استعادة الودائع وتغيير الواقع المالي شبه مستحيل في ظل غياب الشفافية والإرادة الحقيقية.
أجرى المقابلة بيار عقل
1- أذكر أن مصنعك احترق في 2011 إذا لم أخطئ التاريخ: هل ما زال فادي عبود «صناعياً» وصاحب أفكار جديدة في تطوير الصناعة وأيضاً في «حقوق المستهلك»؟
نعم، أنا أعتبر نفسي صناعياً قبل أي شيء آخر، ولم أتوقف يوماً عن الإيمان بالتصنيع والإنتاج كخيار استراتيجي لإنقاذ لبنان اقتصادياً.
بعد الحريق الذي أصاب المصنع في عام 2011، لم أستسلم، بل أطلقت حملة “GPI will never die”، تعبيراً عن قناعتي بأن الصناعة الحقيقية لا تموت، بل تعيد اختراع نفسها مهما كانت التحديات.
واليوم، ما زلت ناشطاً في القطاع الصناعي، وقد افتتحنا مؤخرا معملا لتدوير قناني المياه البلاستيكية PET، الذي أراه من القطاعات الواعدة التي تفتح آفاقاً جديدة للتنمية المستدامة وتوفير فرص العمل.
أما في ما يخص شؤون المستهلك، فأنا أتابع هذا الملف عن كثب منذ سنوات، لأنني أؤمن أن حماية المستهلك يجب أن تكون في صلب أي سياسة اقتصادية سليمة. لكن الواقع في لبنان مؤسف: لا يوجد فهم حقيقي لحقوق المستهلك، لا على مستوى الدولة، ولا على مستوى الرأي العام. نحن نعيش في سوق يغيب عنها التنافس الحر، وتسيطر عليها الاحتكارات.
تكاتفُ الاحتكارات يبقى السمة الأساسية للسوق اللبنانية وللنظام الاقتصادي بشكل عام.
فقد نشأت هذه الاحتكارات في ظل ما يُسمى “جمهورية التجار”، وتعززت مع الوقت نتيجةَ تشريعاتٍ تحمي “الوكالات الحصرية”، حتى أصبحنا الدولة الوحيدة في العالم التي تتدخل فيها الأجهزة الجمركية لمنع أي استيراد من خارج منظومة الوكيل الحصري، بدل أن تحمي المستهلك. هذا النوع من الحماية للوكالات يناقض أبسط مبادئ السوق الحرة. وقد تم تعديل قانون الوكالات وكان من الواضح ان الدور الاساسي في تعديله كان للوكلاء الحصريين انفسهم ، فاذا رفع الوكيل الحصري دعوى في المحاكم اللبنانية على شركة لانها باعت المنتج لمستوردين آخرين، واذا ربح الوكيل الحصري فمن الممكن منعُ الشركة المنتجة من التصدير الى لبنان “يا محلا القانون القديم”! اما القانون الجديد فنتمنى ان لا تتم صياغته من الوكلاء الحصريين .
كانت بداية عهد جوزيف عون و«خطاب القسَم» أشبه بصدمة إيجابية أوحت بأن البلد سيصبح «بلداً طبيعياً» من جديد. الأصداء التي تردنا الآن تشير إلى حالة «إحباط عمومي». لماذا؟
صحيح، الناس انتظروا تغييراً في الأداء وفي مقاربة الملفات، وراهنوا على أن وجهاً جديداً قد يعني بداية نهج جديد. لكن ما لا يدركه كثيرون أن المشكلة في لبنان ليست مشكلة أشخاص بقدر ما هي مشكلة نظام متكامل، مريض في بنيته، ومعطّل في آلياته، ويقوم على الزبائنية والاحتكارات والتسويات لا على المؤسسات والكفاءات.
هذا النظام عاجز بطبيعته عن إنتاج حلول حقيقية، لأنه قائم على توازن مصالح لا يمكن كسرها من داخل المنظومة نفسها. ولهذا، لا يكفي أن يأتي شخص نزيه أو صاحب نية جيدة، بل نحتاج إلى أمرين أساسيين:
أولاً، نحتاج إلى من يملك “المعلّمية”، أي الفهم العميق للواقع الاقتصادي والإداري، والشجاعة للذهاب حتى النهاية في القرارات. لا يكفي أن تكون لديك نية الإصلاح، بل يجب أن تعرف كيف تُحدثه، ومتى، وبأي أدوات، ومن أين تبدأ.
ثانياً، نحتاج إلى تغيير جذري في الإجراءات، لا مجرّد تغييرات شكلية. أي كل ما يتعلّق بإدارة الدولة: من هيكلية الوزارات، إلى قواعد التوظيف والتلزيم، إلى طريقة إدارة المال العام، إلى قانون الصفقات، إلى آلية تعيين القضاة، وحتى بنية العمل الجمركي والضريبي. لا يمكن إصلاح الوضع بأدوات النظام القديم نفسه.
من دون هذا التغيير المزدوج – في الأشخاص وفي الإجراءات – سيبقى كل عهد جديد محكوماً بسقف النظام نفسه، مهما كانت نواياه.
تحدث رئيس الحكومة، نواف سلام، مراراً عن برنامج الحكومة “الإصلاحي”. معظم من تحدثنا معهم لا يعرفون ما هو البرنامج الإصلاحي الذي يشير إليه رئيس الحكومة! وأنت، ما رأيك؟ هل ترى أن هناك فعلاً برنامجاً إصلاحياً واضحاً ومقنعاً يُمكن البناء عليه؟
للأسف، لا يمكن اعتبار ما يُطرح حتى الآن برنامجاً إصلاحياً حقيقياً. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الغوص في التفاصيل الدقيقة التي تُشكّل جوهر الواقع الاقتصادي والإداري في لبنان، وليس بمجرد إطلاق شعارات عامة.
الأزمة ليست فقط في السياسات العامة، بل في كيفية تطبيقها وتأثيرها اليومي على القطاعات الإنتاجية، من تكلفة الكهرباء والمازوت، إلى الإجراءات الجمركية المعقدة، إلى الرسوم والضرائب غير المنطقية، الميكانيك ، تسجيل السيارات ، إلى تكلفة الاتصالات والنقل، وصولاً إلى كيفية تعامل الإدارة مع المستثمرين والصناعيين، وجمهوريات النقابات التي تجبي ضرائب من العباد لصالحها ضاربين بعرض الحائط مبدأ شمولية الموازنة.
هذه التفاصيل إذا لم تُعالج بشفافية وواقعية، فإن أي خطة إصلاح ستتحول إلى هدر جديد للوقت والموارد.
وحتى الموازنة التي أُعدّت مؤخراً، تبدو كأن من أعدها هو محاسِبجي ضيّق الأفق، يسعى فقط لتحصيل الإيرادات من هنا وهناك، من دون أن يدرس أثر ذلك على الإنتاج والنمو أو أن يضع خطة متكاملة لتحفيز الاقتصاد.
فكيف يمكن التفكير بضرائب جديدة في حين تُقَدِّر كل المراجع نسبةَ التهرب من الضريبة على القيمة المضافة باكثر من 50%؟ هذا تفكير غير مفهوم وغير مقبول .
نحن بحاجة إلى من يملك “المعلّمية”، أي الخبرة والقدرة على إدارة هذه التفاصيل وتحويلها إلى إجراءات عملية تُحفّز الإنتاج. نحتاج إلى من يخلع القفازات ويغوص بيديه في التفاصيل الدقيقة، لا من يكتفي بالخطابات أو القرارات الشكلية.
بدون هذا النهج الجريء، سيبقى الإصلاح مجرد شعار لا يتعدى الكلام، وسيستمر الإحباط.
مطلب استعادة الودائع يتنافس مع مطلب «حصرية السلاح» في أولويات اللبنانيين، لكن تعيينات نُوّاب “الحاكم” الأخيرة أوحت بأن «الفساد» أقوى من العهد والحكومة وأن شيئاً لم يتغير على هذا الصعيد. لماذا؟
المشكلة في لبنان ليست فقط في الأشخاص أو التعيينات، بل هي أعمق من ذلك بكثير. حتى الآن، لم تتمّ مراجعة شاملة وجدية لما أوصلنا إلى الأزمة المالية، سواء من حيث الصلاحيات أو آليات الرقابة على المصارف والهيئات المسؤولة.
لا توجد أي خطوات فعلية لتحديث أو إصلاح اللجان والهيئات التي فشلت في منع الكارثة، ولا تزال السلطة متمسكة بالنهج القديم الذي ثبتَ فشلُه. كأننا لم نتعلم شيئاً من الدرس القاسي الذي مررنا به. يقول انشتاين: “الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتتوقع نتائج مختلفة”!
هذه الإصرار على اعتماد النهج القديم يكرّس الفساد ويؤخر الإصلاح الحقيقي، ما يجعل استعادة الودائع وتغيير الواقع المالي أمراً شبه مستحيل في ظل غياب الشفافية والإرادة الحقيقية.
التعيينات الدبلوماسية أيضاً اتُّهمت بأنها تحتوي على عيوب من نوع «محاباة الأقارب والأصدقاء» (nepotism). ما رأيك في هذا الأمر؟
هذه الظاهرة ليست سوى جزء من مشكلة أعمق في امتهان السياسة والخدمة العامة في لبنان. كثير من المناصب، سواء الدبلوماسية أو الحكومية، تُعتبر مكافأة شخصية أو وسيلة للحفاظ على نفوذ عائلي أو سياسي، وليس فرصة لخدمة الوطن بجدية وكفاءة.
غياب مبدأ التداول في المناصب والحدود الزمنية للخدمة يجعل المسؤولين يركّزون على تأمين بقائهم ومَن حولهم في هذه المناصب بدلاً من التركيز على الإنجاز والتنمية. هذا يكرّس ثقافة “المحسوبية” ويحدّ من فرص مشاركة خبرات جديدة ومواكبة التغيرات الحقيقية التي يحتاجها لبنان.
لذلك، لا يمكن محاربة ظاهرة “المحسوبية” دون إعادة النظر في مبدأ امتهان السياسة نفسه، وفرض نظام شفاف يحدد فترات زمنية محددة للمنصب، مع ضمان محاسبة المسؤولين من خلال بيانات مفتوحة تتيح للمواطنين مراقبة الأداء.
هذه الخطوات ضرورية لتحويل السياسة من مهنة دائمة إلى خدمة عامة حقيقية، ما يعزز الثقة ويتيح للبنان الاستفادة من أفضل الخبرات والكفاءات في مواقع القرار.
واسمح لي ان العب دور الصحافي هنا وأسأل:” كل موظفي القطاع العام يشتكون من الرواتب والتقديمات ، لماذا اذا ما زالوا يستقتلون للحصول على وظيفة في القطاع العام؟ “
في مقالك “كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية”، دعوت إلى إيرادات بديلة غير ضريبية. ما هي أبرز هذه البدائل؟
البلد بحاجة إلى رؤية اقتصادية واضحة تضمن إيرادات للدولة دون تحميل الاقتصاد والناس أعباء ضريبية قاتلة، مع ضرورة مراعاة النمو والتنمية الاقتصادية. من أهم البدائل التي اقترحتها:
1. تحصيل فعّال لضريبة القيمة المضافة (VAT): التوقف عن التهرب الضريبي الذي يشكل نحو 50% من الاقتصاد النقدي وغير المسجل.
2. تخمين عقاري مركزي: اعتماد تخمين موحد وشفاف يحد من الاستنسابية ويحقق عدالة في فرض الرسوم العقارية.
3. فرض ضريبة “Windfall Tax”: ضريبة مباشرة مؤقتة على أرباح غير مبررة للشركات التي تستفيد من عقود مجحفة مثل سوليدير والمرفأ والمصارف.
4. إعادة هندسة وتنظيم الاستيراد والتصدير: تسهيل الإجراءات وفتح المعابر مع تحديث طرق تحصيل الرسوم لتحسين الإيرادات وتقليل الأسعار.
5. تحسين إجراءات الرخص والرسوم إلكترونياً: لمنع الفساد والوساطة وتحقيق شفافية في إصدار الرخص.
6. إدارة مرفأ بيروت بشفافية: إنهاء لجان مؤقتة وتحويل المداخيل إلى الخزينة العامة مع محاسبة كاملة.
7. فرض ضرائب على النقابات وصناديق التعاضد: لتحويل هذه الموارد إلى الدولة وتجنب التهرب الضريبي.
8. تفكيك الحصريات وفك الاحتكارات: في قطاعات مثل الاتصالات، التبغ، المرافئ، لتفعيل التنافس الحر وتحقيق إيرادات أكثر.
9. تطوير خدمات مطار بيروت: من خلال مزادات شفافة لاستثمار الخدمات الجديدة ذات العائد الاقتصادي.
10. تنظيم الألعاب الإلكترونية والكازينوهات: وفرض ضرائب عادلة عليها ترتبط بالأرباح الفعلية.
11. توحيد ورسوم تسجيل السيارات: مع مكافحة الاستنسابية والفساد في تسعير السيارات المستعملة.
12. إلغاء الطابع المالي والطابع الأميري: واستبدالهما برسوم حديثة وفعالة تحقق الغاية بتمويل الدولة.
13. تشريع وتحسين إدارة النفايات: عبر فرض ضرائب على الطمر وتشجيع الفرز وإعادة التدوير.
14. تشريع نشاط البغاء: للحد من الاستغلال وتحويله إلى نشاط خاضع للضرائب والرقابة.
15. قوانين سير حديثة: مع تطبيق غرامات صارمة ونظام مراقبة إلكتروني.
16. فرض رسوم على المقالع والكسارات: مع اشتراطات بيئية ومصرفية لضمان سلامة الموارد.
17. تشريع زراعة الحشيش لأغراض تصديرية: مع فرض ضرائب مرتفعة ومنع الاحتكارات.
18. تنظيم استيراد وترخيص الأسلحة الفردية: مع ربطها بإجراءات دقيقة لتعزيز الأمن وتحقيق إيرادات.
19. تنظيم الإعلانات الطرقية: وفرض ضرائب عليها.
20. إعادة تسوية أملاك الدولة: وتحصيل بدلات استثمار عادلة.
هذه المقترحات تعكس ضرورة إعادة بناء الدولة اقتصادياً عبر إرادة سياسية حقيقية، بعيداً عن الحسابات المحاسبية الضيقة، مع التركيز على تشجيع الإنتاج، حماية الطبقة الوسطى، ومكافحة الفساد من جذوره، بحيث تؤمن الدولة إيرادات مستدامة دون قتل الاقتصاد أو تحميل المواطن أعباء لا طاقة له بها.
في كتابك “لو سمعوا من فادي” أشرتَ إلى تجربة سنغافورة كنموذج يُحتذى به. ما الذي يمكن أن يتعلّمه لبنان من هذه التجربة تحديدًا، خاصة في ظل الأزمة الحالية؟
تجربة سنغافورة ليست فقط قصة نجاح اقتصادي، بل درس في الإدارة، التخطيط، والرؤية الواضحة. هذه الدولة الصغيرة، التي لا تمتلك موارد طبيعية تُذكر، ولا مساحات شاسعة أو عمقًا استراتيجيًا، والاهم بلد صغير متعدد الطوائف والاثنيات، استطاعت أن تتحوّل خلال عقود قليلة من مستعمرة فقيرة إلى واحدة من أقوى الاقتصاديات وأكثرها تنافسية في العالم. كيف؟
ليس بالمعجزات، بل بالجدية والانضباط واعتماد الكفاءات، واعتماد العلمانية والابداع والريادة.
أهم ما يمكن أن نتعلّمه في لبنان من سنغافورة هو الانتقال من نظام الزبائنية والمحسوبيات إلى نظام الدولة الحديثة، حيث تُبنى السياسات العامة بناءً على دراسات، ويتم التعيين بناء على الكفاءة، وتُحاسَب كل إدارة على أدائها.
في سنغافورة، لا يُكلَّف أحد بمسؤولية اقتصادية إذا لم يكن خبيرًا ومطلعًا على التفاصيل. بينما في لبنان، نتعامل مع السياسة وكأنها مهنة من لا مهنة له، فتُسنَد وزارات حسَاسة إلى أشخاص لا يدفعون رواتب، ولا يعرفون كيف تُدار مؤسسة إنتاجية، ولا يفهمون سلاسل التوريد ولا احتياجات التصدير والصناعة.
سنغافورة نهضت لأن قيادتها قررت أن تعيد بناء الدولة على أسس علمية واقتصادية متينة، فأسَست مؤسسات فاعلة، أعطت حوافز للقطاعات الإنتاجية، حرصت على بيئة أعمال نظيفة، واعتبرت الوقت ثروة وطنية.
أما في لبنان، فنعيش منذ ثلاثين سنة في حالة من الإنكار والارتجال، لا مراجعة حقيقية لما حصل، ولا محاسبة، بل إصرار على إعادة إنتاج نفس السياسات والشعارات التي أوصلتنا إلى الانهيار.


