في سوق الابل غير الرسمية، بأرض الجنادرية، التقيتهم الصيف الماضي مجتمعين تحت سقف أحد خيام الاستضافة. كانوا مجموعة مواطنين من قبيلة عتيبة، جمعتهم التجارة والهواية الى بيع أو اقتناء الابل. هم ليسوا بدوا من الناحية النظرية، اذ لايعيشون أي حياة بداوة أو تنقل، بل انهم شبه حضر؛ في استقرارهم بالمدينة وركون أغلبهم الى حياة الدعّة والترف، فيما يخضع غالبيتهم لنظام اجتماعي يربط أفراده بالأنساب وعلاقات الرحم والتكتل القبلي )ضمن ما يسمى Clans لا Tribes). كان شغفهم الأصيل بالابل، ونظرتهم الفلسفية والجمالية اليها، تلفت الانتباه وتفرض الاحترام، بل وتستبين اتصالهم بالعرب القدامى، خصوصاً مما ورد الينا من شعر المعلقات، حيث استحوذت الناقة على مكانة مركزية في شعر طرفة والنابغة والأعشى ولبيد. ما يجعلك تبادر الى طرح السؤال، ما المانع من احتفاء أي فئة اجتماعية بأيِ من مظاهرها الثقافية/الفلكلورية؟
ابان فورة النقاشات الوطنية التي كان يدور رحاها على أروقة منتديات الشبكة الالكترونية في مطلع 2002، اقترح أحد الأطراف الحوارية الفاعلة، والتي سيصادف أنها ذات تأثير واضح ضمن قبيلة عنزة بن وائل، أن تُلغى ألقاب القبيلة من بطاقات الهوية والأوراق الرسمية، في معرض رؤيته لمعالجة قيم العقل التجزيئي الصاعدة. فكان أن شهد ذلك الاقتراح معارضة فورية من المتحاوريين. والحق، ان ذلك علاج سطحي لمقاربة تشهد قلقاً متزايداً. فالقيم التجزيئية لا تختفي بتغير طابع الأشياء أو مسمياتها، بل بتغيّر الآلية التي تحكم علاقاتها، أي بتغيير يمس بنيتها وتركيبتها.
ونحن ألغينا في السابق أسماء الاقاليم الجغرافية، اعتقادا بضمانها كوقاية استباقية من مضاعفات العقل التجزيئي. بيد أن التجربة أثبتت خلاف ذلك، اذ لا دخل لشيوع القيم التجزيئية أو السلوك الانقسامي ببقاء الأسماء أو زوالها. فالتجربة الوحدوية مضت فيما استمرت بداهة تداول أسماء الأقاليم على المستوى الشعبي، كونها أسماء محفورة في الوجدان والذاكرة الجمعية، وتفيض بها وثائق التاريخ والسياسة، وكشوفات الجغرافية والجيولوجية، ونصوص الأدب والشعر القديم. وعلى ذات القياس فإن الغاء اللقب القبلي أو العائلي، من هوياتنا، لن يجدي، بل انه ليس حلاًً لما يقلقنا ، فقيم العقل التجزيئي لا تختفي بتغير طابع الأشياء أو مسمياتها ، بل باصلاح يضرب بنيتها وأنساقها الحاكمة.
ان الاحتفاء بالمظاهر الاجتماعية/الاثنوغرافية المتنوعة، أو ابراز المكونات الثقافية/الفلكلورية المختلفة التابعة لموروث المناطق والفئات الفرعية، أمر مشروع في أصله، وصائب في تمظهراته اذا ما عبر عن نفسه بوسائل ثقافية ومعرفية مقننة، وُظفّت ضمن المكون الوطني العام. وتوثيق الأنساب، كما تدوين تواريخ وأنثروبولوجيا المناطق والقبائل والفئات، لابأس به لأنه يحفظ القيمة ويشيّد المعنويات، ولكن خروج عملياتها على شروط وضوابط الموضوعية العلمية، انما يرشح ظهور خطاب الفخار وتقديس الذات ومبالغة كل طرف في شرفه، ما يعني بروز العنعنة التي تمارس الفصام، كما كان يقول أستاذنا محمد حسين زيدان، مما يُوجب حفز المراقبة والتقنين.
والانتماء لأي هوية فرعية ليس مذموما في أصله، طالما امتثل أفرادها الى المرجعية الوطنية وكان هناك وعياً بأولويات الولاء، وشروط التعاقد في الدولة الحديثة. بمعنى أن القبيلة في أصلها لا بأس بها كتنظيم اجتماعي، متى ما تحررت من انتاج النسق الانقسامي فيما يسمى بانبعاث الروح القبلية أو العصبية القبلية، واذا ما حدّثت من بنيتها التقليدية في قسرية الخضوع لسلطة مؤسستها أي حضورها وفق تراتبية ونظام أبوي صارم. وهكذا نرى أن أغلب المسائل ليست مذمومة في أصلها أو طابعها، بل في بنيتها وتركيبتها السائدة.
في استحضار للمحددات التاريخية التي حكمت العقل السياسي العربي في الماضي ومازالت تحكمه بصورة أو بأخرى؛ أو “القبيلة والغنيمة والعقيدة”، كما حددها الباحث محمد عابد الجابري في مشروعه في نقد العقل العربي، رأى –الجابري- أن عودة انبعاث تلك المحددات والبنى التقليدية بالمجتمعات العربية، إنما يعود لسطحية الإصلاحات التحديثية التي طُبقت، ولغياب المفهوم الواسع للمجتمع المدني، والإخفاق في تنمية التنظيمات الأهلية التي تملأ الفراغ السياسي والاجتماعي، فكانت النتيجة الموضوعية من عودة المكبوت –غير المقنن- إلى السطح.
الاصلاح الجوهري الذي يمس الأنساق القيمية والثقافية ويعالج البنى الاجتماعية والهياكل الاقتصادية والقيم الحاكمة لمؤسسات القبيلة أو العائلة، بامكانه أن يغير من أنماط الوعي بالمكون التقليدي والموروث، عبر احداث قطيعة معرفية معها، “ولا يعني الأمر هنا الانفصال الكلي عن التراث ذاته بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث، أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، المقوم الجامع بينها كشخصية أعم، هي شخصية الأمة صاحبة التراث” كما يذهب الجابري دائماً.
ذلك الموقف يضمن الحفاظ على الموروث أي على ذاتنا وأصالتنا الحضارية والوجودية، كما يؤنسن محددات ذلك الموروث ويقنن أشكاله كي تصبح مكوناته حافزاً للتقدم والسلم الاجتماعي لا عائقاً لحركية المجتمع وانفتاحه.
ان تغيير القيم التي تؤطر أشكال وأنماط العلاقات الاجتماعية وأنساق السلوك السائدة ليست هي محصلة لتغير في وعي الأفراد فحسب، وانما بنفس القدر هي نتاج لتغيرات في الوعي الحاكم لمنظومة العلاقات التاريخية التي تربط بين فئات المجتمع فيما بينها البعض، وبينها جميعها كمجتمع انتقالي والنظام الاقتصادي الرأسمالي.
هذا يبرز ضرورة استنهاض مجتمع مدني فاعل، يجمع بين برديه الخليط المتنوع من الثقافات الفرعية والاختلافات الاجتماعية؛ القبلية مقابل غير القبلية، الحضرية مقابل البدوية أو الريفية وهكذا، وضمان قيامه بمقومات الاستقلالية والاستمرارية وتحرير الآليات، كي لا تستحيل مؤسساته الى “مؤسسات تضامنية تعمل كامتداد لأجهزة الدولة” كما يذهب خلدون النقيب، في معرض اشارته لصيغة المجتمع المدني الهشّة في أغلب الحالات العربية ، والتي لا تؤدي أي من أدوارها المفترضة.
ناهيك طبعاً عن ضرورة استحداث المزيد من الاصلاحات فيما يخص بنية الاقتصاد، ليكون منتجاً لا ريعياً؛ أي غير مقتصر على معاملات التجارة، ومحررا من أي نشاط طفيلي يعرقله عن اللحاق بالنموذج الاقتصادي العالمي.
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
عودة المكبوت (1 من 2): لماذا عادت ناقة القبيلة؟
محمود عبد الغني صباغ