الذي يحدث في مصر لا يحدث في أي دولة في العالم: كل يوم أخبار عن احتقانات، وتوترات، واحتكاكات بين بعض المسلمين وبعض الأقباط.
و تاريخ الفتنة الطائفية يعود إلي السبعينيات وتزامن مع تولي الأنبا شنودة البطريركية، وهو يتناول ثلاث قضايا رئيسية:
الأولي: انعدام الإيمان بحرية الاعتقاد.
الثانية: إثارة الحساسية الدينية.
الثالثة: جمود الإجراءات الإدارية فيما يمس هذه المشكلة.
أما القضية الأولي: قضية انعدام الإيمان بحرية الاعتقاد فقد أصبح للأسف الشديد أمراً طبيعياً و«متوطناً» لدي عامة المسيحيين والمسلمين، ويمكن أن يعود جزء منه إلى سياسة «قهر الحرية» المطبقة من سنة ١٩٥٢ حتى الآن. فقد انعدمت الحرية في المجال السياسي والاجتماعي، ومن باب أولي في المجال الديني. ومع أن الأديان في حقيقتها قيم كالخير، والحب، والمساواة.. إلخ، وأن أتباعها بالمليارات فلن تتأثر بانسحاب مئات أو آلاف، وإن كل ما نراه من مساجد شاهقة أو كنائس ممردة لا علاقة له بالدين، وكما قال شوقي:
كنيســة كالفــــدن الممتلـــــي ومسجد كالقصر من أصيد
والله عن هذا وذا في غني لو يعقل الإنسان أو يهتدي.
فهذا كله مجد للرجال و«فخر» للمؤسسة الدينية. ولو كان لدينا إيمان بالحرية كأصل تتفرع منه حريات الفكر والاعتقاد، لما كان هناك حساسية في تغيير بعض الناس لأديانهم، لأنهم لم يولدوا بها وإنما ورثوها فيما ورثوا، ولم يُسأل أحد ماذا يحب أن يكون دينه، فإذا تحول فكر واحد، فهذا أمر طبيعي جدا وهو حقه المقدس. وبالنسبة للإسلام فإن حرية الاعتقاد مطلقة وتعد أمراً شخصياً لا علاقة للنظام العام به ولا تعني إلا صاحبها «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف ٢٩)، «فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها» (يونس ١٠٨).
وليس في القرآن الذي تحدث عن الردة مراراً عقوبة دنيوية لها، وإنما وكلت إلي الله يوم القيامة، كما أن الرسول لم يستتبع الذين ارتدوا عن الإسلام في حياته بعقوبة. وما حكم به الفقهاء من حد للردة، وما تفننوا فيه عندما أبدعوا صيغة «من جحد معلوماً من الدين بالضرورة فهو مرتد»، كل هذا الكلام لا نأخذ به، ولا نرى مبرراً لا من النقل ولا من العقل للأخذ به، لأن النقل يلزمنا القرآن ويحرم علينا أن نتبع «ما وجدنا عليه آباءنا»، ولأن العقل يرفض بداهة أي قسر في مجال هو من صميم الضمير والإرادة، ومن ثم فلا داعي لكل هذه الثورة التي هي دليل الجهالة والتعصب الأعمى من الجانبين.
هناك قضية أخري مهمة هي ما نسميه الحساسية الدينية، وهي تنشأ عادة في الأقليات، ولكن الأقلية الذكية لا تسمح لهذه الحساسية بالتأثير عليها، وتمضي في المجالين المفتوحين: مجال العلم ومجال الاقتصاد، فيعطيانها مركزاً ونفوذاً وقوة تقضي علي الحساسية. وأنا أعتقد أن ظهور الحساسية في مصر إنما يعود إلي شخصية البابا شنودة الذي في أول مظهر للفتنة الطائفية «الزاوية الحمراء» أرسل فرقة من الكهنة وأمرها أن تجهر بدعواتها وتقيم صلاتها حتى لو تطلب الأمر أن «تستشهد» وتفادت السلطات الأمنية ذلك، ومنذ هذه اللحظة وهو ينظر إلي الإسلام كما لو كان عدواً للمسيحية أو بالأخف منافساً للمسيحية، ولم يقدم «ابتسامة واحدة ولا ريق حلو» أو مجاملة.
بل أظهر دائماً طبيعة شكسة عند معالجة أي قضية للشريعة أو غيرها وقد كان آخرها أنه أعلن أنه لا يؤمن بعذاب القبر. وأنا أيضاً لا أؤمن بعذاب القبر، ولكنني لو كنت محله لرفضت الحديث البتة عن ذلك، حرصاً علي مشاعر من يؤمنون به من المسلمين، ونسي أن الإسلام هو الذي أنقذ الأقباط من اضطهاد البيزنطيين، وأن عمرو بن العاص هو الذي استقدم البابا بنيامين الهارب وسلمه سلطاته، فعادت الكنيسة القبطية بفضل «الفتح الإسلامي» الذي يعتبره بعض الأقباط غزواً عسكرياً لمصر، واغتصابا لها من المسيحية.
خالف البطريرك شنودة كل تقاليد آباء الكنيسة السابقين الذين كانوا علي جانب عظيم من الكياسة والذكاء والذين لم يثيروا أي حساسية، وحتى عندما كان يحيق بهم ظلم كانوا يتحملونه حتى يزول، كما أنهم كانوا أمناء علي المسيحية التي توجب علي الأقباط أن يكونوا مواطنين مخلصين لبلدهم ما دامت لا تحاول تغيير ديانتهم أو المساس بها. وقد كانت تلك هي وصاية السيد المسيح والقديسين بطرس وبولس، وهو ما أظهره الأب «متى المسكين»، أما البابا شنودة فقد اعتقد أنه حامي المسيحية من عدوان المسلمين فسمم آبار المحبة والعلاقات الطيبة، وسمح بتجاوزات، بل قام هو نفسه ببعض هذه التجاوزات التي أوجبت أن يبعده الرئيس السادات كالمؤتمر الذي انعقد تحت إشرافه سنة ١٩٧٧، وأعاد إلي الأذهان ذكري مؤتمر سنة ١٩١١ الذي كان وراءه الإنجليز.
وكانت الثمرة أن وجدت حساسية تفرض ازدواجية مثل «عنصري الأمة» و«الشيخ والقسيس» و«الجامع والكنيسة»، والإصرار علي أن يحضر قس عندما يوجد شيخ. وعندما ذكر السادات اسمه بالكامل «محمد» أنور السادات، رأي بعض الأقباط في ذلك نكسة، ولما قال «أنا حاكم مسلم لبلد مسلم» اعتبروها ردة، وكل إشارة إلي الإسلام تثير حساسية لدي الأقباط ويطالبون بالمثل حتى أن يدخل الأقباط الأزهر، وهل يدخل المسلمون كليات اللاهوت؟
واختفي عهد الأدب الرفيع والفكر السليم واللغة العاطفية التي كان يتحدث بها عن الإسلام مكرم عبيد، وسلامة موسي، ومريت غالي، وقليني، وموسي صبري.. إلي آخر من أشرت إليهم في كتابي «إخواني الأقباط».
أخيراً هناك الموقف المزري للبيروقراطية المصرية، فهل السماح بإقامة كنيسة في قرية أمر يتطلب عبقرية أو جسارة؟ ولماذا لا يكون في حكم المقرر أنه إذا وجد مائة قبطي مثلا في مكان واحد، فيجب علي السلطات أن تقيم لهم كنيسة لأن هذا يدخل في باب «البر» الذي أمرنا الإسلام أن يكون روح العلاقة بين المسلمين والأديان الأخرى. بل أعتقد أن علي المسلمين أنفسهم أن يقوموا بذلك وفاء بحق الجوار والزمالة والمواطنة. وهل يتصور أن يقبل الزوج المسلم أن تكون في بيته زوجة مسيحية، ولا يقبل المواطن المسلم أن يكون بجانب المسجد كنيسة؟
وهناك «مأزق» بيروقراطي ظهر عندما ينطلق العشرات، أو لعلهم المئات من الذين أسلموا لمأرب، ولما حققوا هذه المآرب أرادوا أن يعودوا إلي المسيحية، وهي قضية معقدة والفقه الإسلامي التقليدي يعتبرهم مرتدين، ومع أنني ـ كما ذكرت من قليل ـ لا أعتد بهذا الفقه، فهذا لا يمنع أنه الفقه المقرر الملزم للجهة الإدارية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري فإن هؤلاء السادة قد قيدوا في البطاقات العائلية بناء علي طلبهم كمسلمين، والآن يريدون العودة إلي المسيحية. وتردد الجهات الإدارية في هذه القضية الجدلية أمر مفهوم، وفي رأيي أن الحل الممكن هو إجابتهم إلي طلبهم علي أن يشار إلي تغيير الدين، مع الإبقاء علي الإشارة أنه مسلم و«يكتب أنه أصبح مسيحياً بناء علي إرادته»، وهكذا نجمع ما بين الإبقاء علي الحقيقة والاستجابة لمطلبهم ولحقوق الإنسان، وقد يكون في هذا رادع جزئي لمن يلجأ إلي التلاعب بالأديان دون البحث عن الحقيقة في أعماقه، لأننا لا نشق عن القلوب.
والقضية شائكة ومعقدة، لأنها تقوم علي خطأ مبدئي، ومن الصعب علي جهة إدارية أن تصوب الأخطاء، ولم يعد أمامها خيار إلا الأخذ بما اقترحت، لأنه يحقق حرية الفكر والاعتقاد، وفي الوقت نفسه، لا يمحى تصرفاً سابقاً قاموا به بمحض إرادتهم وأثبتوه في البطاقات.
وإذا كان للأقباط من حق فهو المطالبة بتمثيلهم في مجلس الشعب، ولكن المشكلة أنهم متفرقون علي مختلف الدوائر، ولا يمثلون في كل دائرة إلا أقلية وجعل المناخ الذي أوجده البابا شنودة الأكثرية لا تنتخب إلا من يمثلها، فدفع المرشحون الأقباط ثمن سياسة الأب شنودة، ولهذا يجب البحث عن وسيلة دستورية لتمكين الأقباط من التمثيل في المجلس، وقد طالبت في كتابي «إخواني الأقباط» أن يتم هذا بثلاثين نائباً فصاعدا.
ختام الكلام:
بعدما أصدرت كتابي «إخواني الأقباط» بروح «العشم» والوحدة الإيمانية، جاءني خطاب من قارئ قبطي جاء فيه: أولاً: نحن لسنا إخوانك، نحن مسيحيون مخلصون بدم المسيح، وثانياً «بزيادة أولاً».
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة