الحلقة الأولى من النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها المفكر السوري الدكتور عبد الرزاق عيد في باريس بدعوة من لجنة إعلان دمشق في فرنسا تحت عنوان: عوائق الديموقراطية في العالم العربي (سوريا نموذجا)…
الديموقراطية قرينة الحرية ونتاجها الاشتقاقي، أو لنقل: هي تمثيل وتمثل للحرية في ساحة السياسة..
ساحة السياسة (مبدأ التفاوض والحوار )، ولدت كبديل عن ساحة الحرب (مبدأ تحطيم الآخر)، وظل الاشتباك بين هاتين الساحتين حتى لحظتنا الراهنة، حيث بمقدار ما تتسع ساحة السياسة: حرية وديموقراطية وحوارا وتعددا وتسامحا وقبولا بالآخر، بمقدار ما تضيق ساحة الحرب: على مستوى الأفراد والشعوب، وعلى مستوى علاقات القوى والمجموعات والمكونات للمجتمع والدولة الواحدة، وصولا إلى ساحات الحروب على المستوى علاقات الدول عالميا.
وفي المقابل إذا كانت فكرة العدالة هي المثل الإنساني حيث معادلها (الحكمة والرشاد) في العصور القديمة، وعلى هذا فقد اصطلح العرب المسلمون على اعتبار أن (الخلافة الراشدة) هي الذروة العليا للمشروعية التي تجسد اللحظة المثالية في تاريخ مسارهم السياسي نحو العدالة وعمادها والمساواة،، حيث كان على الرشاد البشري أن يرتقي سموا ليحل محل صدوع أمر الوحي النبوي بالحقيقة من أعلى، وذلك بعد وفاة النبي، حيث لابد عند الانتقال من زمن النبوة الموجهة سماويا إلى زمن الممارسة البشرية، من أن تتخلق هذه الممارسة بأخلاق النبوة (رشدا ورشادا) واجتهادا وتأويلا لفحواها الإلهي بعد أن توقف وحي السماء برحيل متلقيه المصطفى.
نقول: إذا كانت (العدالة) بمعادلها (الرشيد) كثفت المثال الإنساني خلال حقبة تاريخية طويلة، فإن العصر الحديث سينتقل بمثال (العدالة) نقلة نوعية على طريق تحققها، حيث سينمذج مثاله الإنساني في فكرة (الحرية)، ومعادلها السياسي في الديموقراطية كتتويج فعلي وأكثر ملموسية واقعية لتحقيق العدالة التي شغلت البشرية منذ فجر التاريخ، فإن اكتشاف عصرنا المميز للعصر هو في توصله إلى أن (العدالة بلا حرية) مستحيلة، ولا يمكنها في أحسن حالاتها-بدون الحرية- أن تنتج سوى مساواة في العبودية عندما تلغى الفروق والتمايزات المؤسسة لفلسفة الفرد لصالح القطيعية (الرعية- الرعوية).
وعلى هذا فإن حلم البشرية في (العدالة) ظل يبحث عن الحاكم الرشيد القادر على تحقيق العدالة، فعرف التاريخ البشري الكثير من الشخصيات العظيمة الراشدة في ممارستها الحكم على طريق تحقيق حلم العدالة،حيث ثمة لكل الأمم في تاريخها رموز لصورة الحاكم العادل، لكن الظلم بقي –مع ذلك- هو الأقوى والمتغلب…
مع لحظة الحداثة،العصر الحديث، اكتُشف أن مسير ومصير العدالة أهم بكثير من أن تناط بمصير فرد مهما جل شأنه، وأعظم شأنا من تختصر في البحث عن هذا الفرد (المستبد العادل )، فلا بد إذن من مبدأ (الحرية) لتحقيق مبدأ (العدالة)، فكانت الديموقراطية بمثابة التطبيق الإجرائي لمبدأ الحرية من خلال الانتقال بفكرة العدالة من الفرد إلى المؤسسة عن طريق التوسيع المتطور لساحات السياسة على حساب ساحات الحرب على مستوى المجتمع الوطني والمجتمع الدولي، لتغدو الديموقراطية هي آخر كشوف المسار الإنساني لتحقيق العدالة في كل مالها وما عليها في زمننا الراهن، لكن أهمية هذا الكشف الإنساني تكمن في أنه اكتشاف متحرك مفتوح على لانهائية الكمال الإنساني الذي لن يتحقق ما لم يتحقق الشوق البشري للاتحاد بالمطلق، ومن هنا كان البعد الكوني في الديموقراطية حيث كانت ولا زالت توأما لولادة مبدأ حقوق الإنسان.
ومن هنا كانت الديموقراطية مسألة إشكالية: أي بمقدار ما هي حل فهي مشكلة، بما يعني أنه بمقدار ما تنتج من حلول فهي تنتج الأسئلة مثلها في ذلك مثل العقل العلمي الحديث الذي يؤسس لتاريخ علمي جديد فحواه أن العلم هو تاريخ أخطائه وليس تاريخ انجازاته وتلك هي نواة العقل النقدي الحديث، فكذلك الديموقراطية هي تاريخ أخطائها وليس انجازاتها وذلك هو معنى حداثتها…
إذن تكمن إشكالية الديموقراطية ككل إشكالات مفردات العقل الحديث في كونها دائما يعتورها النقصان، لكونها طريقا لبلوغ هدف الكمال البشري وليست الهدف ذاته، باعتبار أن فلسفة هذا هدف الكمال تتأسس على منطق الحقيقة النسبية التي يجب اكتشافها دائما على طريق الكفاح الإنساني من أجل كسبها دائما من جديد، وذلك لأن مراكمة منجزاتها الكمية ستستدعي دائما كليات نوعية جديدة.
بيد أن النقص في الديموقراطية هو عنصر عضوي في بنيتها التكوينية الصيرورية غير المكتملة، حيث لا يمكن أن تحل مشكلة نقصانها من خارجها وإلا كان المآل الاستبداد، فحلول مشكلات الديموقراطية تكمن في داخل نسقها، أي في مزيد من الديموقراطية على طريق الحرية، فجدلها على طريق تحقيق ذاتها هو جدلها ذاته على طريق إنكار ذاتها المتقادمة…
أو العكس: حيث جدلها على طريق إنكار ذاتها هو طريقها لتحقيق ذاتها بذاتها ولذاتها.
الديموقراطية حتمية نسبية: تتأتى حتميتها من كونها خيارا تاريخانيا على طريق الحلم البشري بتنوع وتعدد الأحلام بالحرية والعدالة…أما نسبيتها فإنها تتأتى من تنوع أشكالها وصيغها الثقافية والسياسية لتحقيق ” الحرية المجسّدة” حسب تعبير ماركس، والتجسّد في الديالكتيك الهيغلي هو التعيّن، والتعيّن هو حضور المطلق في النسبي، حيث تتجسد هذه الحرية في طوبى الشيوعية التي حلم بها ماركس ومئات آلاف الملايين من الحالمين بالعدالة، لكنهم عندما جربوا طريق القسر والإرغام والإكراه فشلوا وذهبت ريحهم، فكان لابد من الديموقراطية طريقا حتى للشيوعية ذاتها إذا كان ثمة من يحلم بطوباها، لأن الناس لا يحبون أن يساقوا سوقا حتى ولو إلى الجنة…!
حلم الخلفاء الراشدين في تحقيق العدالة من خلال تحقيق روح النبوة في استخلاف الإنسان إلهيا على الأرض ظل ينوس أخلاقيا بين النبل الإنساني بين العمرين: (عمر بن الخطاب إلى عمر بن عبد العزيز )، لكن مع ذلك ظلت (الفتنة الكبرى) على حد تسمية طه حسين لها، مستمرة وهي تغرق تاريخ المسلمين بالدماء حتى اليوم، وذلك لأنه تغلب فيها التاريخ السلطاني على التاريخ الراشدي… فكان لابد من “العقد الاجتماعي” البشري (المؤسساتي ) حسب أطروحة طه حسين التي حكمت كتابته لتاريخ (الفتنة الكبرى)، أي لا بد من مأسسة (الرشد والرشاد) بشريا لبلوغ النموذج المثالي لحلم العدالة الإسلامي إلهيا،أي لابد من الديموقراطية…
فالإسلام والعروبة أو الكردية لن تحقق حلمها الإنساني في الحرية والتحرر إلا بالديموقراطية، فلا وحدة عربية، ولا حرية ولا اشتراكية إلا بالديموقراطية، حيث انهيار كل هذه المعاني في حياتنا برهان على ذلك… كما ولا حل لإشكالية وجودنا الوطني والقومي في اصطدامه مع المشروع الصهيوني إلا بالديموقراطية، وإلا فإن برامج (حزب الله وحماس) لن تكون سوى إعادة مقولة القول للخطاب الشعبوي القومي واليساري الإنشائي المتفاصح خلال أكثر من ستة عقود من الردح الإيديولوجي في سوق المزاد الشعاري أو “شعارية المزاد”، على حد تعبير الراحل محمود درويش، هذا السوق المزادي هو ذاته الذي ورثته اليوم (النجادية) بنسختها الإيرانية بل والعربية، أي إعادة إنتاج الهزيمة وإيديولوجيا الهزيمة ما لم تكن الديموقراطية خيارا استراتيجيا، أي ليس خيارا سياسيا فحسب، بل وحضاريا وثقافيا، فكما لا يفلّ الحديد إلا بالحديد، فلا يفلّ الحداثة الديموقراطية الإسرائيلية إلا بالحداثة الديموقراطية العربية، وما عدا ذلك لغو وهذر ومكر وشعوذة كما كان يصف خالد العظم الذي كان رمز (ذروة المشروعية الدستورية السورية) همروجات ( الخطاب الشعبوي اللفظي) عن الوحدة والتحرير والاشتراكية…
من (خالد العظم) الديموقراطي الليبرالي الدستوري إلى (خالد مشعل ) السياسي الإسلاموي (الأسدي)، يمتد مستنقع من جثث الكلمات الكبيرة للعنتريات التي ما قتلت ذبابة، ومع ذلك يصر خطاب (مشعل الإسلاموي)، و(عزمي بشارة) المفكر اليساري، بل واليسار الفلسطيني عموما على نرجسية وطنية فلسطينية ذاتية عديمة المردودية لفلسطين والعرب، عندما تكون على حساب أنقاض حياة أخوتهم العرب في الحرية والكرامة التي لا تقل نقصانا عن نقصانها فلسطينيا، وكأن مشكلتهم مع الحرية استثناء في منطقة الرعب العربية، لكي يجندوا الجميع في سبيل قضيتهم الفلسطينية التي لا نشك بعدالتها، ولو عبر سكوتهم عن الرعب النظامي العربي-بل وتبريره وشرعنته- الذي “يطال الأجنة في الأرحام التي لم تخلق” على حد مديح الشاعر العربي القديم لمهابة ورهبة وعظمة خليفته!؟
بل تبلغ المفارقة ذروتها أن مشعل وأخوانه يرفعون صوت حريتهم من على منابر- وبالتحالف- مع دمشق التي حولتها الطغم المافيوزية إلى عاصمة كوابيس الرعب العربية ضد حقوق الإنسان السوري، بعد الوراثة الرفاقية (البعثية) لدور عاصمة الرعب عن بغداد غبّ سقوط صنمها… يقف بعض الأخوة الفلسطينيين على أنقاض دمشق (العظم) رمز الحرية والثقافة والمدنية والسلوك المتحضر قبل أن يجتاحها الرعاع والعسكر والشعارات الزاعقة بعروبة متآكلة وفلسطين متناثرة تناثر شعاريتهم التي لم تكتشف عروبتها إلا في التعريف الفقهي الولايتي لملالي طهران…
إن الحريات هي مشكلة المنطقة العربية بكاملها وليست مشكلة فلسطين وحدها، ومأساة غزة ليست أكثر عمقا أو جرحا من مأساة سوريا، وآن الأوان للقول الصريح والعلني وبالفم الملآن من غير المعقول أن نتضامن مع حماس غزة إذا لم تتضامن حماس غزة مع شعبها السوري الأسير…ناهيك عن زيارات (مشعل وإخوانه وبشارة ورفاقه) التبجيلية لضريح وثن الطغيان (الأسدي) تعظيما وإجلالا لسفاح سوريا وفلسطين ولبنان…!!!!
لقد آن الأوان لتعريف الاستبداد بالدلالة المعرفية والسياسية وليس بدلالة الهوية، بحيث لا يدان سوى الطغيان الإسرائيلي بينما يسكت بل ويدافع عن الطغيان العربي لأنه (عربي شقيق)، فلم يعد مقبولا من المناضل الفلسطيني هذه (النرجسية الوطنية)، التي لا تلاحظ إلا معاناتها حتى ولو كانت على حساب معاناة الأخ والشقيق، ولم يعد مقبولا إطلاق أصوات الحرية والتحرر الفلسطيني من دمشق، بينما المئات من المثقفين والصحفيين من قادة إعلان دمشق في السجون:(سيدة سوريا الأولى) الدكتورة فداء حوراني، ونائب دمشق نبيل سوريا (رياض سيف ) وشيخ الحقوقيين السوريين (هيثم المالح ) وبراءة سوريا الطفلة (طل الملوحي)، وقد ذكرنا هذه الأسماء كرموز دالة على شرائح ومجموعات تقبع في السجون والمعتقلات، حيث بات المثقف السوري يحسد المثقف الفلسطيني على سقف الحريات التي يعيشها في ظل الاستيطان الإسرائيلي إذا ما قورن بالاستيطان المافيوي المخابراتي في سوريا…
لا يمكن أن تكون حرية الأخ الفلسطيني أهم وأولى أو بديل لمشكلة أخيه المواطن السوري مع الحرية لكي يتضامن مع حرية الشقيق الفلسطيني، بينما هو يسكت عن حرية شقيقه السوري، بل يدعوه إلى مزيد من التنازلات عن حريته وكرامته لطغاته، وذلك كما تدعو حماس الأخوان المسلمين السوريين إلى مزيد من إهانة النفس، بل ودعوة حزب الله لشكر (سوريا الأسد)…
إن الفلسطيني لن يبلغ حريته يوما، ما لم يرتق وعيه بالحرية إلى المستوى الكينوني الإنساني، حيث كما الحرية لا هوية لها، وكذلك الاستبداد لا هوية له، فالبوط (الجزمة) الذي يوضع على العنق الإنساني، إنما تعريفه هو البوط إياه (جزمة)، كما العنق هو العنق، فهوية البوط لا تقلل من تعسفه وقهره وإذلاله، أي ليس مهما نوع هويته إن كان عربيا أم صهيونيا يهوديا أم مسلما… والعنق البشري هو العنق الإنساني عربيا كان أم كرديا أم فلسطينيا أم مسلما أم مسيحيا…
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري
عوائق الديموقراطية في العالم العربي: سوريا نموذجاً (1)نبيل السوري أحسنت يجب على كل من يزاود قومجياً وإسلاموياً أن يقرأ هذا المقال تعبنا من مشعل وبشارة أن يتنطحوا للعنجية والعهر الإسرائيلي من دمشق، ويخرسون عن عذابات المواطن والمثقف السوري الذي يعامله نظامه الغاشم أردأ ألف مرة مما يقوم به المحتل الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني وليقم هؤلاء بإجراء مسح شامل عن عدد الشهداء العرب كلهم على يد إسرائيل المجرمة وكذلك الشهداء السوريين والفلسطينيين واللبنانيين الذين قتلهم نظام الخيانة الأسدي، ويجب أن يُذهلوا من النتيجة المعروفة للجميع لكن أن يديروا وجههم للطرف الآخر فهم مشاركون ضد شعبنا السوري الواقع تحت احتلال أشر وأسوأ… قراءة المزيد ..