أنفقت ساعات في البحث عن معلومات حول الوضع في مالي، لعلها تُسهم في إلقاء الضوء على حقيقة ما يجري هناك. ولماذا مالي؟
لأن ما يجري هناك، هذه الأيام، يفسّر ما يجري وجرى في العالمين العربي والإسلامي. بمعنى آخر: التفصيل الصغير في الصورة الكبيرة يفسرها، كما أن الصورة الكبيرة تفتح ما استغلق فهمه في هذا التفصيل أو ذاك.
الخلاصة: نشأت في القرن العشرين كيانات جديدة أسهمت الكولونيالية في رسم حدودها السياسية، وكانت هذه تضم أقواماً وقوميات وجماعات لا تنسجم، بالضرورة، مع بعضها. وألقى التاريخ على عاتق النخب، بعد الاستقلال، مسؤولية صهر كل هؤلاء في أمة/دولة. وقد مُنيت هذه المهمة، ما عدا استثناءات قليلة، بفشل ذريع. ولهذا السبب، نشهد منذ عقود انفجاراً في الهويات، والحروب الأهلية، والاضطرابات في بلدان كثيرة.
لم تكن عملية، أو محاولة الصهر، شأنا داخلياً، بل تأثرت بالصراع بين الشرق والغرب في مرحلة الحرب الباردة وما بعدها، وكانت محكومة بشروط الإقليم السياسية، وحجم ما فيه من ثروات، وموقعه الاستراتيجي. الخ.
المهم، أن عملية تصدّع الكيانات محكومة بمدى قوّة السلطة المركزية: إذا ضعفت ازدادت، وإذا قويت كمنت. ولنا في موريتانيا، والصومال، وأفغانستان، والعراق، وليبيا، والسودان، والجزائر، واليمن، أمثلة حيّة. وهذه نماذج تمثيلية فقط. في البلقان شواهد، وفي العالم العربي وأفريقيا كيانات مرشحة للالتحاق بالقائمة.
والمهم، أيضاً، أن بروز التصدعات في هذا الكيان أو ذاك يتجلى بلغة العصر وتعبيراته وعلاماته السائدة. فلو كنّا في خمسينيات القرن الماضي، لكانت التمثيلات قومية، وطبقية، مرفوعة على ساعد تعبيرات يسارية وتحررية عالمثالثية. وبما أننا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فإن التمثيلات السائدة خاصة في العالمين العربي والإسلامي، إسلاموية في الغالب. وفي الحالتين وراء التمثيلات الأيديولوجية حقائق سوسيولوجية، وسياسية، أكثر صرامة وصلابة من التبسيط الأيديولوجي، والاختزال الشعاراتي.
الفرق في التمثيلات بين زمنين لا ينفي حقائق من نوع: أولا، أن للتمثيلات حاضنة محلية، لكن معامل إنتاجها، وتفريخها، وتسويقها، إقليمية ودولية. وثانياً، أن التبسيط الأيديولوجي والاختزال الشعاراتي يخفي، دائماً، حقيقة تمفصل الجهوي والطبقي والطائفي والمذهبي والقومي، وتداخل وتدخل الإقليمي والدولي. ففي كل منها ما يحيل إلى مكوّن آخر: يحجبه، ويصادره، وينوب عنه، ولا يتورع عن ارتداء قناعه، خاصة مع انحلال وتحلل السلطة، وانتقال حالة التصدّع إلى مرحلة أعلى. وثالثاً، أن التفاؤل الدولاني، عشية الاستقلال، تحوّل في ظل فشل عملية الصهر إلى نوع من التشاؤم التاريخي، والميول الانتحارية المسكونة بأوهام واستيهامات وغواية ما قبل الدولة الحديثة، حيث الهوية “الأصلية” في مرحلة البراءة الأولى، قبل هجوم التاريخ والآخر والأفكار الغربية والغريبة.
بمعنى آخر: يفتح انهيار مشروع الصَهر، معطوفاً على تدخلات إقليمية ودولية، ومرفوعاً على ساعد تمفصلات محلية، الباب أمام سيادة وتسيّد الاستيهامات الانتحارية، بما يهدد مجتمعات كثيرة بالويل والثبور وعظائم الأمور. وهذه هي سمة الزمن الحاضر. زمن الكتائب، والقاعدة، ومجالس شورى المجاهدين، والطالبان، وأنصار الدين والشريعة. وكلها كما يلاحظ القارئ تسميات لجماعات مسلحة، ويمكن مقارنتها بتسميات سادت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مثل الجبهات الشعبية، وجيوش وحركات التحرير الوطنية، والأحزاب العمالية، والثورية والطليعية، لإدراك الفرق بين زمنين. (الثورات العربية تعيد التفاؤل التاريخي إلى الواجهة، لكن مشوارها طويل).
على أية حال، هذه هي الصورة الكبيرة، والتي يمكن العثور فيها على ما يفسّر التفصيل المالي الصغير. ومن العبث، بالتأكيد، تكرار ما تتناقله وسائل الإعلام هذه الأيام عن التدخل الفرنسي في مالي، وعن احتجاز رهائن في منشأة جزائرية للنفط، ناهيك، طبعاً، عمّا يقوله “المختصون” في شؤون الجماعات الجهادية والحركات الإرهابية على شاشات التلفزيون. فكل هذه الأشياء متوّفرة، ولا تمثل الموضوع الرئيس في هذه المقالة.
المهم، بقدر ما يعنيني الأمر، أن “جماعة الملثمين”، التي تبنت الهجوم على المنشأة النفطية الجزائرية أطلقت على عمليتها اسم “غزوة عبد الرحيم الموريتاني”. وقد عثرتُ على الإنترنت على معلومات تفيد بأن المذكور يدعى الطيب ولد سيدي عالي، وقد توفي في حادثة سير. والمهم، أيضاً، أن وكالات مختلفة للأنباء ذكرت أن جماعة الخاطفين تضم أشخاصاً من ليبيا وتونس وسورية ومصر ومالي واليمن. وهنا، بيت القصيد، الذي نعود به ومعه إلى حقيقة أن معامل إنتاج وتفريخ وتسويق تمثيلات انهيار عملية الصهر في دولة/أمة هي إقليمية ودولية في آن، وأن هذه المعامل نفسها هي التي تسهر على تربية ورعاية الحاضنة المحلية، وملحقاتها من الدفيئات الجهادية. وفي هذه وتلك يتمفصل الجهوي والطبقي والطائفي والمذهبي والقومي، معطوفاً على الإقليمي والدولي بعدما تم تبسيطه أيديولوجياً، واختزاله شعاراتياً، في الإسلام السياسي.
وبين هذا وذاك، ومع هذا وذاك، تتصدّع كيانات، وتُزهق أرواح، وتُراق دماء، ويفقد ملايين من البشر حياة الأمن والاستقرار: لأن حاكماً هنا أو هناك يريد أن يكون خليفة للمسلمين، أو صاحب دور أكبر من حجمه في السياسة الإقليمية والدولية، ولأن لدى هذا وذاك أكثر من داعية ومحطة تلفزيون وجمعية “خيرية” ومصرف ووكيل، ولأن تاجراً للسلاح، أو الدين، يريد أن يضاعف ثروته أو شهرته، ولأن بندقية للإيجار تبحث عن مسرح للقتال، ولأن نخباً سائدة فشلت في صهر أقوام، وقوميات، ومستحاثات أركيولوجية، في دولة/أمة، ولأن شركات النفط والطاقة ترى العالم بحجم رصيدها في المصارف.
عالم الفقراء رقعة شطرنج، وكل ما عليها بيادق، بما فيهم عبد الرحيم الموريتاني وغزواته. لكل دولة تتصدّع أنصار دينها ودعاتها وغزاتها، ولكن غالباً ما يتناسى المعلقون أناسها الذين يحتاجون الدواء والماء والكساء والتعليم والخبز والمسكن أكثر من حاجتهم إلى أنصار الدين، قبل غزوة عبد الرحيم الموريتاني وبعدها.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني