخيلة، التي أُشبعت بحثاً منذ نشر بندكت أندرسون كتابه العمدة “جماعات مُتخيّلة: تأملات في أصل وانتشار القومية” قبل أربعة وثلاثين عاماً.
ولماذا نفعل ذلك، ونصر على صفة الإرادية، لأن الناس، كما في قول لطيّب الذكر ماركس، لا يصنعون تاريخهم على هواهم، بل استجابة لظروف يُواجهون بها. نحن نجابه أشياء كثيرة بطبيعة الحال، ولكن الأخطر بينها ما نُطلق عليه، هذه الأيام، “داعش”. وهذه التسمية تتجاوز الجماعة الإرهابية، التي ولغت في الدماء في أربعة أركان الأرض. فـ”داعش” الأيديولوجيا، والفكرة، والاستيهام، والفنتازيا، جزء من تاريخ وثقافة العالم العربي. كانت، دائماً، في مكان ما وتتحفز للانقضاض.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن”داعش” جزء من تاريخ وثقافة كل شعوب الأرض في العالمين القديم والحديث، على مدار قرون طويلة. وقد فعلت في كل مكان آخر، كما تفعل هنا الآن، وضعت على وجهها أكثر من قناع ديني وقومي، وأشعلت فتيل ما لا يحصى من الحروب، وعمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
الفرق بين العالم العربي والغرب أن الغرب استخلص العبر، وأنشأ مؤسسات للصد والحماية، كما بلور مفاهيم ثقافية لتعزيز المناعة الذاتية، أما العالم العربي، الذي يتكوّن من شعوب وجماعات متعددة المنابت والثقافات والأصول، فلا زال في أوّل الطريق، منذ ورطته الكولونيالية الأوروبية الغازية، قبل قرنين من الزمن، في مأزق العلاقة بالأزمنة الحديثة.
بمعنى آخر، خروج”داعش” من كهف ما من تجليات أزمة العلاقة بالأزمنة الحديثة. الأزمنة الحديثة عبارة عامة، بطبيعة الحال. وقد تصبح مفهومة إذا قلنا إن الجوهري في”داعش” يتمثل في تقسيم العالم إلى “أنا” صافية متعالية على التاريخ، و”آخر” لا يمكن التعايش معه، بل ينبغي القضاء عليه، وفي أسوأ الأحوال، إخضاعه، وإلا فقدت “الأنا” خصوصيتها، وتعاليها في التاريخ وعليه. تقسيمات كهذه ليست جديدة منذ عشرة آلاف عام على الأقل. وقد تجلّت في ثنائيات الخير والشر، النور والظلام، والحق والباطل، والكفر والإيمان، في كل ثقافات الأرض. أما الجوهري في الأزمنة الحديثة فيتمثل في الاعتراف، حتى على مضض أحياناً، بالنسبية والتعددية.
ولعل في هذا ما يعيدنا إلى حكاية مَنْ هم أجدادنا، ولماذا ينبغي التفكير في أمر كهذا بطريقة إرادية تماماً، وفي الذهن حقيقة أن هذا جزء من آليات إنشاء جماعة مُتخيّلة، وأن العملية المعنية في صيرورة وحراك دائمين.
ففي تبديد أسطورة توراتية عن الفلستينيين ما يعني أمرين: أولاً، أن المعرفة التاريخية، المُستمدة من البحث العلمي، صحيحة حتى يثبت العكس. وهذا يعني أن المُطلق من الأفكار، في حقول معرفية مختلفة، وإن تقنّع بقناع العلم في زمن ما، قد لا يكون كذلك في زمن آخر. وثانياً، ثنائية”داعش” نقيض تعددية بلادنا وأصلها وفصلها وجنسها واسمها ورسمها، وفيها ما يهدد بتقويض علاقتنا بالبلاد، ومعرفة ما نحن ومَنْ نحن. بالتعددية نبقى وبالثنائية المريضة نخرج من التاريخ وتخرج البلاد منّا. وُلدنا من أم فلسطينية، هذه بلادنا، وفينا من البحر أكثر مما فينا من الصحراء.
khaderhas1@hotmail.com