(الصورة: رحيل محمد السادس، آخر خليفة عثماني، في العام ١٩٢٢)
خص الداعية «فتح الله غولن» الدولة العثمانية ببعض كتاباته وأحاديثه التي ننقلها من كتابه «أسئلة العصر المحيرة»، إذ دار نقاش طويل بين الأتراك مثل غيرهم حول مشاكل الدولة العثمانية والإصلاحات المطلوبة لبقائها، واستمر هذا النقاش بين المؤرخين الأتراك والعرب وغيرهم ولا يزال منذ هزيمة الدولة عام 1918، وإلغاء الخلافة نفسها بعد ذلك.
في السنوات الأخيرة، يقول غولن، كيلت تهم وافتراءات غريبة لا تخطر على الخيال ضد العثمانيين، حتى قال آخر «شيخ الإسلام» في الدولة العثمانية «مصطفى صبري أفندي» متألماً وناقدا الأتراك المستائين من الدولة العثمانية: «لا يمكن أن تشاهد أمة أخرى في تاريخ البشرية عدوة لأبنائها وأجدادها مثل أمتنا».
يقول غولن رداً على بعض نقاد الدولة العثمانية وخصومها، فهم يتساءلون لماذا لم يقم العثمانيون ببناء مداخن المصانع بدلا من بناء المآذن؟
«لا يملك الإنسان سوى الضحك من هذا السؤال الأحمق، لأن مداخن المصانع لم تكن موجودة آنذاك حتى في الأحلام. كان بناء الجوامع والمآذن أكبر بناء، لذا قاموا ببنائها، لقد كان العثمانيون سادة في زمانهم، كانوا من الذين يحافظون على التوازن الدولي ويؤسسون السلام الدولي ويستطيع من شاء إنكار هذا، ولكن رجال العلم المنصفين في الغرب يعترفون الآن بهذا».
ولا يشرح «غولن» هنا أوضاع الدولة العثمانية وتدهورها في سنواتها الأخيرة، فيما كانت دول الغرب تعيش نهضة علمية وصناعية وسياسية كاسحة، ويلجأ غولن، كسائر الإسلاميين في تحليلاتهم، إلى تحميل الغرب كل أسباب سقوط هذه الدولة، متجاهلاً كل العلل التي كانت تلتهم أحشاء تلك الدولة وتعجل بسقوطها، من تخلف مادي وتفكك سياسي وشتى ألوان القمع والعجز الأخرى المتراكمة على مدى قرون، والتي يعترف بها اليوم الأتراك والعرب وكل الباحثين المحايدين في وثائق الدولة العثمانية وتاريخها.
ويستخدم غولن لغة عاطفية فيقول: «إن العداء للعثمانيين نتيجة لاستغفال الغربيين لنا وللمقلدين عندنا الذين يقلدون الغرب تقليداً أعمى، فمثلاً أطلق الفرنسيون في وقت من الأوقات على السلطان «عبدالحميد الثاني» لقب «السلطان الأحمر»، وما لبث الصحافيون عندنا أن أخذوا هذه الصفة ونشروها في صحفهم بعناوين بارزة، أجل فجميع السباب والشتائم الموجهة إلى أبنائنا وأجدادنا إنما ترجمت من الغرب، لذا فتكاد جميع الألفاظ القبيحة المستعملة ضد عظمائنا تكون ألفاظا لقيطة لا نسب لها وأوروبية المنشأ، وكم كنا نتمنى لو أن هذه الأمة قدرت أسلافها كتقدير الأوروبيين لأسلافهم، ثم إننا لا نستطيع القول إن العثمانيين استغلوا الإسلام، ذلك لأن العثمانيين ارتبطوا بالإسلام وتعلقوا به في جميع عهودهم، في عهود قوتهم وفي عهود ضعفهم». (ص153).
لا يدرس الواعظ «غولن» عناصر قوة الغرب وأسباب ضعف الدولة العثمانية ومعاناتها، فقد كان من الصعب ولا يزال جذب اهتمام عامة الجمهور الإسلامي وحماسه بحديث تاريخي وعقلاني كهذا، فيما يسهل كثيراً إشعال المنابر والمايكرفونات والشاشات والمواقع الإلكترونية، بكيل الشتائم للغرب «ولأعداء الإسلام»!
يقول غولن مستطرداً: «كان العثمانيون متعلقين بدينهم حتى في أضعف أدوارهم. كانت هناك مسرحية قبيحة للكاتب الفرنسي «فولتير» يهاجم فيها رسولنا، صلى الله عليه وسلم، وكانت فرنسا تريد تمثيلها في المسارح في ذلك العهد الذي كان يطلق على العثمانية اسم «الرجل المريض»، ولكن هذا الأسد المريض عندما علم بوجود نية الهجوم على سيده ونور عينه زأر ضد فرنسا، حيث أرسل السلطان عبدالحميد الثاني– المتهم بأنه السلطان الأحمر، حاشاه- برقية إنذار لفرنسا قائلا فيها: «لو قمتم بتمثيل هذه المسرحية التي تستهدف رسولي-صلى الله عليه وسلم- ورسول جميع المسلمين فإنني سأثير جميع العرب وجميع المسلمين ضدكم».
ويضيف غولن: «كم كنا نتمنى أن يملك العالم الإسلامي مثل هذا الوعي وهذا الشعور، وقد أثارت هذه البرقية موجة ذعر في فرنسا، بحيث إنها لم تستطع تمثيل هذه المسرحية على مسارحها، وهنا أرادت إنكلترا تمثيل هذه المسرحية في بلدها فأرسل الأسد الجريح برقية إنذار لها فأحجمت إنكلترا أيضا عن تنفيذ نيتها وتراجعت عنها… هكذا كان أسلافنا الأماجد».
ثم يهدد غولن قائلا: «أجل! يجب إسكات الأصوات المنكرة المتعالية ضد الدولة العثمانية التي كانت ترتجف لو حطت ذرة تراب على لحية رسولنا- صلى الله عليه وسلم- فالدولة العثمانية تحتل محلا مرموقا في التاريخ الإسلامي بعد عصر الصحابة، لأنها قاتلت ستة عصور تحت راية الرسول- صلى الله عليه وسلم- وتحت راية القرآن. ألف ألف رحمة عليهم».
ومثل هذا الحديث مادة دسمة لإحدى خطب الجمعة أو الاحتفاء ببعض المناسبات الدينية، ولكنه لن يجعل الأتراك وعموم المسلمين أعمق فهما لأسباب سقوط الدولة العثمانية… فحقائق تاريخ الدولة العثمانية معروفة! وكم تشبه إشادة «غولن» بصدى برقية السلطان عبدالحميد الثاني «التي أثارت موجة ذعر في فرنسا»، بما يتفاخر به المتشددون الإسلاميون ويتباهى به الإرهابيون اليوم بعملياتهم في أوروبا وتهديداتهم لشعوبها… فالكل يعرف من سيدفع ثمن مثل هذه العمليات في المستقبل من فقراء المسلمين!
كل دارس للتاريخ يدرك أن قيام الإمبراطوريات والدول الكبرى وازدهارها ثم تدهورها وتفككها وسقوطها، كان من سنن الحياة الراسخة، ولا علاقة لها بالمؤامرات والمخططات التي يمكن أن تسقط وحدها دولا عظمى راسخة.
وقد عرف التاريخ إمبراطوريات عديدة في مصر والصين وبلاد فارس، وعاشت إمبراطوريات كبرى ردحا من الزمن كالإمبراطورية الرومانية، وهيمنت في عصرنا هذا دول كبرى كبريطانيا العظمى والاتحاد السوفياتي وغيرهما، ثم تراجعت وتفككت، دون أي رصد لمخطط تخريبي متعمد من اليهودية العالمية أو مؤامرات الماسونية، كما يولول الإسلاميون على ما جرى للدولة العثمانية، وقد رأينا رأي العين، وبالصوت والصورة، كيف وافق الإنكليز مؤخراً على تفكيك علاقتهم بأوروبا وربما إنهاء «بريطانيا العظمى» فهل هذا مخطط يهودي؟ ونرى كذلك دولاً كاليونان وإيطاليا كانتا مركز إمبراطوريات الإسكندر والدولة الرومانية العظمى التي هيمنت على أوروبا والبحر المتوسط وشمال إفريقيا والمشرق العربي، ولا تحلم شعوبها ولا تتباكى على «المجد الضائع» أو تحاول تعبئة شبابها لاستعادة أمجاد أثينا وروما، كما يفعل أتباع هوس الإسلام السياسي منذ أن سقطت الدولة العثمانية… بعد معاناتها من مرض طويل!
إن علل تدهور هذه الدولة وسقوطها بحث مستقل، لا مجال هنا للخوض فيه، ويكاد يجمع الباحثون في التاريخ العثماني مثلا، على الدور السلبي لتنافس نساء السلطان وأولاده الكثر منهن، على تسلسل الخلافة وكفاءة السلاطين، وكثيراً ما كان يرافق هذا الصراع في الحريم السلطاني قتل المنافسين من أقوى الإخوة المرشحين أو سمل أعينهم لإخراجهم من مجال المنافسة والأهلية للحكم، وهناك شخصيات نسائية اشتهرت بقوتها ونفوذها في مثل هذه الصراعات عبر التاريخ العثماني.
فكيف يتناول غولن موضوع الحريم في الدولة العثمانية؟
يقول: «إننا مرتبطون ومفتونون بالتقاليد المحافظة الإسلامية التركية الجميلة إلى درجة أننا لا نرتضي تشهير نسائنا أمام أنظار الآخرين، أما أدعياء التقدم المعارضون لهذا فلا يزالون يتخذون المرأة موضوعا للشائعات المتعلقة بالحريم.
لقد بدأنا منذ عهد «التنظيمات»- أي القرن التاسع عشر- نتلقى معلوماتنا حول الحريم لا من مصادرنا بل من المصادر الغربية، وكان هذا خطأ كبيراً. قبل أيام قلت لأحد الألمان: لن تجد قصة حريم واحدة قذرة أو خبرا عن حادث فحش حدث في حريم قصور السلاطين منذ فتح إسطنبول. لم يسمع أحد بمثل هذه الحوادث لا بسبب صرامة التدابير المتخذة، بل لأن حوادث الفحش لم تحدث في الحريم عندنا. إن ركن «الحريم» كان ركناً تفوح فيه رائحة الأزهار والورد وعطر الفضيلة والأخلاق، إن غرفة النوم عندنا مكان متميز، لأنها المكان الذي تتعين فيه الأنساب وتصان. أحد المواضيع التي تثار وتنتقد عند ذكر مسألة الحريم هو موضوع الجواري، فهن النساء الأسيرات في أثناء الحرب وكان المسلمون يأخذونهن إلى بيوتهم ويربونهن ويعلمونهن الطريق الموصل إلى سعادة الإنسان وكماله، ماذا يريدون منا أن نفعل بالأسرى الذين نأخذهم في الحرب؟». (ص 204-209).
هل يقنع هذا الدفاع العاطفي المؤرخين؟ وهل محور النقاش هنا مشكلة الحريم وتعدد الزوجات والأولاد والصراع المحتدم، أم أن القضية كما يناقشها الداعية «غولن» وضع الرقيق والجواري في الدولة العثمانية؟
وكبقية الإسلاميين وبخاصة الإخوان المسلمين، ينتقل «فتح الله غولن» إلى الدفاع بشدة عن «السلطان عبدالحميد الثاني»، الذي رفض تحديث الدولة العثمانية وانقلب على الدستور وسلط أجهزته التجسسية على معارضية، فأرسى دعائم الأنظمة الاستبدادية والفردية في العالم العربي.
يتبع
إقرأ أيضاً:
«فتح الله غولن»… وأسئلة العصر المحيرة
هل بين الأنبياء امرأة نبية؟ (2-2)
*
المرأة متى؟: ضغوط أوروبا أبطلت”عقوبة الردّة”.. مرّتين!