تطول ليالي الأرق، بين الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، ليس لدواع أمنية أو مخاطر إسرائيلية، رغم مثولها الدائم، بل لأن قلقاً كبيراً أصاب آلاف العائلات، ضحايا “الآدمي” و”رجل البر والتقوى” “الحاج صلاح”.
وتكبر التساؤلات المتعجبة وغير المصدقة: هل يمكن لمن كانت السبحة لا تفارق أصابعه والبسملة والحمدلة ترطب دائماً شفاه فمه، أن يحتال!؟
وهل يمكن لمن كان الوفاء والإيفاء سمة سلوكه اليومي، أن لا يستجيب لمواقيت الدفع والاستحقاق!؟
وهل يمكن أن يضيع جنى العمر بين ليلة وضحاها، وتذهب أموال التعويضات والمساعدات هباءً، بعد أن دفعنا الكثير مقابلها دماً ودماراًُ، بفعل آلة الغزو الإسرائيلي التي اعتدت على لبنان في تموز/يوليو 2006!؟
لقد جمعنا المال من بعضنا البعض، فاستدعينا الأخوة والأقارب من المهاجر، وأثرنا في نفوس الأصدقاء “روح المغامرة”، لننال بركة المساهمة في مشاريع الحاج “واستثماراته” ألأكيدة، فماذا حصل!؟
سخياً كان (بين 30 و40%)، فهو مستثمر بارع، ومحفظته مأمونة العواقب، وسبحان الله، يمسك التراب فيتحول ذهباً، كيف لا؟ وهو يدعوك لمشاركة أو لمرابحة، ويبعدك عن “الربا” و”الفوائد” المحرمة ديناً وأخلاقاً، فمعه، بدون أدنى شك تكسب، الدنيا والآخرة.
حجم الاستغراب هذا، كبير في تساؤلاته، رغم أن الذي حدث، ليس حالة معزولة وغير مسبوقة، فقد سبقه إلى هذا أسماء ومؤسسات عديدة (جواد، حسون، تعاونيات لبنان). وما دام سائداً هذا النوع “الغنائمي) و”الريع التوزيعي” في العلاقات المالية والاقتصادية، فإن القادم أو المحتمل، سينبأ بأسماء وحالات جديدة.
الاقتصاد الموازي، ظاهرة في لبنان رافقت الحرب اللبنانية الداخلية المتواصلة وإن بأشكال مختلفة، وتلفعت بالأزمات المتناسلة وإن من مصادر متباينة، ونمت مع سيولات مالية مخيفة من الخارج وإن لأهداف غير موحدة.
فقد تعمم هذا النوع من الاقتصاد، حتى أُفقد العمل قيمته الاجتماعية، واحتل “التشاطر” و”التذاكي” و”الاستفادة و”الفرصة” و”إذا لم تكن لك فلغيرك” و”اضرب وامشي” مكان “الجهد” و”التعب” و”الدراسة” و”الجدوى” و”الاستثمار المبرر”… حتى بات من يقوم بالنشاط الاقتصادي السليم، ويستيقظ صباحاً للعمل، هو شخص “لا حول له ولا قوة” لا “سند ولا داعم”، “قليل الدراية” لا “يعرف من أين تؤكل الكتف” و”يعادي مصلحته، أنه لا يقترب من مصدر “الرزق” و”التوزيع”، ولا يسلم قيادة إلى أولياء النعمة، زعماء طائفته، القادرون على تأمين “حصته”.
أواخر آب 2009، وعلى بعد أكثر من سنتين بقليل من تاريخ العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006، انفجرت فضيحة “عز الدين”، ولم ندرِ حتى الآن، كيف؟ ولماذا؟ هل أفلس؟ (رغم إصراره على عدم إعلان إفلاسه)، أم أن هناك من قرر إفلاسه؟ وهل أن استثماراته المتنوعة (ألماس، حديد، نفط، طباعة، حملات حاج) أصيبت في كل مساراتها دفعة واحدة، أم أن في الأمر، عدواناً إسرائيلياً أمنياً (كما صرحت بذلك الإذاعة الإسرائيلية)؟
بالمقابل، وقبل سنة إلا أشهر قليلة، وإثر انفجار الأزمة المالية العالمية، التي كانت الفقاعة العقارية الأميركية صاعقها، والمضاربة حشوتها القاتلة، وفلتان الأسواق المالية إطارها، وتغييب الأنظمة والمراقبة والتشريعات السياسية الطريق التي أفضت إليها؛ فاحت روائح فضيحة “بيرنارد مادوف” الأميركي – اليهودي، والتي تبدَّد بنتيجتها 65 مليار دولار أميركي…
ولأن الشيء بشبيهه يذكر، سنحاول المقارنة والاستنتاج.
بين المادوفين
إن الأرباح السهلة تقطع الطريق على الأسئلة المشروعة، هذا ما حدث أيضاً مع بيرنارد مادوف الذي قطن في حي مانهاتن في نيويورك.
ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين كان روتينه الصباحي يشمل الرحلة القصيرة من “لونج أيلاند” إلى “أيست ريفير” عبر طائرته المائية، والمسافة بينهما على مرمى حجر، حينها كان مادوف”هم” مجرد مشغل ناجح في “وول ستريت”.
ومع تحوله إلى عضو بارز في صناعة السندات المالية، تجمعت لديه روابط عديدة وعلاقات وطيدة مع المستثمرين الماليين. ويعيش نمط حياة اعتيادي، غفر له عند الكثيرين لمسته المسرفة بالتنقل الجوي في طائرته المائية.
طبعاً لم يعد الآن هناك المزيد من الطائرات المائية، فقد طلبت المحكمة إخضاعه للمراقبة الإلكترونية، وبعد الحكم عليه بالسجن 150 سنة، وبدأت التفاصيل بالظهور على السطح فيما يتعلق بنمطه البونزي في الاحتيال (ترتيب هرمي، سمي على اسم المهاجر الإيطالي إلى الولايات المتحدة الأميركية، الذي كان أول من حاول القيام بعملية احتيالية في فترة العشرينيات من القرن الماضي، وهذا الترتيب لا يعتبر عملية معقدة، حيث لا يتم التسديد للمستثمرين القدامى بأرباح أصلية، ولكن بأموال من المستثمرين الجدد، أوليس هذا ما كان يفعله الحاج عز الدين؟).
بواسطة هذا النمط الاحتيالي، توصل مادوف إلى جذب عشرات المليارات من الدولارات، من مستثمرين تراوحوا من بنك “H.S.B.C” البنك البريطاني العملاق، إلى “المحسن” ستيفين شيليبرغ مخرج الأفلام. وبقي السؤال الجوهري واحد لا يجد الإجابة: كيف تمكن ذلك “المتواضع” من استغفال هذا العدد الكبير من المستثمرين طوال تلك الفترة؟ واسترسالاً، عندنا كيف استطاع “الحاج” استغفال أساطين المال والسياسة والفقه والحذر في لبنان؟
إن أولئك الذين التقوا بمادوف خلال فترة حياته المهنية التي بدأت في عام 1960 حيث أسس شركة السندات المالية برأسمال بلغ 5000 دولار أميركي، (يقال إنه كسبهم من عمله في مجال تركيب رشاشات الحدائق). يقولون عنه: “إنه متواضع، وآخر شيء كان يريده الشهرة، أنيس ومهذب، ولكنه ليس ثرثاراً بصورة مبالغ بها، ناشطاً على الصعيد الاجتماعي والخير في مانهاتن… أليست هذه من صفات مادوف”نا” الحالي.
ويقال أيضاً: إن خلف تلك الشخصية العادية، كان مادوف الأميركي – اليهودي يحيك شبكة معقدة من العلاقات التي جذبت المزيد والمزيد من المستثمرين إلى جحره. وسؤالنا: نحن من كان يجذب البسطاء عندنا إلى “جحر عز الدين”؟ وما هي مصادر الثقة به، رغم التجارب المريرة مع أمثاله، وفي الوسط الاجتماعي نفسه؟
تقول وكيلة للعقارات في بالم بيتش: إن موقف مادوف جعل الناس يشعرون، بأنهم محظوظون إذا تسنى لأحدهم التحدث إليه، وتزاحم العديد للانتساب إلى النادي الذي كان ينتسب إليه، كي يلتقوا به ويحوزوا على “خدماته الجليلة”، والبعض وصل إليه عبر أصدقاء – لاحظوا “أصدقاء” – والذين كان يوافق على ضمهم إلى لعبته عقدوا الآمال على صفقة مميزة ومريحة، وكانوا قليلي الرغبة في طرح الأسئلة.
هذه بعض السيرة التي اجمعت عليها كتابات متعددة عن تفليسة عصر الأزمة المالية العالمية الراهنة. ومن الملاحظ أن عناصر التشابه الشخصي والسلوكي وعدَّة الجذب مع أمثاله المحليين عندنا واضحة وبيّنة، أما الاختلاف والتباين فهو في: الظروف، والمتابعة، والتدابير، والآثار، والبيئة، والأيديولوجيا، والأخلاق… فبعض هذه الاختلافات لنا، والآخر علينا. وفي محاولة للإنصاف والعلمية سنناقش التي “علينا” أولاً، وبالتالي التي “لنا”، وكيف تتحول “علينا”.
الاختلافات التي علينا!
قامت الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بمجموعة من التدابير النقدية والمالية، أدت إلى إعداد لوائح جديدة تضاعف من عمليات التفتيش ,إغلاق الثغرات التي استغلها مادوف، وأجرت تغييرات هيكلية على أسلوبها في متابعة التحقيقات، لذلك قامت بإجراء مسح للشركات الداخلية والعابرة للقارات، أملاً في ضبط محتالين آخرين يعملون على طريقة مادوف بالدفع للمستثمرين الأوائل من أموال المستثمرين الجدد.
فأين نحن من إمكانية القيام بمثل هذه التدابير في الظروف السياسية القائمة في لبنان؟ وأين هي فرص تطبيق الآليات المصرفية اللازمة، ما دام جزء أساسي من حركة الاقتصاد وتجارة ألأموال لدينا، تتم خارج المصارف، وخارج آليات الرقابة؟ وكيف يمكن لآليات الرقابة أن تتدخل في ظل التداول النقدي Cash في مثل هذه العمليات؟ وهل يكفي في هذا الأمر المطالبات “الفارغة” لمصرف لبنان والرقابة المصرفية، وهما في حالٍ لا حول له ولا قوة في ذلك.
توسعت التدابير المتخذة بعد الأزمة المالية، لتطال الشركات المشابهة لشركات مادوف كالمستشارين الاستثماريين الذين يستخدمون شركة حليفة للاحتفاظ بموجودات العملاء، وكذلك كان أمر صناديق التحوط التي تعلن عن عوائد سلسة بصورة غير عادية، أو عن عوائد مربحة بشكل استثنائي، وعلى الشركات التي تستخدم جهة غير معروفة لتدقيق حساباتها أو لا تستخدم بتاتاً.
كما أفضت اللوائح التنظيمية إلى أنه من الواجب على المستشارين الاستثماريين تعيين محاسب عام مستقل، لإجراء فحص سنوي مفاجئ للتحقق من صحة موجودات العملاء.
والفضيحة أدت إلى إعادة النظر في القوانين المنفصلة التي تحكم أنشطة الوسطاء بين المتداولين والمستشارين الاستثماريين رغم التشابه المتزايد في الخدمات التي يقدمونها للمستثمرين.
وحتى لا نرهق القارئ بتعداد الإجراءات والتدابير وتفصيلها، والتي تعني أهل الاختصاص، علماً أن المشرفين على السياسة النقدية والمصرفية في لبنان، أثبتوا قدرات فائقة في هذا المجال، حازت على الاحترام والتنويه الدوليين (لكن العين بصيرة واليد قصيرة)، فإننا سنحصر دروس فضيحة مادوف العالمية بالآتي:
1.حدوث تغيير أساسي في الطريقة التي يتعامل بها مديرو الاستثمارات البديلة مع العملاء وبنوكهم، فالمستثمرون الذين اطمأنوا زمناً لدعم المرشدين الماليين الذين يعملون باستراتيجيات غامضة، بدأوا يتجهون إلى خيارات إدارة الأموال بطريقة أقرب إلى الواقع وأكثر شفافية.
لكن بالمقابل، هل تسمح آليات إنتاج الأزمات في لبنان عبر “ملوك الطوائف” من استعادة الوطن وبناء دولة القانون والحؤول دون تسيير أنماط الزبائنية المفرطة، والتي تهدد أي أمل بتعافي الاقتصاد الوطني؟
2.لعل أهم إرث خلفته فضيحة مادوف هو الشك والريبة اللازمتين في العلاقات المالية، فالذي كان يُعرف بأن الاستثمار معه سهل ومضمون، وعلى درجة من الثقة دفعت بعملائه أن يضغطوا عليه لقبول الأموال من أصدقائهم وعائلاتهم، بعد الذي حصل، خرجت الثقة عندهم من النافذة، فكيف يمكن في لبنان أن نقول: إن الثقة المبنية على “أنه” من “جماعتنا”، يجب أن تخرج من الباب العريض، لتحل محلها المعاملات والوثائق والتدابير والدراسات اللازمة للاستثمار، هذا بعد الارتكاز إلى الوضوح والشفافية في مناحي وأوجه الاستثمار من ضمن آليات الاقتصاد الوطني وحركته؟
ما الذي “لنا” وتحول “علينا”
عرفت وسائل الإعلام، خاصة المقروءة منها، تركيزاً مكثفاً على علاقة حزب الله بالحاج صلاح، وذهب البعض إلى عناوين تؤكد أن عز الدين هو “وزير مالية” حزب الله، مروراً بالإشارة إلى أن الاستفادة من أجواء الحزب كانت البيئة الضرورية لنشاطه وعمله، وانتهاءً بنفي حزب الله أية علاقة مباشرة معه، وإن كان لم ينكر أن معظم “المستثمرين” لديه من الحزب أو مريديه، وعلى هذا الصعيد استوقف الجميع قرار الحزب العمل على إصدار بيان تفصيلي حول هذا الأمر، وللأهمية القصوى في توضيح هذا الأمور مجتمعة، أفرد السيد حسن نصر الله إحدى خطاباته العلنية لتناول هذه “المصيبة” وآثارها “المحزنة”!
وحتى لا ندخل في “مجاهل” تحديد مثل هذه العلاقة (نفياً أم تأكيداً)، فإننا نختصر قائلين: إن الحيرة والتردد وعدم الوضوح سمة تعامل الحزب مع هذه الفضيحة، بينما الرأي العام متأكد من تلك العلاقة ولهذا اليقين نحيل القرّاء إلى نصٍّ مداخلة واضحة وضوح البساطة وصادقة صدق الشعور الذي لا لبس فيه، وشفافة شفافية الواقع وحركة الناس معه، هذه المداخلة ردّت على أقوال السيد حسن نصر الله ونقلتها جريدة “الوقت” البحرينية في عددها الصادر في 23/9/2009، وعلى موقعها الإلكتروني www.alwaqt.com.
نصُّ المداخلة
“سماحة السيد السلام عليكم
رح أكتب بالعامية لأنو هيك أهون، يعني يا سيد ما في دخان من غير نار، هلق منفهم أنو ما بدك تحاسب كوادر الحزب بالإعلام بس ما تقول ما معهم شي، لأنو الشمس طالعة والناس قاشعة. إذا يا شيد منشان ظروفك الأمنية ما فيك تشوف شو عم بيصير عالأرض عن جد، غيرك بيشوف وبيعرف. صحيح الحزب ما ضرب الناس على أيديهم وجبرهم يحطوا أموال مع عز الدين بس في ناس من الحزب عملوا مظلة لألو وفتوى شرعية كمان. صحيح الحزب ما دخلو بالناس اللي طمعت وحطت كل شي مع الرجل، هيدا الرجل اللي كان يستغل علاقته بالسيد والحزب ويستخدم اسم السيد متل دعاية ببلاش، كمان الحزب مش مسؤول عن هالمسألة؟ شو كمان الحزب مش مسؤول عن الرعاية الإعلامية الحزبية اللي كانت ترافق عز الدين؟ هلق بطل إلكو علاقة بالرجل؟ يعني شي ومنو، ويشهد الله الواحد بيكتب من قهره وزعله وغيرته عالحزب ومسيرته، ما حدا يرد ويوصفنا إنو نحنا من الخصوم أو الشمتانين، معاذ الله، الواحد بيحكي من حرقة قلبو على الناس اللي فلست واللي بدها أكثر من التأثر والحزن يا سيد، يا سيد اللي أنت أكتر شخص بحبو بالدنيا، الله وحده بيعلم. يا سيد صحح الخطأ، كون متل أجدادك، متل الرسول (ص)، متل أمير المؤمنين (ع)، اللي كان يعزل واليه لأنو لبى دعوة ناس تجار بالبصرة. أتمنى لصوتي أن يصل، وأدعو الله عز وجل أنه مهما يحصل من أخطاء أرجو أن تحفظوا خط المقاومة وتحموه من الأخطاء والعثرات”.
ولقطع الشك في اليقين في هذه “التهمة” وغيرها من أشكال الحمايات، لا يكفِ نفض الأيدي، فبعد استفحال الانقسام المذهبي والطائفي، وشبه “الصفاء” المناطقي، من الطبيعي أن يلصق أي سلوك بالقوى المهيمنة أو المسيطرة في هذه المنطقة أم تلك، وللخروج من هذا المأزق يجب العودة إلى تكريس دور الدولة بأجهزتها كافة وليس الأمنية فقط على الرغم من أهمية ذلك، والإقلاع عن الانتقاص من دورها عبر “رعاية تحركها، وإصدار تصاريح دخول إلى هذه المنطقة أو تلك، أو حتى مجرد القول “بأننا نسمح بهذا ونعترض على ذاك من التدخلات الأمنية” فإضافة إلى ذلك، تكون العودة إلى الآليات الاقتصادية الطبيعية وتحكيم القضاء فعالاً وليس قولاً كل هذا درءاً لقميص قذر لا يمكن لمقاومة من لباسه.
قد يجيبني سريعاً أحدهم، ومن يعترض أو يعيق إمكانية قيام الدولة بواجباتها، فأجيب دون تردد أن مكمن الخطورة هو في ضمور الدولة عند الكثيرين، ليس كأدوات فقط بل كمفهوم وكحيز عملي، فالاعتداء يتم “على هذا المجرد” قبل الشروع في التفصيلات. أليس من المضحك أن تتحدث أمام البعض بضرورة قيام مشروع الدولة؟ أوليس الحيز العام بدءاً من عامود الكهرباء وحتى الجيش، موضع استباحة؟ ومن خلال هذا يرى البعض أنه ليس من ضرورة للعمل، فالريع والحصة والغنيمة أفضل وأربح، وليس ملحاً تراكم الادخار الوطني، فالمساعدات القادمة، وليس علينا معالجة الأزمات، فالخارج المساعد لن يدعنا نسقط. وهكذا دواليك…
طبعاً تجربة بناء الدولة سابقاً، وممارسة من تبوأ السلطة أوحت وساعدت على نشر هذه النظرة، وعممت هذا السلوك، ولا نستثني في هذا أحد. الكل شارك بهذه الجريمة الكبرى، إن عبر ممارسة أو استجابة أو استباحة، واليوم لا خلاص إلا بإعادة تقويم هذا المفهوم، ليس بالوعظ والإرشاد على أهميتهما، بل في السلوك والممارسة. فلا يمكن دعوة المواطن إلى التزام القانون، والسلطة تقفل المجلس النيابي لسنة ونصف السنة، ولا يجوز دعوة المواطن إلى احترام الحيز العام والحكومة لا تشكّل كرمى لعيون فلان، أو حتى يخضع الآخر، ويتخلى عن تغنيه بأكثرية انتخابية، وبالحالين إبقاء الأزمة مفتوحة “مساعدة” للخارج كي يفاوض ويستفيد.
2- بغض النظر عن حجم هذه المأساة، إن كان مبلغ 400 مليون دولار، كما أشار البعض تخفيفاً، أو ملياري دولار، كما صرحت صحف مبالغ فيه، فإن في الحالتين نمط من السلوك “الاقتصادي” اعتمد طرقاً غير سوية في السلوك الاستثماري مخالفاً لمبدأ تأسيس لشركات التجارية، ولجان المراقبة والمحاسبة. والاكتفاء بإيصالات الأمانة. (ويقال إنه كان لا يقبل، بأقل من حد أدنى قيمته 100 ألف دولار)، والاستفادة من الثقة الأخلاقية المضفاة من قِبل الوسط الاجتماعي الذي ينشط فيه تاجر المال. أمر يصيب الاقتصاد والاستثمار والوسط الاجتماعي بأبلغ الضرر، حتى كتب أحد الإعلاميين المقربين – جداً – من حزب الله، الأستاذ إبراهيم الأمين، “قضية صلاح عز الدين: إنذار مبكر لبيئة المقاومة” وقال السيد علي الأمين على موقع Libanonfiles 1/أيلول 2009: “كن مع المقاومة وافعل ما شئت”.
ويجيب السيد الموسوي، على موقع “بنت جبيل – عاصمة المقاومة” قائلاً: ليس لعز الدين أي صفة رسمية في حزب الله، فقط علاقات شخصية. فهذا المستوى من العلاقة، ألم يبح له أن يفعل ما فعله؟ وبحالة الاحتيال لرجلٍ هو بحاجة أكثر من العلاقات الشخصية، ليصل إلى ما وصل إليه متمسكاً بسلوك نقل الطرابيش؟
واستطراداً على هذا المنوال، يشاع على أن أحد المستثمرين القطريين “قد وظف مبلغ 180 مليون دولار”!؟، أي أنه رقم لا يقل عن حجم خسائر صندوق سيادي خليجي في الأزمة المالية. وعلى عقولنا “الصغيرة” أن تقتنع بهذا القول، وتركن على أن الاستثمار بهذا المبلغ يتم دون آليات استثمارية بحرص عليها جداً من يملك مثل هذه المبالغ. حقيقة، إذا كان الأمر كذلك فأين وجه الحق في نقد السلوك الاستهلاكي والاستثماري في الخليج؟
والأكثر غرابة، هو أن يتصدى أحد المتنفذين في قرية جنوبية،، وظفت عند “الحاج” ملايين الدولارات، فيقوم بتوزيع مبالغ من جيبه الخاص، على أبناء بلدته الذين خسروا الكثير. عند سماع هذا القول وبغض النظر عن صحته، ألا يتبادر إلى الذهن، أننا نعيش في زمن الفروسية، وهذا يمكن تطبيقه مرة، أو مرات كعمل خير، لكن اعتماده سلوكاً اقتصادياً في مثل عصرنا، فإن الخواتيم ستكون مذهلة في تشظي وتآكل مجتمعنا، والغد ليس ببعيد، إذا لم يتم التدارك والعودة إلى الدولة والدورة الاقتصادية الطبيعية.
3.في مقالة حول تنظم “تجارة المال”، أكد الباحث ميشال مرقص أن مثل هذه الفضائح، يمكن مقاربتها تحت عنوان “انحرافات عالم المال” مستشهداً بـ”لوموند ديبلوماتيك”، التي اعتبرت أن الأزمة الاقتصادية الحالية في العالم غالباً ما تُنسب إلى الأخطار التي نشأت عن الابتكارات المالية مثل القروض العقارية العالية الأخطار وتسنيد الديون”.
هذا الاعتبار يتجاهل أن مبالغ ضخمة تبددت ضمن آليات رأسمالية أكثر تقليدية، كتقنيات (شارل بونزي) القديمة، والتي استغلت سذاجة الضحايا.
مثل هؤلاء العاملون على هذه “السلاسل الهرمية” كثر في العالم و”الحاج عز الدين” واحداً منهم، وقد سبق وأشرنا إلى الوسائل المعتمدة في ذلك، لكن أهم أمر يتوسلونه لجني “نتائج احتيالهم” هو شركاتهم التي لا تتمتع بهيكلية الشركات القانونية. وفي لبنان، ليس عبقريتهم ولا سمعتهم الحسنة أو إمكاناتهم الرفيعة، هي التي تمهد الطريق أمامهم، بل شيوع الاقتصاد الموازي، المرافق للسيولة العالية القادمة من كل حدب وصوب، وسيطرة العلاقات المافياوية داخل كانتون “الطائفة” والمتحكمة فيه “أطر ميليشياوية” تعتبر نفسها فوق القانون (إن وجد)، ولا تلزمها اللوائح التنظيمية “فهي تبتعد عنها عبر التعامل بالنقد Cash يضاف إلى كل هذا غياب القدرة أو الفعالية عند المؤسسات المالية والهيئات النقدية، خاصة فيما يتعلق بالمراقبة والمحاسبة، خاصة وأن “تجارة المال” لا تخضع للسلطة النقدية، فمعلوم أن المؤسسات التي تتعاطى الصيرفة وأشباهها تخضع للسلطة النقدية، أما الأشخاص الذين يقومون بتجارة المال واستثمار مدخرات الآخرين وتوزيع أرباح تفوق العائدات التي توزعها المصارف التجارية على ودائع زبائنها، لا تخضع لقوانين ناظمة كما تخضع المصارف التجارية.
ويزيد من الحال سوءاً أو تعقيداً، هو محاولات رمي تلك الأدران وكرات النار في أحضان القضاء، دون أن يقدم له ضمانات استقلالية وقدرات تنفيذية، في بلدٍ تقوم سلطاته على قواعد ميزان القوى، وليس التسليم لمرة واحدة بآليات تنتج السلطة على أسس ديمقراطية ونقول توافقية، بل تستنسب حسب الظرف وميزان القوى، الداخلي، والاستقواء الخارجي كأساس.
إذن، في خضم هذه العلاقات وانعكاساتها والتناقضات الطائفية “المستعصية على الحل حتى ضمن أطر النظام الطائفي” لا بد إلا وان تنمو وتنتشر مثل هذه الأنواع من السلوكات الاقتصادية والاجتماعية. وعليه يمكن أن نؤكد الاستنتاجات التالية:
1-“البونزية” و”المادوفية” والصلاحية، نماذج من الاحتيال، تتوسل “الأخلاق” و”التقى” و”النزاهة” و”الإيديولوجيا” للوصول إلى أوسع قطاعات ممكنة، تستسهل الكسب، ولا تختلف مسارات هذه النماذج، إن كانت في أوائل القرن العشرين، في أميركا 2008، أو في لبنان 2009، وبظل علاقات رأسمالية تقليدية، أو علاقات رأسمالية نيوليبرالية، أو علاقات “إسلامية”… فجميعها تستبطن الربح على حساب السذاجة والبساطة والرغبة الجامحة ي الغنى السريع.
2-تستظل هذه النماذج، في علاقات سياسية تسمح لها بالاختراق الاقتصادي، وإذا كان العالم الغربي الأميركي والأوروبي، عكف على اللوائح والتدابير لمنع تكرار تجربة مادوف، وهو قادر على ذلك عبر سن التشريعات والقوانين، فكيف يمكن لنا في لبنان القيام بالتدابير اللازمة للحيلولة أو الحد من مثل هذه النماذج، خاصة وأنه في ظل غياب دور الدولة وتآكل مفهومها، العجز ولا قدرة للقيام سوى بتدابير شكلية وبفقاعات إعلامية. وإذا أضفنا إلى ذلك تقاليد “الغنائمية” و”الريعية التوزيعية” و”المحاصصات الطائفية” و”المسيطرات الميليشياوية”، فالنتيجة الأكيدة اقتصاد موازٍ يحول دون إعادة الحياة إلى الاقتصاد الوطني، والآليات الناظمة له والمؤسسات القائمة به تشريعاً وتنفيذاً ومراقبة ومحاسبة. فلا اقتصاد طبيعي يمكن أن يعيش في ظل هذا الاستعصاءات والإقفال للمؤسسات الدستورية وتعطيل مهامها.
الدولة حاضنة الاقتصاد المعاصر، والاقتصاد الطبيعي ينشد الاستقرار، والاستقرار واحة التشريع والتنظيم والاستثمار المجدي.
3-إن القلق الذي أصبح متأصلاً عند العموم، له ما يبرره في النماذج السابقة، وهذا ليس بدافع الشماتة العقيدية أو الاختلاف السياسي، بل ضنُ بمستقبل البلد المهدد من استمرار حاضرٍ لا يبشر بالتغيير المطلوب، مهما كانت النوايا طيبة. ونعتبر أن المشروعية السياسية والحزبية تُكتسب انطلاقاً من الحفاظ على مصالح الوطن العليا وعلى عيش مواطنيه. لكن الظاهرات السلبية المتناسلة اليوم لا تنبئ بخير آتٍ، والحاجة ملحّة لرؤية إصلاحية ضمن مشروع الدولة المدنية التي وحدها تشكل خيار الخروج من الأزمة المستفحلة.