يمثل وصول البرادعي الى مصر نقطة مضيئة في واقع صعب شديد التناقضات. لكن قد تكون عودة البرادعي مجرد مؤشر الى عودة الروح الى مصر. البرادعي شخصية دولية و مصرية، وهو يمثل اقلية صغيرة من العرب ممن فازوا بجائزة نوبل، ولكن الاهم الان انه يفكر بتحويل مصر الى بلد مدني حديث منتج يعتمد دولة القانون. فهل ينجح البرادعي في ان يكون رئيس لجمهورية مصر، فيفتح مسمات التحديث والتجديد والبدء ببناء دولة مدنية تحرك مصر نحو مرحلة جديدة من التطوير والاصلاح؟ هل ينجح البرادعي في استعادة روح مصر بما فيها دور مصر الاقليمي؟
تواجه البرادعي معوقات عديدة في الوصول لموقع الرئيس. فهو يواجه دستورا يمنعه بالاساس الترشح لموقع الرئاسة، فشروط الترشح للرئاسة تتطلب عضوية قيادية في احد احزاب مصر لمدة عام او الحصول على تأييد ٢٥٠ عضو منتخب في مجلس الشعب والشورى. الشروط الراهنة صعبة وتتطلب تعديلا. لكن المشكلة الثانية مرتبطة بمدى رغبة الرئيس مبارك البقاء في الرئاسة لمدة اضافية مما يدفعه للترشح مجددا. هذا يمثل ايضا تحديا امام البرادعي.
ويواجه البرادعي الحزب الوطني الديمقراطي وهو حزب السلطة الذي يتمتع بالكثير من الامتيازات والقدرة على التحكم بالاوضاع. ويواجه البرادعي ايضا سلطة الجيش والامن والتي هي حتى الان سلطة اساسية في حكم مصر. فمصر لم تعرف حكما وطنيا محليا الا مع الضباط الاحرار والجيش عام ١٩٥٢ . ولكن منذ ذلك التاريخ لم يحكمها احد من خارج المؤسسة العسكرية. لهذا فالبرادعي ان نجح في الوصول الى سدة الرئاسة سيكون اول رئيس مصري مدني في تاريخ مصر. والواضح ان المؤسسة العسكرية المصرية قد خاضت نقاشات عدة حول المستقبل، وانها تميل الي البقاء خارج السلطة واللعبة السياسية المباشرة. لكن ذلك سيكون ضمن حدود.
مهمة البرادعي قد تكون مستحيلة، ولكن اليست المهام المستحيلة هي التي تتحقق في بعض الاحيان فتختصر لشعوب وامم الكثير من المعاناة؟ الم يكن توجه اوباما لرئاسة الولايات المتحدة امر مستحيل في بداية سعيه؟ لماذا لا يكون توجه البرادعي لرئاسة مصر هو الاخر تحقيق لفكرة جاء دورها ولمهمة طال انتظارها في مصر؟
البرادعي الذي عاش خارج مصر سنوات وعقود قد يكون الانسب لمصر، فمصر بحاجة لمن عاش التجربة العالمية من اوسع ابوابها وتعامل مع ازماتها ويمكنه النظر الى مصر بأعين جديدة وبتوقعات مختلفة. لنتذكر ان البرادعي رجل ازمات صعبة، وهذا ما تحتاجه مصر المكونة اليوم من اكثر من ٨٠ مليون مواطن خاصة وهي تواجه اكبر الازمات امامها : ملايين المصريين العاطلين عن العمل وملايين الشبان والشابات الباحثين عن العمل.
الذين يعرفون مصر في الخمسينات او السبعينات يعرفون جيدا ان مصر لعبت دورا كبيرا في قيادة الفكر والغناء والفن والادب والسياسة والابداع. ولكن بسبب ازمات كثيرة فقدت مصر ما كان يميزها، واصبحت تبدو طاقة معطلة تعمل بربع قدراتها. مصر اكثر الدول العربية ثباتا من حيث التاريخ وقوة الدولة وموقعها. من مصر انطلقت حركة التنوير العربية القديمة( ومن لبنان ايضا) ومنها انطلق تيار الاخوان المسلمين، ومنها انطلقت القومية العربية الحديثة. موقع مصر بحكم التاريخ، والحجم، وعدد السكان والمساحة والمكانة يبقى اساسيا في التركيبة العربية. لهذا فصلاح مصر سوف يعني صلاح العرب بنفس الوقت.
قد نجد الكثير من الاعذار لتراجع مصر، فنحن نعرف ان السادات حاول ان يسير في طريق الانفتاح والاصلاح الاقتصادي، لكنه لم ينجح في الاصلاح السياسي، كما ان السادات بعقده سلام مع أسرائل خفف على مصر الكثير من الاعباء الاقتصادية، لكن ذلك ادخل مصر في نفق اخر في العلاقة مع الولايات المتحدة واسرائيل والمنظومة العربية. ان مقتل السادات ادخل مصر في مأزق امني طويل الامد، فمنذ ذلك الوقت ومصر تعاني من حكم الطوارئ ومن قضايا امنية . وهذا بطبيعة الحال ابعدها عن طريق الابداع والاصلاح الذي يتطلب استقرارا، وانفتاحا، وتنوعا، وسعيا للتجديد.
الواضح ان طريقة مصر تختلف عن بقية العرب. المصريون اكثر العرب استعدادا للاصلاح، واقل العرب سعيا للعنف والثورة. رغم بعض مظاهر الغضب والعنف الا ان تاريخ مصر يؤكد تفضيل المصريين للتغير الهادئ على الصاخب وللاصلاح المرحلي على الثورة الكبرى. المناخ المصري يختلف عن العراقي والايراني والليبي. في مصر وقع اول انقلاب بلا سفك دماء عام ١٩٥٢، وفي مصر يعود البرادعي باستقبال كبير. الفرص امام مصر كبيرة، فهل يتم اقتناصها؟
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت