أنْ تخرجَ من ذاتِكَ على ذاتك، وأنْ تدخلَ في ذاتكَ عبرَ ذاتك، وأنْ ترى ذاتكَ من خارج ذاتك، وأنْ تُبصِرَ ذاتكَ من داخِلك. كُلُّ ذلكَ، لا يعني إلاّ حضوركَ في جوهر ذاتك..
وحضوركَ في جوهر ذاتك، يعني أنّكَ تتفرّدُ في أصل اختيارك، وتتكاملُ في عمق وعيك، وتزهو في رحابةِ حرّيتك، وتُبدعُ في ابتكار أفكارك، وتتخلّقُ متجدّداً في بناء تجربتك..
ذاتكَ لن تكونَ ذاتك، إلاّ حين تكونَ في رفقتِها، ناقداً، ومفكّراً، وحاضراً، وشاخصاً، ومتبصّراً، وكافراً حتّى. تتمرّدُ عليك حين تسقطُ في يقين اليقين. تأخذكَ إلى حيث الشّكِ، سؤالاً وتفكيراً وتجربةً في انشغالات التجديد والتطوّر. تكونُ معك وضدّك، تخرجُ عليك، وتعود إليك. تضعكَ في رحابةِ البحث، لِتواصلَ سِفر الضّوء والاشتعال. تبعثكَ خلقاً جديداً في مخاض المعاني. تنتشلكَ من بلادة الأفكار الجاهزة، وتقودكَ إلى حيث الابتكار، أساس التفرّد والإبداع..
ماذا يعني، ألاّ تكون ذاتكَ هي ذاتك؟ هل يعني ذلكَ ألاّ تجد ذاتكَ في صناعة السؤال؟ وهل اقتراف السؤال وصناعته واجتراحه، جوهر الذات الفاعِلة والخالقة والمتفكّرة والناقدة. وماذا يعني السؤال في منطق الذات المدرِكة. هل السؤال طريق المعرفة، أم أنّه بداية الفهم؟
ففي وعي الذات المفكّرة، يبقى السؤال، هاجِسها الدائم، وطريقها الخلاّق، ومتعتها المعرفيّة، ونقطة الفهم. ومن شأن السؤال، أنْ يبعثَ في الذات رغبتها الأكيدة في قراءة الأمور بعمقٍ ووعي. هذه الذات لا تجترحُ السؤالَ، إلاّ لأنّ السؤال في انشغالاتها المعرفية، مرتكز الفهم، ومبعث التفكير، وطريق الاثارة، ومعراج التأمل، ومنبت الإنارة، وجمال الخَلق..
الذاتُ المسكونة بتجلّيات تجربتها الخاصّة، تتجلّى خَلقاً ومعنىً في الحياةِ التي أوْجدتها داخل أعماقها. بمعنى، أنّها تصنعُ من تجربتها واهتماماتها النقديّة، ومن تفرّدها وانشغالاتها الفكريّة، حياةً، وتجِدُ في هذه الحياة، حياةً ثريّة، ولا حياةَ خارج حياتها. إنّها تحيا جديداً وتوثّباً وإبداعاً وتفلسفاً، في حياةٍ خلقتها، زاهرةً بالألوان والأفكار والتجارب والمعاني، وأودعتْ فيها رصيداً مُلهماً من فكر التحوّلات والتبدّلات والتغيّرات والتجاوزات والتخلّقات المعرفيّة..
هذه الذات، في حال الهزيمة تتجاوز انكساراتها، وتذهبُ بعيداً، وتصنعُ من الهزيمة فكرةً أو طريقاً أو ارتكازاً أو معنىً جديداً، أو تقبّلاً جميلاً، تُرمّم به حضورها الأنيق في تجربةِ التقلّبات والتعثّرات. إنّها تعرفُ جيّداً، أنّ الهزيمة في معركة التجديد والبناء والحرّية والسؤال، في حدّ ذاتها، هيَ فكرةٌ خلاّقة، باعثة على السؤال مجدّداً، وخالِقة للفهم والاستفهام، وفاضِحة للفراغات والاعتلالات والتراجعات والتلكّؤات، وناطِقة بالاستفسارات والإجابات والشّكوك..
