ينعقد مؤتمر “فتح” في وقت لم يعد لـ”فتح” علاقة بـ”فتح”. هناك محاولة واضحة لايجاد “فتح” جديدة تتلاءم مع المرحلة التي تمرّ بها القضية الفلسطينية وتكون في الوقت ذاته مجرّد وسيلة يستخدمها الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن) لضمان بقائه في السلطة ومنع خصومه من لعب ايّ دور في حال غيابه. ولكن ما هو المشروع الوطني الفلسطيني في حال غياب “أبو مازن”، بعد عمر طويل، وكيف يمكن لـ”فتح” الجديدة لعب دور في تحقيق هذا المشروع؟
هناك جانبان مهمّان في المؤتمر الذي ستعقده الحركة بعد ايّام. يتمثل الاوّل في غياب ايّ معارض لـ”أبو مازن” عن المؤتمر والآخر في انتفاء ثقل الخارج لمصلحة قيادات من الضفة الغربية وغزّة، لا يمكن للأسف الشديد وصفها بالقيادات.
لا يختلف اثنان على انّ “أبو مازن” هو آخر القيادات التاريخية للحركة، هذا اذا استثنينا فاروق القدومي (أبو اللطف) الذي رفض العودة الى فلسطين والذي تقدّم به العمر ولم يعد له ايّ دور منذ فترة طويلة. بقي “أبو مازن” في الصف الثاني للقيادة الفلسطينية فترة طويلة. لا شكّ انّه لعب دورا مهما في مجال العلاقات الخارجية، خصوصا في مجال تمتين العلاقة بين “فتح” وموسكو. سمح له ذلك بان يكون على معرفة دقيقة بموازين القوى الإقليمية والدولية. استثمر معرفته هذه في مرحلة ما قبل التوصل الى اتفاق أوسلو في صيف العام 1993، وهو اتفاق وقّع في حديقة البيت الأبيض لاحقا، في أيلول ـ سبتمبر من ذلك العام، وفتح أبواب واشنطن على مصراعيها امام “أبو عمّار”.
سيحكم التاريخ على ما اذا كان ياسر عرفات استطاع استغلال الفرصة المتاحة له ام لا، علما ان ان إسرائيل لم تكن في ايّ يوم تعتقد انّ اتفاق أوسلو يمكن ان يؤدي الى تسوية معقولة ومقبولة ترضي بعض الطموحات المشروعة للفلسطينيين، بل كانت تريد ان تثبت من خلال اتفاق أوسلو ان الفلسطينيين لا يحترمون التزاماتهم.
في الواقع، سيحكم التاريخ على ما اذا كان ياسر عرفات عوف تماما ما الذي وقّع عليه في حديقة البيت الأبيض؟ الاهمّ من ذلك، هل كان يعرف تماما ما هي إسرائيل التي وقّع الاتفاق معها وهل استطاع فهم أصول لعبة العلاقات العامة التي تدور في واشنطن وفهم اميركا نفسها؟
بقي ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، على رأس “فتح” اقلّ بقليل من نصف قرن. واذا كان من كلمة حقّ تقال، فان “فتح” تميزت منذ نشوئها بتنوع الآراء في داخلها. كان ذلك مصدر غنى لـ”فتح” كما تسبب بمشاكل وازمات كبيرة استطاع “أبو عمّار” ضبطها واحتواءها في معظم الأحيان. لم تكن هناك “فتح” واحدة الّا في بدايات البدايات. بدأت تظهر الانشقاقات خلال وجود “فتح” في في الأردن حيث أصبحت هناك دكاكين فتحاوية. وعندما انغمست “فتح” في الحرب اللبنانية وحوّلت نفسها الى جيش المسلمين ضد المسيحيين، كانت تضمّ تيارات بعضها “ماوي”، نسبة الى الزعيم الصيني ماو تزي تونغ، وبعضها، في مرحلة لاحقة “خميني”، نسبة الى زعيم الثورة على الشاه في ايران. كان هناك أيضا من يُعتبر محسوبا على دول الخليج العربي التي لم تقصّر يوما في دعم “فتح” ماليا، باستثناء سلطنة عمان. وكان هناك من يُعتبر محسوبا على مصر وعلى الاجهزة المصرية تحديدا…وكان هناك بالطبع مستقلون لا ولاء لديهم سوى لقضية ما لبثت ان تراجعت اهمّيتها مع مرور الوقت لاسباب كثيرة في مقدّمها الشرخ المذهبي الذي ظهر بوضوح بعد الاحتلال الاميركي للعراق في العام 2003 …
كانت “فتح” في حال ضياع أيديولوجي مستمر، لكن “أبو عمّار” عرف دائما كيف يمكن ضبط الامور معتمدا قبل ايّ شيء آخر على عامل المال الذي جعله فوق كلّ الخلافات، في معظم الأحيان وليس في كلّ وقت. كذلك، عرف “أبو عمّار” كيف يفرض ارادته وذلك بقبوله القرار 242وإعلان نبذه الإرهاب في العامين 1988و 1989.
خاضت “فتح” في عهد ياسر عرفات صراعات كانت في غنى عنها، بما في ذلك الصراع مع النظام السوري برئاسة حافظ السد الذي كان يعتبر القرار الفلسطيني المستقلّ “بدعة”… وفلسطين “جنوب سوريا”. وضع ياسر عرفات نفسه، من خلال تمسّكه بالوجود العسكري في لبنان، لقمة في فم حافظ الأسد الذي حرمه من أي فوائد كان يمكن ان يحصل عليها عبر أنور السادات!
مرّت “فتح” في مراحل كثيرة قبل الوصول الى اتفاق أوسلو. فقدت خليل الوزير (أبو جهاد) ثم صلاح خلف (أبو اياد). كانا منافسين جدّيين لياسر عرفات لكنّهما كانا في الوقت ذاته ابرز حليفين له عندما تدعو الحاجة الى ذلك.
لدى وفاة “أبو عمّار” في تشرين الثاني ـ نوفمبر 2004 ، لم يكن يعد في الساحة غير “أبو مازن”، الرجل الواقعي الذي يمتلك شخصية مختلفة كلّيا عن شخصية الزعيم الفلسطيني الراحل. كان “أبو مازن” يمتلك من الواقعية ما دفعه الى زيارة مسقط راسه في صفد برفقة افراد عائلته. كان ذلك في مرحلة ما بعد أوسلو. قال وقتذاك للذين رافقوه انّه جاء بهم الى المكان الذي لن يعودوا اليه يوما.
هناك خيط عريض يربط بين كلّ تصرّفات محمود عباس الذي يرئس السلطة الوطنية منذ ما يزيد على عقد من الزمن. ورث “أبو مازن” كلّ مواقع ياسر عرفات والقابه، بما في ذلك لقب “رئيس دولة فلسطين”. لكنّه تصرّف في كلّ مناسبة بما يؤكّد انّه يرفض كلّيا كلّ ممارسات سلفه. حتّى نظرته الى الأشخاص مختلفة تماما عن نظرة ياسر عرفات. لا يقبل بوجود أي شخص قوي قربه. مع “أبو مازن”، لا مجال لاي نقاش من أي نوع كان في أي موضوع كان. نظرته الى المال مختلفة أيضا عن ياسر عرفات الذي عرف كيف يستخدم هذه الوسيلة للوصول الى غاياته. كان المال سلاحا من أسلحته، في حين ان اهمّيته بالنسبة الى “أبو مازن” مختلفة تماما. إضافة الى ذلك، لم يحط “أبو مازن” نفسه باشخاص قادرين على التعاطي مع الاعلام. بالنسبة اليه، لا وجود لسلاح الاعلام، لا على الصعيد العربي ولا على الصعيد العالمي.
باختصار شديد، ان “أبو مازن” شخصية تمثّل نقيض شخصية “أبو عمّار”. لذلك يريد ان تكون “فتح” على شكله. عذره ان المنطقة كلّها تغيّرت. لم تعد القضية الفلسطينية هي القضية الاولى والمركزية. لا يتحدث اليوم عن القضية الفلسطينية الّا أولئك الذين يريدون المتاجرة بها من مسؤولين إيرانيين وأدوات لإيران وسياساتها ومشروعها الإقليمي.
هل يبرّر ذلك قيام “فتح” جديدة لا تضمّ سوى ازلام لمحمد عبّاس؟ هل تتطلب المرحلة التي تمرّ بها القضية الفلسطينية مثل هذا الانقلاب الكبير على ما بقي من ارث لياسر عرفات بحسناته الكثيرة وسيئاته التي لا تحصى أيضا، على رأسها أخطاء الأردن ولبنان والكويت والسقوط في الافخاخ التي اوقعه فيها حافظ الأسد من حيث يدري او لا يدري، فضلا بالطبع عن أخطاء ما بعد أوسلو وكيفية التعاطي مع إسرائيل والولايات المتّحدة؟