All’s fair in love and war
الانتخابات هى لعبة الحب والحرب. وفى الحب، أنت تريد أن تفوز بمن تحب، وفى الحرب أنت تريد أن تبيد ذلك الذى لا تحب. ولك هنا، ولك هناك، أن تستخدم كل الاسلحة وتسلك كل السبل المتاحة وغير المتاحة بدون قيد أخلاقي ولا شرط ديني ولا قانون وضعي. فإن هُزِمت، فليس لك أن تلوم إلا نفسك، توافرت لك كل السبل فأسأت إستخدامها، فلم يبقَ لك إلا الاعتراف بالهزيمة والتسليم بها. هذه هى لعبة الديمقراطية التى ينبغى أن يقبل بنتيجتها الجميع.
والاخوان المسلمون وشركاؤهم هم الخاسرون. وكان عليهم كخصم شريف أن يقروا بالنتيجة، وأن يقبلوا بالهزيمة، ما دامت المبارة عادلة والتحكيم جيد وشفاف ولا مجال للطعن فيه. لكنهم لم يتحملوا لحظةَ انكشاف الوهم ولم يقبلوا بالنتيجة، ورفضوا التسليم بالهزيمة. وكأن الفوز بلانتخابات حق أصيل لهم أُخذ منهم بالقوة أو بالخداع. ثم أطلقوا النارعلى الجميع. وتصرّفوا بحمق وغباوة ستضاعف من عزلتهم. وذهبوا فى إتجاه يخالف مقتضى العقل والادب وبراعة السياسة.
ردة فعلهم الرعناء ألحقت بهم ضررا أكبر من خسارتهم فى التصويت! وكما يلوم المطرب المستمعين لانهم لم ينصتوا لصوته القبيح، فأنهم عمدوا إلى توجيه اللوم والاهانة للناخبين وإتهموهم بالسذاجة حينا وبالخيانة حينا آخر، وقسموا الناخبين إلى ثلاث فئات، كل فئة أحقر من سابقتها: إما أزلام النظام السابق وطحالبه، أو سُذَّج مغرر بهم، أو علمانيون مارقون! وهذه وقاحة، ولم يتجرأ من قبلهم أي خاسر في أي بلد ديمقراطي على أن يسب ناخبيه ويلعنهم لانهم خذلوه! وإذا اتهموا جبريل بأنه استحوذ على أصوات “الطحالب”، فإنهم نسوا رحلة “إمامهم المنزه عن الخطأ”، “المرشد تحت التجهيز”، إلى القاهرة للتفاوض مع العقارب من بقايا النظام السابق ودعوته للتسامح معهم ودمجهم فى المجتمع من جديد! بل إن وجود هذا الشخص معهم هو واحد من أسباب هزيمتهم لو كانوا يعلمون!
ولأنهم يحتكرون الدين ويملكون تفسيره، أفتى مفتى الديار بكُفر منافسيهم. فلما أعلن المنافسون تمسّكهم بإسلامهم، وأنهم مسلمون كالآخرين، طَعنَ فى صدق أيمانهم واتهمهم بالكذب. ثم شق “مولانا الإمام”، بمساعدة سكرتيره بدر الزمان” عن قلوبهم وفتش فى ضمائرهم، ثم أفتى بعد الفحص والتدقيق بأنهم منافقون على درجة عبدالله بن أبي زعيم النفاق فى عهد رسول الله الذى لم تنفع له صلاته وصيامه مع الله شيئا! وهكذا أدى الغضب بالمفتي إلى إنكار شرع الله وسنة الرسول
والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون بقوله: ”إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر” (وثيقة الازهر)
ولم يمتثل بقول السَلَف “لا يفتي العالم وهو غضبان”.
لماذا لا نضع فى دار الافتاء جهازا لكشف الكذب يميز فيه القائمون على شئون الدار بين المسلم والمنافق، ويمنحون كلا منهما شهادة تحدد درجة إيمانه أو نفاقه؟
والعجب العجاب أن تنطلق هذه الحملة من التليفزيون الرسمي للدولة التي يفترض فيها الحيادية المطلقة. ثم تعاد إذاعة الحلقة مرة بعد مرة دون أن يتاح للطرف الاخر مجال للدفاع عن نفسه والكشف عن وجهة نظره. والاكثر عجباً أنه عندما يمارس الدعاية الانتخابية لصالح فريق يدعمه ويحكم بتكفير منافسه الذى لا يدعمه، فأنه ومساعده يحصلان نتيجة لذلك على مكافأة مادية من التليفزيون بإسم مكافئة إنتاج.
والعجيب، كذلك، أن يخرج بعد إعلان النتيجة خطباءُ الجمعة مجتمعين فى حملة منظمة شملت مختلف المساجد في ليبيا للهجوم على التيار الفائز واتهامه بالكفر وبالدعوة إلى أشياء شنيعة. واحتج المصلون على الخطيب في جامع مولاي محمد وتعرض للتهجم والاهانة، وقام بعض المصلين بإخراجه من باب خلفي خوفاً من إعتداء المصلين الثائرين عليه. ثم قال فى مداخلة تليفزيونية إن من حقه أن يعبر عن رأيه! “أليست هذه هي الديمقراطية”، كما سأل؟ إن المساجد لله، وليست لطائفة دون أخرى أو مذهب دون آخر، وخطبة الجمعة ليست مكانا لابداء الرأي.
وهيئة الافتاء هى لعامة المسلمين ما كان لها أن تنحاز لطرف دون طرف أخر، وتفتى بتكفير المنافس وكأنها تبيح دمه وتُصدِرُ التصريح لقتله. ولو حدث هذا فسيكون المفتي مسئولا بالتضامن مع القاتل. (وضع الشيخ هذا في حسابه من قبل، حينما وضع نصّاً فى قانون عمله يجعله غير مسئول عن الجرائم الجنائية التى تحدث بسبب فتواه.)
اللافت فى الامر أن هذه الحملة لم تنطلق بهذا الزخم إلا بعد إعلان النتائج. وكأن ضحاياهم كانوا مسلمين قَبَلها ثم صاروا فاسقين فاجرين بعدها. لذلك فإن الهدف منها ليس دينيا بالتأكيد ولكنه سياسي لنصرة الفريق الذى يعبث الشيخ فى صفّه.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه فى النفوس لعظمــا
ولكن أهانوه جـــهارا ولطــــخوا محياه بالاوحال حتىــــــى تجهما
(القاضي عبد الجبار الجرجاني)
ينبغي أن يدرك زعيم الخاسرين أن الشعوب أذكى كثيرا مما يتصور، وأن ذكاء الجماعة يفوق مجموع ذكاء أفرادها. كما أن لها أرشيف وذاكرة. وأنه لا يستطيع أن يخدع الناس مرتين.. خدعوهم فى المرة الأولى حين التفوا حول “سيف الاسلام” وحصلوا منه على الوعود والنقود وتخلوا عن المعارضة وساعدوا فى تفتيتها، وانضووا تحت لوائه (“طاعة ولي الأمر واجبة”!) يمهدون له مسرح الأحداث لانتقال سلمي أو دموي لسلطة الأب إلى الإبن، في سبيل وعود كاذبة وسراب يحسبه الظمئان ماءً حتى إذا ما جاءه لم يجده شيئا!
ينبغى عليهم أن يقرأو النتائج ليس باعتبارها نصراً لجبريل، بل باعتبارها رفضاً صارخاً لهم. وفي إنتخابات “حي الأندلس” بطرابلس، خلت القائمة من جبريل وجماعته، وبرغم ذلك لم يفُز التيار الاسلامي بل فاز التيار البديل لجبريل وهو حزب الوسط!
ّالسبب أن “المتأسلمين” قدّموا أنفسهم باعتبارهم “ثيوقراتيا” جديدة لديها “أجندتها” الخاصة ودستورها المُعَد ،مسبقاً وتريد أن تفرض عليهم رأيا واحدا وتخطّ لهم طريقا مرسوماُ محدد الملامح مسبقاُ. وحيث أن الرعية مسلمة فلا خيار أمامها إلا القبول بهم لأنهم الاكثر إسلاما والاقدر على فهم الدين وتطبيقه! وتناسوا أن الناس لم تثر على ظلم أربعة عقود لتقبل بظلم يلبس عباءة الدين ولا يعلم أحد إلى متى يدوم. أو أنها تريد أن تنتقل من دكتاتور إلى حكم “المرشد المؤمن المؤيد بنصر الله”! نقوم بالانتخاب مرة، ثم ننسى موضوع الصناديق إلى الابد!
عندما رفضتهم الجماهير، كانت ترفض العودة إلى الخلف، وكانت ترفض فيهم الخضوع للاملاءات القَطَرية، وترفض فيهم الدعوات “الاخوانية” الصادرة عن اليمين واليسار لاعلان “الخلافة السادسة” وتدشين دولة الاسلام بين دول الهلال المتوسطي الخصيب. ويرفض الليبيون أن يكونوا كمعلقة سكر تذوب فى كأس ماء كبير.
الجموع تطلب البساطة والصدق والوضوح. وهؤلاء اكتنفهم الغموض، والتفوا على إرادة الناخب، وحاولوا سرقة النتيجة بإخفاء هويتهم وبالتنكر لمبادئهم وبغموض كلماتهم وكثرة الاقنعة التى يرتدونها، إن أزحتَ قناعا فستجد خلفه أقنعة، حتى تصدمك الجمجمة يابسة خالية من الدم.
وإذا كانوا يلومون جبريل على نشر صوره فى كل مكان، فقد كان زعيم الخاسرين يطل بسحنته البهية عليك فى التليفزيون، ومرات حضوره فى المحطات المختلفة يفوق بكثير مرات حضور جبريل. وفى الشوارع، كانت صوره وصور زملائه “المتأسلمين” تملأ فراغات العين فى كل ركن وزاوية، وتخصَّصَ تليفزيون الدولة في الدعاية له ولجماعته وتكفير منافسيهم.
منذ بدء الثورة، حاول الإسلاميون باستماتة ملء الفراغ فى السلطة واستولوا على مفاصل الدولة بمساعدة المال والنفوذ القطري، وبالتوافق مع رئيس المجلس الانتقالي. وبدا للحظة ما أنهم هم حكام ليبيا الجدد، وكتبوا القانون الانتخابي بالكيفية التي تضمن لهم الإنتصار الكامل فى العرس القادم. ودفعهم غرورهم وسطوتهم الكاذبة إلى تناسي المَعني بالأمر وسيّد القرار الذي يُدعى “الناخب الليبي”!
وفى حين كان محمود جبريل يطوف بالمدن الليبية ويحاضر فيها ويجمع حوله الانصار ويعتمد على المنطق والحوار، كان حَمَلة اللواء يحاولون تعزيز سيطرتهم على مقاليد الدولة الليبية بتواجدهم في المناصب المهمة وترسيخ الوجود القطري المدعوم بالمال والسلاح. صنعوا القفص وحبسوا الطائر لكنهم نسوا الباب مفتوحا. فذهب سعيهم شتى.
الفارق أن ألناس أحبّت جبريل فصوتت، له وكرهت رموز الاسلاميين المنافقة والمخادعة فصوتت ضدهم أو صوتت للآخرين هربا منهم!
الليبيون لهم ثقافة مختلفة عن ثقافة المشرق العربي! لهم ثقافة البحر الابيض المتوسط، ثقافة الخبز والزيت! تعذّبوا كثيرا فيما مضى، وقضوا في السجن القذافي اثنين وأربعين عاما. من حقهم الآن أن يتطلعوا للحرية والسفر والتجارة، ومن حقهم أن يشعروا بالامل فى مستقبل زاهر لهم ولاولادهم.
ووفقا للعبة الديمقراطية، كان ينبغي على رئيس حزب “الإخوان المسلمين” (“العدالة والبناء”) أن يستقيل بسبب فشله وأن يترك مكانه لوجوه جديدة! فالذى خسر الانتخابات مرّة، لن يكسبها فى مرة ثانية. وكان يجب على قيادته أن تبحث في الاسباب الحقيقية للهزيمة والإخفاق في عرض برامجهم وإقناع الآخرين بها. لكنه لم يفعل، لانه يعتقد أن بقاءه فى سدة الرئاسة أهم من مستقبل الحزب وأهم من المبادئ التى يعتنقها وأهم من مستقبل أعضائه كذلك.
ووفقا للعبة السياسة فإن على قَطَر أن تبدل الخيول القديمة التى أنهكها التعب بخيول جديدة!
وأخراً وأخيراً، فقد دفع الشيخ بحرسه إلى التجمهر أمام قناة العاصمة وكرر ثلاثة منهم نفس الكلمة: الليبيون سُذَّج خدعهم جبريل! ووصف أحدهم الشيخ بما نصه (“إن الله نفع بالشيخ البلاد والعباد والدواب والارض والسماء”!)- منقول من بيان لانصاره قرأوه على قناة العاصمة. فهل يعتقد أنهم صادقون فيما وصفوه به؟ أنحن فى حضرة نبي جديد؟
كان لدي سؤال حائر كنت أطرحه على كثيرين: هل الليبيون شعب واحد، أم هم مجموعة قبائل تعيش فى الارض الليبية؟
وحملت الانتخابات ونتائجها الجواب السديد: نعم الليبيون شعب واحد متجانس فى أفكاره لم تشِب الانتخابات شبهةُ القبيلة أو التعصب!
نشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والحمد لله الذي أحقّ الحق وأزهق الباطل.
magedswehli@gmail.com
كاتب ليبي- طرابلس