ما أجملَ الذات في مخاض التفكير، تستنطقُ به جمال النقد، وطرائق الفِهم، وتتحسّسُ من خلاله منابت السؤال. إنّها الذات المفكّرة، لا تستطيع إلاّ أن تكون حاضرةً في معنىً يتخلّقُ حقيقةً، في معنىً يمنحَ النقد رصانة الخَلق، وخلاصة التجربة، وتجاوز الوهم، وثراء الفِكر. إنّه ذلك التوافق الجماليّ، ما بين الذات المتعافِية من ثمالة اليقين، والذات المسكونة بِهاجس النقد في انشغالات التفكير. هذا التوافق، يذهبُ بالذات إلى مدارج البحث عن الحقيقة، في كونها مبعث الفهم ونقطة التحوّل وأساس الطريق. فهم حقيقة الأشياء، بعيداً عن مسبّقاتها اليقينية، وفروضاتها السائدة، وتمظهراتها التقليديّة، ومعانيها المخاتلة. هيَ الذات الشاخصة في تجلّيات النقد التفكيريّة، وهوَ النقد المُفعم بِوعي السؤال، وموهبة الشّك، وصرامة البحث، في استنطاقات الذات الناقِدة..
هذه الذات، تُبدِعُ في خلق الإبداع، فالإبداع في منظومتها الفكريّة، حياةٌ زاخرةٌ بالحياة. هيَ تعرِفُ أنّ الإبداع، لا يعني سوى أنّه يمنحها حياةً، تنسابُ بالحياةِ الواثبة والناطقة والمُلهمة. إنّها تعيشُ الحياةَ إبداعاً، وتعيش الإبداع حياةً. لا تغادرها هذه الحياة، مسكونة في أعماقها، ولصيقةٌ بجوانبها، تتجدّد بمزيدٍ من الحياة، وتتعالقُ معها بذلك الشغف المترع بنشوة التفاصيل والدهشات والإثارة والقداسة والحبّ، مهما تعرّضتْ للعثرات أو الهزّات أو الصدمات..
إنّها تصنعُ سعادتها الداخليّة ، وتعشقها، وترعاها، وتتألق معها، وتجِد أنّ السعادة الحقيقيّة، تعني أنْ تسلكَ طريقها نحو ما تريد وما ترغب. وفي ما تريدُ وما ترغب، يكمن هدف السعادة. يكمنُ ذلكَ الانسجام والتناغم الحميميّ الخلاّق، مع أروع لحظاتها وانشغالاتها، في سعيها الحثيث إلى تحقيق رغباتها. أنّها تتوفّرُ دائماً بالرغبة، ولذلك هيَ وافرة السعادة. وأجمل الرغبات لديها، تلكَ التي تأخذها شغوفةً إلى رغبةٍ أخرى، أكثر تحقيقاً للسعادة، وأكثر انسجاماً وتوافقاً باهراً مع لحظاتها البارقة.
وهيَ الذات التي تتخلّقُ ألقاً في فلسفة القدرة، تلكَ القدرة الصانعة لمناخها الذهنيّ المتوقّد، المفعم في الوقتِ ذاته بصفاء المعرفة الوضّاءة . القدرة التي من خلالها تستطيعُ أنْ تستطيع، فالإنسان يستطيع، متى ما امتلكَ القدرةَ، وليس متى ما كانَ مُحتاجاً. الاحتياج لا يجعلها مُستطيعة، بل القدرة، تجعلها تتفرّدُ في أنْ تكونَ مُستطيعة. والقدرة في فلسفتها، تعني أولاً امتلاك قرارها واختيارها وحرّيتها، وتعني امتلاك تفكيرها وانشغالاتها التفكيرية والنقديّة. القدرة هنا مستوىً وافرٌ من التراكمات المعرفية الخلاّقة، إنّها قدرتها على امتلاك أدوات التّخطّي، ومهارة التجاوز، وفلسفة الخَلق. إنّها تستطيع أنْ تصنعَ تفرّدها وألقها وانسيابيّتها وتميّزاتها، لأنها تملكُ قدرة الاستمتاع برشاقة التجاوز، تجاوز مغاليق الافهامات الهادمة، وانسدادات الإحباط، وشرور الأفكار الاستلابية الخانقة. وتستطيع، لأنّها مسكونة بقدرة المعرفة، الخالِقة للحرّية والإرادة والفهم المستنير..
الذات الخلاّقة، تُساوي ولاداتها الحرّة في مخاضات العقل والتفكير والنقد . إنّها تُساوي ذلكَ المقدار الطليق من الحرّية في أعماقها وفي تساؤلاتها وفي تفاعلات تجربتها الخاصّة مع الأفكار والحياة والواقع. فالذات لا تستطيع أنْ تتخلّق حرّة في مساحات السؤال والنقد والتفكير، فضلاً عن ذلك لا تملكُ أن تخلقَ هذه المساحات الرحبة أصلاً، وهيَ ترسفُ في أغلال اليقين والخوف وترسّبات الأفكار الجامدة والمتخشّبة، وفي الموانع الذهنيّة والشعوريّة والثقافيّة، الخانقة للتحرّر والتجاوز والتّخطّي والمجازفة. ولذلك فالذات المتراجعة والخائفة والجامدة والمتقوقعة والمنكفأة، تُساوي ما تؤمن به من يقين الجمود والتراجع والتخلّف والخوف والانكماش، بينما الذات الخلاّقة، تُساوي ولاداتها الحرّة دائماً، تُساوي مقدار ما تملكُ من فِكر التغيير والتجديد والتخلّق والتوثّب والتيقّظ والإدراك والتجريب..
ويحدثُ كثيراً، أنْ تكونَ هذه الذات الخلاّقة، سعيدة، وفي منتهى السعادة، كلّما وجدتْ إنّها تولَدُ حرّةً في كلّ تخلّقٍ جديد، وتولدُ جديداً في كلّ حرّيةٍ أرحب. وتكون سعيدةً، وهي تحيا حرّةً، في كلّ تخلّقاتها الناقدة والمفكّرة والمتسائلة. إنّها قادرةٌ على أنْ تمنح نفسها هذا الشعور من السعادة، لأنّها طليقةٌ ورحبةٌ، ومتخفّفة دائماً من اكراهات الأسبقيّات اليقينيّة والاطلاقيّة، المُتخَمة بالانسدادات الثقافيّة، والتحيّزات الهويّاتيّة الخانِقة الهادمة، وفي الوقت ذاته تملكُ قدرة الاستحضار الباهر. استحضار تراكمات الذاكرة الإنسانيّة المعرفيّة في الحرّية والخَلق والإبداع والجمال..
هذه الذات تملكُ مهارة التّخطّي الخلاّق، وفنون التجاوز الحرّ، حينما تكون عالقةً وسط الخراب. خراب الواقع البائس، وخراب الأفكار الهادمة، وخراب الأذهان المتصلّبة، وخراب المفاهيم البليدة السائدة، وخراب التحيّزات الخانقة. لأنّها مسكونة بِجلال الحرّية، ولا شيء يجعلها متفرّدة في حياة التخلّق والانطلاق والإبداع، وفي تلك الرحابة من الأفكار والأنساق الفسيحة الوضّاءة، سوى الحرّية المتوفّرة في أعماقها. وعلى الرغم من كلّ تلك الخرائب المحيطة بها، إلاّ إنّ الحرّية في منظومتها الثقافيّة، تبقى هيَ رصيدها الوافر والوفير. فالحرّية توجِدها دائماً في أعماقها، وترعاها بمزيدٍ من وعي الحرّية، وتحافظُ عليها من الاستلاب أو التآكل أو الضعف أو الاهتزاز أو التصدّع..
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي