عندما كنت أدرس فى جامعة هارفارد، مقرراً (Course) فى القانون والإقتصاد، كنت فى بعض الليالى أتجول مع نفر من الأصحاب الزملاء فى المنطقة التجارية بحى كمبردج (Cambridge) الذى تقع به الجامعة، وهذه المنطقة معروفة للدارسين ومطروقة منهم، إذ أنها شكل آخر من الحى اللاتينى بباريس، تتناثر فيها المطاعم المختلفة والمقاهى الفرنسية التى تعجّ بالشباب من مختلف الجنسيات. ذات مّرة، بينما كنا نجلس جميعاً فى مقهى، وصلت إلى مسامعنا أغنية أمريكية شهيرة، عنوانها الذى تتحدث عنه: غرباء فى الليل (Strangers in the night). ضربت لنا الأغنية على وتر حساس، وأثارت فينا مواجع الوطّان (Home Sickness).
فبدأنا نتحدث عن الغربة والإغتراب، وعندما طال بنا الحديث وتشعب تساءلت فى استفهام: هل نشعر بالغربة هنا فإذا عدنا إلى الوطن شعرنا بالألفة والقربى ؟ فكّر الجميع مليا ثم قال بعضهم: أبداً، نحن غرباء فى الوطن كما أننا غرباء فى الخارج.
قلت: ولماذا يا صحاب نكون غرباء فى كل مكان، سواء فى الوطن أم خارجه، مع الأبعدين أم مع الأقربين؟
اختلفت الآراء، وتعددت الأقوال، تتحدث عن الحضارة المعاصرة وعن المدنيّة وأسبابها، وكيف أدت إلى تباعد الناس بعضهم عن بعض، وتفاصل كل فرد عن غيره، بل عن نفسه. قلت لهم: هذا صحيح: لكنه ليس السبب الوحيد، كما أنه لا يتعلق بكل الناس، قالوا جميعاً: إذن فما هو السبب الآخر فى تقديرك ؟ قل لنا رأيك. قلت: من قديم، وفى عصور موغلة فى التاريخ، قبل الحضارة المعاصرة والمدنية الحديثة قال الصوفية: المعرفة غُربة. أى إن الذى يعرف يغترب، والعارف غريب وكلما زادت المعرفة ازداد الاغتراب، ودامت نوازعه وسادت خواطره، وسواء كان العارف فى وطنه أم كان بعيدا عنه، وسواء كان بين أهله أم كان من بين أجانب.
فى علم النفس، انتهى العلماء إلى أن الاختلاف بين الطفل والرجل ليس اختلافا كمّيا، لكنه اختلاف كْيفى.
ففى مرحلة معينة من النمو والنضج – إن حدث – يقع للشخص تحول كيفى، لم يستطع العلم حتى الآن أن يصل إلى أسبابه أو يقطع بوسائله، فإذا بالطفل يكتسب وعْى الرجل. فالتغيّر من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة لا يمكن أن يحدث نتيجة أىّ إضافات كمّية أو أى زيادات دَرَجية (أى فى الدرجة)، لكنه يقع نتيجة طفرة حيوية، تنقل الشخص من حال إلى حال، وتصير به من نوع إلى نوع، وتتغير فيه من كيف إلى كيف. وهذا المفهوم هو الذى يوضح السبب فى أن بعض الناس لا تنتقل أبدا من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة، مهما حدثت لها إضافات كمية أو درجية تكون هى بذاتها قد حدثت لآخرين وصلوا بالفعل إلى وعى الرجولة. كما أن هذا المفهوم هو الذى يلقى الضوء على نظرية النشوء والإرتقاء (Theory of Evaluation) فيبين ما بها من صحة وما بها من خطأ، ذلك أن للقرد (أو الشمبانزى) وعيا يختلف كيفيا ونوعيا عن وعى الإنسان، ولا يقتصر الاختلاف على عدد كمىّ أو دَرَجى، لو حدث أن أضيف إليه صار إنسانا. ففى المجال الحيوى وفى النطاق الإنسانى، وخلافا لما يحدث فى التجارب الفيزيقية أو فى الأحوال المادية، لا يؤدى التراكم الكمىّ إلى تغيّر كيفى غليان الماء – مثلا – عندما يصل إلى مائة درجة سنتيجراد يحوله إلى بخار، وإن نقص إلى درجة الصفر يغيره إلى جليد. أما التراكم الكمىّ أو التزايد العددى أو التتابع الدّرجى، فإنه فى المجال الحيوى وفى النطاق الإنسانى، لا يمكن أن يحول القرد إلى شخص، أو يغير وعى الطفل إلى وعى الرجل. إذ لابد لذلك من طفرة حيوية ويصمة كونية.
