غزة ـ يوسف بزي
ما لا يعرفه أغلب العالم والمتابعين لمشكلة غزة أن الأنفاق المحفورة ما بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية تعود الى أكثر من أربعين عاماً، الى ما بعد حرب 1967 مباشرة، حين خسرت مصر سيطرتها على القطاع الفلسطيني.
حينها التقت ارادة المهربين من البدو، ورغبة “المناضلين” الفلسطينيين بإطلاق مقاومة ضد الاحتلال، وسعي مصر الناصرية، عسكرياً ومخابراتياً، للإتصال بغزة، خصوصاً في المرحلة التي عرفت باسم “حرب الاستنزاف”.
الانفاق ليست اختراعاً جديداً، وان عرفت ازدهاراً غير مسبوق في الآونة الأخيرة، وليست وليدة الحصار المفروض على غزة منذ سنتين. والنشاط فيها لم يتوقف منذ أربعة عقود، وهي ليست مدار صراع بين “حماس” واسرائيل فقط، فهي كانت محل تنازع (منفعة وسيطرة) بين الجمارك المصرية والمهربين، بين حرس الحدود الاسرائيلي ومنظمة التحرير، ثم كانت موضع تنافس بين المهربين وفتح وحماس والأمن المصري والمخابرات الإسرائيلية.
لم يحسم الصراع على الأنفاق إلا في الآونة الأخيرة، إذ تم إقصاء “فتح”، وقبل ذلك خرجت اسرائيل من القطاع وبالتالي بات هناك سيطرة مستقرة وواضحة: المخابرات المصرية عند جانب سيناء ومليشيا “حماس” عند جانب غزة. أما المهربون فارتضوا ان لا يعملوا لحسابهم الخاص بل هم في خدمة الطرفين المسيطرين.
معضلة الانفاق لن تتوقف حتى ولو فتحت جميع المعابر، حتى ولو سمحت مصر واسرائيل بـ”حرية العبور والتنقل” و”حرية نقل البضائع”، لأنها ببساطة حاجة اقتصادية ومصدر ربح مالي هائل، ناتج عن وجود غزة في قلب تفاوت اقتصادي مالي بين مصر واسرائيل.
ما لا ينتبه له الكثيرون ان الأنفاق هي وليدة هذا “التفاوت”، وان غزة مرتبطة بالاقتصاد الاسرائيلي (عملة القطاع هي الشيكل)، فمثلاً يصل سعر ليتر المازوت (ويسمى هنا السولار) الاسرائيلي في تل أبيب أو في خان يونس، لا فرق، الى نحو دولار أميركي واحد أو أكثر، بينما سعره في مصر لا يتعدى الثلاثين سنتاً، لذا فتهريب النفط من سيناء الى غزة (والى اسرائيل) يشكل مصدر أرباح هائلة. ويمكن القياس على ذلك في الخضار والكهربائيات وقطع الغيار والمعلبات وكل أصناف البضائع.
وهناك الآن ليس أنفاق، بل أنابيب تهريب نفط كبيرة، لا تحتاج الى جهود حفر ولا الى عمل كثير، ممتدة بين مصر والقطاع.
وما اكتشفناه أيضاً هو تهريب الكهرباء المصرية!، وبيعها في غزة بأسعار لا تصل الى نصف سعر الكهرباء التي ينتجها معمل غزة الحراري. ولذلك حتى مع توقيف المحطات وتدمير المحولات وتعطل المعمل بقيت الأنوار في مناطق واسعة من جنوب غزة اثناء الحرب… والسبب هو الكهرباء المهربة من رفح المصرية.
ليست الأنفاق مخصصة للسلاح كما نظن، وليست مخصصة لاحتياجات الناس الضرورية فقط وليست ابتكاراً طارئاً بسبب الحصار فحسب، فهي كانت أيضاً وسيلة لتهريب البشر. إذ قبل سيطرة “حماس” عليها بالكامل كانت تستخدم لتهريب الآتين من أفريقيا الى اسرائيل، من النيجر وجنوب السودان وأثيوبيا الخ.. كانوا يأتون الى مصر ليعملوا أشهراً معدودة يدخرون خلالها مالاً يكفيهم لدفعها للمهربين الذين يتولون نقلهم عبر السياج او الانفاق ليعبروا الى اسرائيل من غزة، وحتى الفتيات الروسيات ظل أهل القطاع يروهن منذ منتصف التسعينات الى العام 2005.
موظف في “بنك فلسطين” أشار الى أن اقتصاد الأنفاق “يشفط” الشيكل الاسرائيلي والسيولة النقدية باتجاه مصر ويسبب خللاً مالياً كبيراً للقطاع، ويخلق اقتصاداً موازياً خفياً ما بين اسرائيل وعملتها، والقطاع وقدرات سكانه الشرائية، ومصر ورخص بضائعها ومهربيها.
هذا الاقتصاد اللاشرعي يشكل اليوم “قوة” مالية لحماس التي تقبض ثمن “تأجير” النفق، وثمن “رخصته” علاوة عن الضريبة “الجمركية” التي تفرضها على كل غرض يأتي من النفق مهما كان نوعه.
بقدر ما هي أنفاق “مقاومة” هي أيضاً وبالتأكيد أنفاق “مقاولة” و”مضاربة”… وقد تكون كلمة “أنفاق” مشتقة هذه المرة من ذات الكلمة بلا “ألف” في مبتدأها.