بيروت – حازم الأمين
الوسط التجاري لمدينة بيروت يحتضر بفعل الحصار الذي ضربته المعارضة اللبنانية حوله. كل يوم نشهد إقفال متجر فيه. «كافيه نجار» غادر في الأسبوع الفائت، وكان «كاسبر اند غانبيني» افتتح زمن الإخلاءات وانتقل الى منطقة فردان. المقاهي صارت قليلة جداً، وسبقتها في المغادرة شركات كانت تقيم في الطبقات العليا من المباني. اما سكان الوسط التجاري او رواده والعاملون فيه فصاروا نادرين، يتوجهون في الصباح الى مكاتبهم ومقاهيهم القليلة، صامتين ومتجهمين. الجنود اكثر العابرين، وهم بوجوههم المبتسمة لم يتمكنوا من بث روح في تلك الشوارع. اما المعتصمون الرابضون في الجزءين الجنوبي والشرقي من الوسط التجاري، فخيمهم اكثر حضوراً منهم. إذ من الواضح ان الوسط التجاري اليوم هو ضحية معركة رمزية بين الموالاة والمعارضة في لبنان، وهي رمزية لا تخلو من عنف.
وظيفة خيم المعتصمين تفوق وظيفتهم أهمية. اذ يمكن هؤلاء المغادرة الى منازلهم (وهم يفعلون ذلك يومياً) وإبقاء خيمهم لتقوم بالوظيفة التي جاؤوا من اجلها، والتي تتمثل بإسقاط الحكومة. والجميع يعلم، لا سيما أصحاب المتاجر المتقهقرة في الوسط التجاري ان المعتصمين فشلوا في إسقاطها، واستعاضوا عن هدفهم بالبقاء في الوسط التجاري وتعطيله، بصفته وجه الحكومة الأهلي. فالمعركة التي تخوضها المعارضة في لبنان في وجه الوسط التجاري لبيروت، تخوضها مستعيضة فيها عن نصر أكبر. تبدو هذه المعادلة على قدر من العسف من وجهة نظر أصحاب المؤسسات. فهؤلاء الذين تعتبرهم المعارضة جزءاً من القاعدة الأهلية للحكومة، ليسوا اكثر من مواطنين استثمروا رؤوس أموال متفاوتة في مشاريع بدت خلال العقدين الفائتين نافذة استثمار جذابة.
بدءاً من الساعة الخامسة مساء يقفر الوسط التجاري لبيروت هذه الأيام. الحركة الخفيفة والبطيئة التي تدب صباحاً تنعدم نهائياً في ساعات المساء الأولى. فقط حراس من انواع مختلفة يحرسون مباني خالية. جنود المجلس النيابي، وعناصر شركات الأمن، وفي مربع المعتصمين، يقف عناصر الانضباط قرب مواقد أشعلوا فيها نيراناً ليتدفأوا. اما مرور شابة او سيدة في هذا المشهد البائس فلا يؤدي الا الى مضاعفة الوحشة، اذ يتولى هذا العبور المختلف تذكيرنا بماضي هذه الشوارع القريب.
مئات وربما آلاف من العمال صرفتهم المؤسسات التجارية المتقهقرة في الوسط التجاري. مؤسسات اخرى استعاضت عن الوسط بالانتقال الى الأشرفية او الحمرا او فردان. «كاسبر» افتتح فرعاً في منطقة فردان، كذلك فعل «بوانتور». حياة كاملة تسعى الى الانتقال، او تبحث مجدداً عن محط رحال. فالمعركة التي تخاض هنا لم يختر اطرافها هذه المنطقة مصادفة. ثمة مضمون سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي لهذا الاختيار. المصادفة تتمثل فقط في ان فلاناً اختار قبل سنوات الوسط التجاري ليستثمر فيه رأس مال جمعه من هجرة او إرث او ادخار، فتحول جزءاً من مجتمع الحكومة، وهو حين فعل ذلك لم يكن يدرك انه صار جزءاً من هذا المجتمع، اذ ان كثيرين من هؤلاء كانوا يعتقدون أنفسهم معارضين فإذا بهم غير ذلك.
حين يتعاون «حزب الله» والتيار العوني على تحويل الوسط التجاري لمدينة بيروت الى ساحة اعتصام لا تحتمل أي نشاط آخر، علينا ان نتوقف عند ذلك. انهما يخوضان معركة اخرى غير معركة المشاركة في الحكومة. انه الوسط التجاري بصفته نواة المشروع الإعماري في الجمهورية الثانية. المرآة التي تحمل المعاني الاقتصادية والتقاطعات الاجتماعية لتلك الجمهورية. معركة إسقاط الحكومة فشلت، لكننا هنا حيال معركة اخرى. معركة يستعاض فيها عن الوقائع والأحداث بالرموز والإشارات. المستهدف هو المعنى الذي خلفته الحقبة «الحريرية»، والضحايا كثيرون ولكن ليست الحكومة بينهم. من جهة، «حزب الله» الذي يشعر باختلال أعقب الانسحاب السوري من لبنان لم يعد يلزمه بالتوازنات التي أرستها معادلة ما بعد الطائف، ومن جهة اخرى «العونية» بصفتها امتعاضاً مسيحياً من تقدم «الحريرية» وتصدّرها. الوسط التجاري مسرح لترجمة الانفعالين.