كذلك، فإن المعرفة الكونية التى توجد لدى الندرة النادرة من الناس، كسبا منهم أو طبعا فيهم، تُحدث بهم طفرة عن باقى الناس عموما، تظل تعتمل فى نفوسهم حتى المعرفة فى مرحلة معينة، فتُظهرهم فى حال آخر هو الإنسان الكونى. وهذا الوضع الكونى هو حالة كيفية وصيغة نوعية تختلف عن الإنسان العادى فى الجوهر والصميم ؛ اختلاف عقل الرجل عن عقل الطفل. وهذا هو المعنى الحقيقى لتعبير الإنسان الكونى الذى استعملناه لأول مرة فى كتاب حصاد العقل (1973)، لكن الإستعمال الذى شاع حالاً (حالياً) ليُطلق تعبير الإنسان الكونى على الشخص الذى تتعدى حدوده ومفاهيمه كل النطاقات المحلية، هو فى الحقيقة إستعمال غير دقيق. لأن مثل هذا الشخص ينسب إلى العالم الأرضى كله لا إلى الكون، وهو يطلق عليه بالإنجليزية (Global) أى عالمى أو شامل، فترجمة اللفظ الإنجليزى (Global) إلى كونى خطأ يُحدث إختلاطا لابد من رفعه. هؤلاء العارفون المختلفون عن باقى البشرية كيفية ونوعية، هم الذين يقال عنهم فى الفكر الدينى: المختارون أو المخلَصُون أى الذين اختيروا أو الذين نالوا الخلاص، بمعنى أنهم فى حال خاص لا تؤثر فيه قوى الشر وعوامل السلب، لأن لهم طبيعة خاصة تختلف فى الجوهر والصميم عن طبيعة الأشخاص العاديين.
كما أن الرجال ليس لهم سبيل مع العيال (والعيال لفظ عربى صحيح يُقصد به من يعتمد على غيره ولا يستقل بأمره)، وهو ذات المعنى الدارج (يراجع المعجم العربى الأساسى، مادة عول، عيال)، إذ لا يستطيعون مجالستهم أو مصاحبتهم أو معاشرتهم، كذلك فإنه ليس للإنسان الكونى سبيل مع الإنسان العادى، فهو لا يطيق مجالسته أو مصاحبته أو معاشرته، لوقوع اختلاف كيفى بينهما وقيام تباين نوعى يفصلهما. بهذا لا ينبغى أن يكون الإنسان العادى معيارا للإنسان الكونى ولا يجوز أن يكون هذا مقياسا لذاك. فالإنسان الكونى هو نبوءة المستقبل، أو ملح الأرض، تسير الحياة نحوه ويتجه الوجود اليه، وهو حين يظهر فى فترات متتالية من التاريخ، إنما يكون كمن جاء من حياة سوف تتحقق بعد ملايين السنين أو نتيجة طفرة حيوية وبصمة كونية.
إذا كان العارف بطبيعته وحقيقته، غريبا فى وطنه غريبا بين أهله، لأن كيفيته تختلف عن كيفيتهم ونوعيته تفترق عن نوعيتهم، فهو فى بلاد كثيرة، ومنها بلاد العالم الثالث، يجد غربة مضاعفة. ففى هذه البلاد لا يزال النظام القَبَلى مسيطرا لم يغيره بناء الدولة ذات الشعب المتوحد. والنظام القبلى يكون فى القبيلة، وما يأخذ سمتها ويتبع رسمها، من أمة أو جماعة أو حزب أو مؤسسة أو شركة أو ما ماثل. وفيه يحدث تقييم الشخص وتقديره على أساس ماله من علاقات وما لديه من صلات، لا بالنظر إلى تحديد كفايته أو تعيير قدراته (أى حساب عيارها). ويؤدى ترسيخ النظام القبلى إلى تعويق بناء الدولة، إذ يكون الشعب جماعات متفرقة ذات مصالح متباينة، تكاد تكون متعادية (Animus) ؛ هو ما يعمل دائما على هز أسس الدولة ومنع قيامها بالمعنى الحقيقى، وإن تكن كائنة بالشكل الظاهرى فى هذه الدولة اسما والقبائل فعلا، لا يجد العارف أى الإنسان الكونى ولا الشخص المتميز مجالا لقدراته ولا مكانا لكفاياته، بل على العكس فإنها قد تتحول إلى أن تكون عوائق أمامه وحوائل دون اختياره، لأن رئيس القبيلة وأهل الحل والعقد فيها، لا يطيقون ذاتيته ولا يتحملون كفايته ولا يرتضون استقلاليته، بل هم يفضلون العلاقات عن الكفايات، ويميزون الأقربين مع سوءاتهم على الأكرمين فى عليائهم.
هذى أهم الأسباب التى تجعل بعض الناس غرباء فى الوطن ؛ ذلك بأنهم ذوو وعى كونى أو امتياز مؤكد، فى حين أن غيرهم ذوو وعى دنيوى، وهم يركنون إلى الكفايات والقدرات فى حين أن غيرهم يعمدون إلى العلاقات والصلات، وهم يتعدون بمشاعرهم إلى الإنسانية كلها فى حين أن من سواهم يقصرون مشاعرهم على أبناء القبيلة وحدهم، أيا ما كان الإسم الذى تتخذه هذه القبيلة.
يزيد الإغتراب أضعافا مضاعفة فى مجال الحياة العامة، حيث لا يصدر قرار إلا ووراءه مصلحة شخصية، ولا يُنشر مقال إلا وخلفه صلات قبلية، ولا يكتب خبر إلا ودافعه فوائد مادية.
فالذى يريد انتشارا فى الحياة العامة أو يريد ظهورا فى أى جانب منها عليه أن يندرج فى قبيلة، سواء كانت حزبا معلنا أو تنظيما خفيا أو جماعة سرية أو مجموعة أيديولوجية، فيصبح واحدا منها يأتمر بأمرها ويتكلم بلسانها ويتلون بألوانها، ويتحرك من اليسار المتطرف إلى اليمين المتخلف، تْبعا للدوافع المادية والمكاسب المالية، دون خشية وبغير حياء، لأن وراءه قبيلة تسانده وخلفه مصالح تعضده.
كنت ذات ليلة أجلس مع عدد من المعارف فى بيت صديق، فسألنى أحدهم، وكنا قد تعارفنا فى هذا المجلس: هل أنت ضمن أعضاء التنظيم الناصرى؟ قلت: أبداً، ولا كنتُ منضما لأى تنظيم ماركسى، ولا أنتسب لأى جماعة من جماعات الإسلام السياسى، ولست محسوبا على أى مجموعة سياسية أو إدارية أو حزبية. رد قائلاً: وجماعة الإسلام المستنير؟ قلت: لا توجد جماعة بهذا الإسم والكلام عن جماعة هو من قبيل المجاز الذى يقصد إلى كل المهتمين بمبادىء المجتمع المدنى وحكم القانون وفصل السياسة عن الدين. لكنى بطبيعتى لا أحب العمل مع آخرين أو حتى التنسيق معهم، حتى لا أحمّل أى فرد نتائج عملى وعواقب آرائى، ولكيلا أحمّل نفسى تصرفات غيرى، أو علاقاته التى قد لا أوافق عليها، وإنتماءاته الماضية والحاضرة، أو كتاباته وأحاديثه، فإذا ما حشرنى البعض ضمن مجموعة معينة، فإنما يفعل ذلك تعزيزا لمواقفه وتعضيدا لأوضاعه التى لا أعرفها ولا أعبأ بها ولا أساءل عنها. قال باستغراب: أنت إذن معلق فى الهواء؟ قال المضيف الكريم: الصاروخ ينطلق فى الهواء، فإذا وضع فى الأرض شُلت حركته وعيقت قوته. ثم أضاف يقول عنى: إنه لا يعمل فى مصر فقط ولا فى العالم العربى وحده، لكنه تجاوز كل ذلك فصار عمله على المستوى العالمى. قال السائل: لكن من كان كذلك فى حاجة إلى من يعرض عمله ويحلل فكره ويبين وضعه للناس. عقّب المضيف قائلاً: لقد قال أفلاطون فى القرن الرابع قبل الميلاد إن الإنسان لابد أن يعرض نفسه بنفسه ويشرح فكره بقلمه إن تخلف المجتمع عن فعل ذلك. قلت: فى غيبة النقد الواعى النزيه، لا يكون ما يسمى نقدا، إلا ردود قول أيديولوجية، أو يكون على سبيل التجامل أو من قبيل التحامل، وهو ما يدعو المفكر إلى أن يشرح بنفسه ويعرض بقلمه أعماله بل تصرفاته التى هى جزء لا يتجزأ من عمله.
يضاف إلى ذلك أنه حين تغلب الأمية الثقافية، كما هو الحال فى شعوبنا، فإن شرح المفكر لنفسه يكون ضرورة لأن الناس يكونون عاجزين عن شرح كوامن نفوسهم وفهم حقائق الآخرين، لإنعدام البيان الفكرى وإفتقاد المحصول اللغوى الذى يؤهل لهذا الغرض. فضلا عن هذا، فإن ثقافة الإشاعات التى تروج فى مجتمعاتنا تجعل الناس قابلين للإستهواء (Captivation) بأى إشاعة بعيدة عن العلم والخلق، مما يضطر المفكر إلى أن يخصص جزءا من جهده لتعقب هذه الإشاعات التى تهدف فى الحقيقة إلى تشويه عمله أو ترويج اتجاه مضاد لفكره.
قال الحضور جميعاً: إن لك آراء وأفكارا كتبتها ونشرتها منذ فترة طويلة، لكنها بدأت تتردد فى مصر والعالم العربى عندما إعتنقها آخرون أو رددها أجانب من غير المصريين والعرب، وسكت النقاد عن ذلك كما نعرف، فهل لك أن تحدد لنا بعض هذه الأفكار، حتى تكون جلستنا ليلة ثقافية !؟ قلت: إليكم بعض النماذج:
(أ) فى عام 1973 نُشر كتابى “حصاد العقل” وهو يشمل قسمين أحدهما عن العقل الإسلامى وثانيهما عن العقل الغربى. وقد قرأ الكتاب المرحوم صلاح حافظ رئيس تحرير مجلة روز اليوسف آنذاك، فأبلغنى إعجابه به، وعرض القسم الأول منه على صفحتين من المجلة، ثم أمسك عن ذلك فلم ينشر أى عرض أو تعليق عن القسم الثانى، لأنى فى هذا القسم كنت قد انتقدت الماركسية، وجاء فيما جاء من نقد أنها لم تعمل ولا تعمل على أى تطبيق اشتراكى، ذلك أنها رأسمالية الحزب أو رأسمالية الطبقة الحاكمة، فيها كل عيوب الرأسمالية بالإضافة إلى عيوب البيروقراطية الإدارية، وهى من ثم أسوأ من الرأسمالية ذاتها، وأنها لابد أن تفشل وتتقوض عاجلا أو آجلا. وعندما سألت صلاح حافظ عن السبب فى عدم عرضه للقسم الثانى من الكتاب (وكنت أعرف بطبيعة الحال) ابتسم بلباقة وقال: مستحيل، إنك تهدم الماركسية هدما تاما. قلت له: وهل يمكن لشخص واحد أو لكتاب مفرد أن يهدم بناء ضخما كالماركسية، إنك بذلك تقلل من شأنها وتظهرها كطبل أجوف أو بناء هش، لا يصمد لأى نقد. زادت ابتسامته ولم يعلق، فأدركت أن انتماءاته الماركسية وصلاته بزملائه تمنعه من قول الحق أو نشره.
بعد ذلك وفى النصف الثانى من الثمانينيات، وعندما تهاوت الماركسية ثم انهارت وسقطت ردد الجميع ما جاء فى الكتاب قبل خمسة عشر عاما على الأقل، وذكرته وشرحْته وسائل الإعلام الأجنبية، فنقلته ونشرته وسائل الإعلام المصرية والعربية، وصار كأنه أمر مقرر منذ زمن بعيد.
(ب) من حوالى خمس عشر سنوات حضرت لزيارتى فى منزلى السيدة عائشة رافع المذيعة بإذاعة صوت أمريكا ومعها السيدة سلمى زوج الأستاذ رجاء (روجيه) جارودى، وقالت هذه إن زوجها قرأ باللغة الفرنسية ترجمة كتابى الإسلام السياسى، وأنه أعجب به ويرجو الحصول على نسخ من باقى كتبى لإستكمال الأطلاع على فكرى.
سألتها إن كان يقرأ بالعربية، فأجابت بالنفى. وأضافت أنها سوف تقرأ عليه الكتب فقرة فقرة ثم تترجمها إلى الفرنسية. سلمتها نسخا من بعض كتبى، مْنها أصول الشريعة وجوهر الإسلام والخلافة الإسلامية. منذ اثنى عشر عاما نشرت مجلة المجلة السعودية التى تصدر فى لندن حديثا طويلا لجارودى، لاحظ الكثيرون فيه مشابهة بل مطابقة لأفكارى التى نُشرت منذ زمن بعيد (أصول الشريعة نُشر 1979)، وكان ذلك على الأخص فى الأساسيات من فكر هذه الكتب مثل التفرقة بين الشريعة والفقه، وضرورة وضع تعريفات للألفاظ المستعملة فى الفكر الإسلامى، وتفسير آيات القرآن الكريم وفقا للظروف التاريخية أو تبعا لأسباب التنزيل، وفكرة أن الإسلام دين الجميع.
بعد نشر هذا الحديث عقّب عليه البعض، وكتب أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يقول إن جارودى قد تأثر بكتاباتى، وحذّر الناس (أتباع الإسلام السياسى بطبيعة الحال) منّى ومن خطورة أفكارى.
وفى المحاضرة التى ألقاها رجاء جارودى بمعرض الكتاب الدولى فى فبراير 1998 ردد أفكارى تلك، فتنّبه كثير من الأصدقاء والقراء إلى ذلك وعجبوا من الدعاية الضخمة التى أبرزت بها وسائل الإعلام المصرية آراء جارودى، مع أنها تلتفت عن المصدر المصرى وتتجاهل المنبع المنشور فى كتب منذ سنة 1973.
(ج) فى أول كتبى رسالة الوجود (1959) جاء فيه مامؤداه (تلخيصا) أنه لا يجوز مناقشة فكرة الجبر والإختيار بالصورة التى يجرى عليها الفكرى البشرى، ذلك لأن هذا الأسلوب يمكن أن يصح مع كائن خارج عن الكون، أما بالنسبة للإنسان فهو من الكون ذاته وهو الوجود نفسه، نما وتطور داخله، فتأثر به وأثّر فيه على نحو يستحيل معه أن تُستبعد الأسباب من النتائج لبيان طبيعة الإنسان بغير الآثار الكونية والأسباب الوجودية، شأن ذلك كالشخص الذى يُولد ويُربى ويكبر داخل القصر بذاته، فبينما يمكن بيان أثر نظام القصر على الغريب الذى يتكون خارجه ثم يجلب إليه، فإنه لا يمكن بيان أثر القصر على من نشأ فيه، لأنه تأثر بنظام القصر وأثر فيه حتى ليجوز له أن يقول: أنا القصر، كما يقول الإنسان: أنا الكون أو أنا الوجود (صحفة 40،41).
بعد ذلك بحوالى ثلاثين عاما، فى سنة 1988، كنت أقرا كتابا عنوانه:نقطة التحول (The turning point) للمؤلف ف. كابرا، وهو فزيائى يعمل على ربط الفيزيائيات بالكونيات فوجدته يقرر نصا ما كنت قد كتبته، إذ يقول إنه إذا اختلط الإنسان بالكون وتداخل فيه يحيث يمكنه أن يقول: أنا الكون، فإنه لا يمكن أن يوجد فى مجال البحث فكرة الجبر والإختيار، لأنه يكون آنذاك هو بذاته الكون وليس كائنا خارجيا عنه. أثناء أن كنت استكمل قراءة الكتاب اتصل بى مدرس من جامعة برنستون بالولايات المتحدة أراد أن يلفت نظرى إلى المشابهة بين ما كتبه كابرا وما كنت قد كتبته 1958، ولما عرف أنى قرأت ذلك فى الكتاب أضاف أنه كتب بحثا عن هذا الموضوع ومن له سبق التعبير عن الفكرة ليؤكد حقى فى ذلك. أما فى مصر، وفى العالم العربى، فلم ينتبه أحد إلى ذلك، وربما أن الذين قرأوا كتابى عدد قليل، لكن الراجح أن أحدا لم يتنبه إلى ما تنبه له المدرس الأمريكى.
(د) فى سنة 1985 تلقيت خطابا من هيلموت شميت المستشار السابق لألمانيا ذكر فيه أنه يكتب مؤلفا عن فترة عمله، وفيه قسم كبير عن مصر والصراع القائم بين العرب وإسرائيل، وأنه علم بتخصصى فى دراسة الدين المُقارَن، وهو يرجو أن أجد وقتا لأكتب له ملخصا عن العلاقة بين الشرائع الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.
لم أجد عناء كبيرا فى البحث، ثم كتبت له كتيبا عن الموضوع عنوانه (تطور الفكر الدينى، Development of religion) وطبعت الكتيب فى طبعة خاصة (300 نسخة) أرسلت اليه بنسخة، ووزعت باقى النسخ على عدد كبير من الجامعات الأجنبية والدارسين والباحثين (ثم تم نشر هذا الكتيب بأكمله فى كتاب Islamic Extremism Against ضد التطرف الإسلامى: كتابات محمد سعيد العشماوى، نشر مكتبة جامعة فلوريدا، فبراير 1998).
وفى سنة 1992 كنت قد بسطت فكر الكتيب، وأضفت إليه، وطبعته فى طبعة خاصة باسم (Religion For the Future) ثم عّربته تحت اسم: روح الدين. وسجلت الكتاب فى نصه الإنجليزى بمكتبة الكونجرس بتاريخ 3 يناير 1993. وتسجيل الكتب بمكتبة الكونجرس ليس عملا سياسيا. ولا هو يتصل بالإدارة الأمريكية بأى صلة، أنما هو لإثبات تاريخ الفكرة عالميا.
توزيع كتاب تطور الفكر الدينى، ثم تسجيل كتاب روح الدين فى مكتبة الكونجرس أتاح للمختصين الإطلاع على أفكارى (باللغة الإنجليزية)، ومكنهم من الحصول على صورة ضوئية من الكتاب المسجل فى مكتبة الكونجرس بعد دفع مبلغ زهيد، قيمة التصوير. بهذا شاع الفكر بين جميع المختصين بدارسة الدين، ودراسة تطور الفكر الدينى، ودراسة الفكر الدينى لدى قدماء المصريين (الذى اهتممت به كثيرا). ونتيجة لذلك ظهرت بعض الكتب التى إن لم يثبت أن مؤلفيها قد أطّلعوا على كتاباتى، فهذه الكتابات – على أقل تقدير – كان لها السبق الزمانى.
هذا ما لم ينتبه له ناقد مصرى أو كاتب عربى، لكن جريدة الأهرام المصرية عُنيت بأنن تنشر فى صفحتها الأولى بتاريخ 22 يناير 1998 تحت عنوان كبير موضوعا عن (الروحانية جوهر الحضارة الفرعونية) تشير فيه إلى صدور كتاب فرنسى عنوانه (مصر أم الدنيا) تضمن هجوما لاذعا على علماء المصريات المؤرخين لتجاهلهم المضمون الحقيقى لحضارة الفراعنة، حيث يؤكد مؤلفا الكتاب فرنسوا إكس هيرى وتيرى أنبل أن الرسالة الحقيقية للحضارة الفرعونية هى رسالة روحانية تتركز فى البحث عن الإله الحقيقى الذى عرف الفراعنة أنه إله واحد، وأن أعظم دليل على تأثير مصر فى كل الشرائع هو كلمة (آمين) التى تتردد عقب كل صلاة، وهى كلمة مصرية (تدل على الإله، وتعنى: الخفّى). وهذا ما ذكرتّه نصاً فى كتاباتى ونُشر فى مقالات بمجلة أكتوبر ثم نجد بعد ذلك قائلاً يقول: لماذا نتواصل مع الجامعات الأجنبية؟ يا سادة: إننا نعنى بمن يقرأ ويبحث ويعى، ولا يْبخس الناس أقدارهم.
ولا أريد أن أتزيد فأقول: إن شمس الفكر صارت تشرق من الغرب!
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة