عندما صدر كتاب الأستاذ عبد الحميد درويش (أضواء على الحركة الكردية في سوريا) عام 2000 أثار اهتمامنا وحرضنا على الكتابة ليس تقريظا للأستاذ عبد الحميد وهو يستحق الثناء والتقريظ في كل الأحوال، بل ما أثارنا هذا الروح النقدي العقلاني الغريب –عموما –عن الكتابة السياسية والحزبية سوريا :عربيا وكرديا، وذلك رغم اعترافي حينها بأن الكتابة حول الشأن الكردي مدعاة للمجازفة، وكأن المرء يسير على حد السيف، لأن الكرد لا يزالون يحيطون شأنهم القومي بغلالات لاهوتية ممنوعة اللمس أرضيا، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من أية مقاربة حوارية لهذا الشأن وكأنها اقتراب من تخوم المقدس الديني وانتهاك لمطلقيّته الصمدية.
وقد صدق تقديرنا وحدسنا هذا عندما قاربنا مجتهدين صورة الكرد بوصفهم شعوبا جبلية، تمنحهم ظروفهم الطبيعية والمعيشية، بنية جسدية وسيكولوجية صلبة، قوية، مقاتلة، ومن ثم فإن تماسهم المباشر مع طبيعة جبلية قاسية حادة حالت –من حسن الحظ- دون الخيال أن يحلق بعيدا وراء الغيبيات، ومجاهل الماوراء، بل إن تموضعهم هذا يسمح لنا أن نستنتج أن ثمة مواجهة حسية مباشرة ودائمة مع صفحة الوجود، دون البحث عن الوسيط الميتافيزيقي، كما في الحضارات الزراعية السهلية والبحرية، حيث طراوة سيكولوجيا الحضارة الطينية تجعل الذات البشرية مرتعا خصبا لأسئلة الغيب ومتاهاته ومجاهيله.
وعندما قدمنا هذه المقاربة التأويلية في تقديمنا لمقالنا عن كتاب الأستاذ عبد الحميد تساءلنا:هل نستطيع – تأسيسا على هذه القراءة الوصفية – القول:إن البنية المعرفية اللاشعورية الكردية تتأسس على علاقة حسية مباشرة مع الوجود:وجود جبلي يعبر عن خصوصيته الجبلية هذه نزوع عميق للتموضع في المكان أي نوع من التجوهر في الوجود حسب تعبير الشيرازي، على العكس من الحضارات النهرية (ما بين النهرين) حيث الهجرات، الغزوات، الحروب، وكذلك الحضارات البحرية حيث التجارة، والأساطيل، والموانئ، كما هي البيئة الجبلية عكس الحضارة الصحراوية، التي هي حضارة تنقل وانتشار دائم، وبحث عن الماء والكلأ والمرعى كما يقال؟ وعقبنا على ذلك بالتساؤل:وإلا ما معنى هذا الاستقرار والتوحد والانعزال الكردي تاريخيا في عالم الجبال العصية على التنقل والانتقال ومن ثم التفاعل والفعل والانفعال؟
ولذا كان علينا أن نتأول روح العصيان الكردي متسائلين :إن كان مرده إلى هذا التكور على الذات، المتوحد في المكان ومعه، حيث التلاحم والاندماج بعصيان الجغرافيا، إذ أن هذه العلاقة العصيانية هي ثمرة لعلاقة حسية خاصة بين جسدية الكائن وجسدية الطبيعة…! هذه التأملات ربما تفسر سر عدم التعصب الديني عند الكرد، وربما تعلل حلول العصبية نحو المكان والهوية محل التعصب الديني تاريخيا…!
هذه التأملات التي قادتنا إلى بعض الاستخلاصات الأولية التي نشفعها بـ (ربما) تنبا للقطعية في الحكم، هي التي قادتنا إلى القول :إن الكرد لم يخلّفوا تراثا فقهيا او كلاميا، أو دينيا، أو أدبيا وفلسفيا لا في اللغة الكردية، ولا في اللغة العربية التي كانت تمثل الوعاء الحضاري للتعدد الثقافي والاقوامي الاسلامي خلال معظم التاريخ الإسلامي، ولذا فهم لديهم ملالي وطرق للدروشة والتصوف والدعوة الى الانكفاء على الذات الفانية، والانسحاب من هذا العالم القاسي الشرس إلى أحضان التصوف… عنما كتبنا ذلك فإن الدنيا قامت علينا ولم تقعد كما يقال، مستنكرين علينا هذه التأويلات وكأنها تنال من الذات القومية الكردية، فكان علينا أن نكتب لنطمئن الأخوة الأكراد بأنهم من حسن حظهم أن ليس لديهم هذا التراث الفقهي الذي كان كارثة على العقل العربي عندما أحكم سيطرته متغلبا على حضارة العقل والسؤال لصالح سلطان عقل النقل والفتاوى في العالم العربي، والإسلامي استطرادا بطبيعة الحال حتى اليوم.
كان علينا أن نقدم كل هذه التبريرات، بل وأن نعلن تبرعنا –دعابة وتلطيفا- بكل هذا التراث الفقهي الإسلامي العربي إلى أخواننا الكرد المحتجين والمعترضين علينا إن كانوا ينفثون علينا ويحسدونا على هذا التراث الصديء…
طبعا ووجهنا بحملة شديدة من التشكيك والتأثيم رغم تحوطنا في مقالنا عن كتاب الأستاذ عبد الحميد، وذلك باستدراكنا في النص ذاته قائلين: ومع ذلك فالملالي لا يمثلون حضورا فاعلا ومؤثرا وقائدا في حياة الكرد، فالزعامة للجغرافيا، ولمن يملك مساحات أوسع من الجبال والأراضي، ومن يملك القوة لحمايتها والسيطرة عليها وعلى الآخرين، ولعل هذا ما يفسر لنا تميز تاريخ الكرد بأنه تاريخ مجاولة ومصاولة قتالية، تطبعه حياة أشبه بالعسكرية منذ عقود، تاريخ يتناوبه عنفوان “البيشمركه”، واستسلامية الملا الصوفي. فعندما تغرق الجبال بدماء الفرسان المتمردين، تصمت الجبال وتبدأ تسابيح غفران الملا والدعوة الى الزهد، حتى تبدأ من جديد جلبة أصداء الحديد، والعودة من جديد الى القتال، ومن ثم اللوذ بالصمت، عندما تروى الجبال بدماء الفرسان… متسائلين تضامنا وتواددا :أما آن للأكراد ان يخرجوا من هذا النسق الحتمي الذي يشبه اللامقعول بعبثيته التاريخية أو اللاتاريخية… أما آن للفارس الكردي أن يترجل؟
كان هناك ما يشبه الحملة من الأخوة المثقفين الكرد، لكن الوحيد –والذي هو صاحب الشأن في الموضوع- وهو الأستاذ عبد الحميد درويش صاحب الكتاب المناقش موضوع التعليق والحوار، كان متفاعلا ايجابيا مع مناقشتنا لأرائه، فعبر لنا عن امتنانه وتقديره لروح الحوار، حيث سيبدأ بعدها ما يشبه الصداقة، ولو عن بعيد، هي صداقة أعتز بها في كل الأحوال…
إذن لم يستنكر علينا نقدنا النقدي كما فعل غيره نحو حديثنا عن :التموضع الكردي في المكان والانتماء إلى ذات متوحدة في عزلة عصيان الجغرافيا، أدى إلى أن يجعلها أسيرة الانتماء إلى الهوية الأصلية، هذه الهوية في هذه الحالة – في مرحلة ما قبل الوعي القومي البورجوازي المدني – لن تكون سوى هوية أهلية عتيقة تنتسب إلى الجد، ورابطة الدم، كما راحت تنتكس نكوصا الهوية القومية العربية ما ضويا إذ هي تتآكل مفرطة بالمكتسبات المدنية والنهضوية التي كانت قد أنجزتها، هذا التآكل الذي سيتم على يد الاستبداد الريفي العسكري الشعبوي باسم القومية والعروبة.
إن منظومة الوعي التي تتأسس على ترسيمة انتماء (أصلية –أصولية) كهذه، لن تنتج إلا ما يشبه الوعي الغيبي ( الديني) التقليدي الذي كان –بالأصل- لا يلامس الذات القومية الكردية إلا ملامسة خارجية، فكان على الوعي القومي الكردي الوليد كرد على القوموية الشعبوية العربية التقليدية، أن يكتسب خصائص الوعي القومي العربي المضاد الذي كان قد تقشر من محتواه المدني، ليتطابق مع ذات (أقوامية) أهلية أصلية وأصالوية، عضوية، تتأسس على رابطة الدم، وليس وعيا (مواطنويا) يتطابق مع ذات تنتمي إلى امة حديثة، مدنية، تتأسس روابطها على علاقات سوسيولوجية (طبقية – حزبية – نقابية) ولهذا ظلت الأحزاب الكردية –ومثلها العربية-هي حزب العائلة، والعشيرة، والقوم، والمنطقة والجهة، بالتوازي والتناظر مع التآكلات التي كانت تلحق الأحزاب القومية العربية، فالأقوى عموديا –وفق رابطة الدم والنسب (ما قبل الوطنية)، هو الفاعل والمؤثر بل والمسيطر قوميا، بينما الأحزاب كظاهرة حديثة، أي نتاج لزمن الحداثة التي أنجزها الغرب ظلت بمثابتها نويات أحزاب نخبوية …أي أن الأحزاب الحداثية التي تطمح الى تنضيدات سوسيولوجية حديثة مغايرة ومخارجة ومنافية للحيزات العضوانية العصبية العتيقة، ظلت لا تتمتع بأي حضور لافت، وذلك بالتجاور والتطابق بنيويا مع شقيقاتها العربيات المفوتة.
وقد تساءلنا حينها عما الذي يفيدنا من هذه الممهدات النظرية؟
فحددنا ذلك: في أن الوعي القومي الكردي لم ينتقل بعد إلى مرحلة إعادة إنتاج صيرورية للذات والهوية، وذلك لا يتأسس إلا على وعي نقدي حديث، عنوانه الكشف الدائم لا عن “الأمجاد والمآثر القومية” كما فعلت ولا تزال تفعل الحركة القومية العربية التقليدية الشعارية اللفظوية، بل إن الإشكالية المركزية للوعي القومي الحديث في السياق الغربي الحديث، هو ما كان يسميه عمر فاخوري الكشف عن “الرذائل القومية”، وخوض معركة نقدية لا تتوقف عند الصحيح إلا لتكتشف الخطأ، عندها يمكن للشأن الكردي أن يخرج من حيّزه الكردي، ويتحول شأنا عاما إقليميا يعنى به العربي والتركي والفارسي، دون حذر ووجل من جانب المعني بهذا الشأن باتهامه بالتدخل في ما لا يعنيه وانتهاك الشأن الداخلي للآخر، وأنه إذا تفوه برأي مخالف للبداهات الكردية، تشن ضده أشرس الحملات!
فالكرد في معمعان تنويههم بالذات القوموية الظفروية – وفق تعبيرات ياسين الحافظ وهو ينتقد الفكر القومي العربي الظفروي – سرعان ما ينسون وبسهولة تامة وحدة الكيان التاريخي لكردستان الذي لا يفتأون مصادمة للآخرين للبرهنة على وحدة كردستان المنجزة والمتكاملة، كما يتحدث العروبيون عن (الوطن العربي) وكأنه كان كيان دولة واحدة تآمر عليها الإستعمار (سايكس وبيكو) فقسمها، ومع ذلك لا يزالون يقتتلون… وكذك هو أمر أكراد كردستان الدولة الواحدة المنجزة المفترضة، أي التي يفترض أنها هي المبرر الأساسي لدعواهم القومية الصارخة، وذلك عندما لا يرف لهم جفن قومي وهم يجعلون من أنفسهم سندانا لمطارق القوميات الأخرى (فارسية –تركية-عربية) التي يفترض أنها تجزيء كردستان، وذلك من خلال استقوائهم بالأنظمة المختلفة المتضادة في هذا الجزء أو ذاك من أقاليم كردستان بغض النظر عن مصالح أشقائهم الأكراد في الأقاليم الأخرى…!
تلك هي الإشكالية التي تؤطر كتاب الأستاذ عبد الحميد درويش الأمين العام للحزب الديموقراطي التقدمي الكردي في سوري (أضواء على الحركة الكردية في سوريا)، إذ يؤسس لوعي نقدي حواري ديموقرطي داخلي، يفتح الباب واسعا أمام ثقافة الحوار التي تفتح-بدورها- الأبواب واسعة أمام النسبي، إذ يفكك مطلقية الادلوجة العقائدية القوموية المنطوية على وهم اكتمالها المطلق، حيث أن وهم الكمال المطلق يرى في النسبي مساسا بمقدس العصبية والولاءات الأهلية ما قبل الوطنية، وذلك لصالح مديري المقدس السياسي:العشائري والدموي والطائفي، مثلما هو عليه واقع البلدان العربية التي قادتها أنظمة الايديولوجيا القوموية العربية العسكرية الريفية ذات الجذور الرعاعية… حيث تحل رابطة العصبية القبلية، والانكفاء على ذات متوضعة بالمكان، محل رابطة الأمة والمواطنة، وإلا كيف يمكن أن يفهم أن يكون كل قوم في كل اقليم من أقاليم كردستان في صراع مع الآخر، لكون كل واحد مؤيدا ومدعوما من جانب نظام الطرف الآخر، حتى يصل التناقض حد التواطؤ…
إن هذه الإشكالية تؤطر دلالة المغزى الرئيسي لكتاب الأستاذ عبد الحميد، التي تتأتى أهميتها –أيضا- في أن صاحبها هو أحد مؤسسي الحركة السياسية الكردية في سوريا وأحد مؤسسي التحالف الكردي في “إعلان دمشق” للتغيير الديموقرطي…
إن أهم ما في هذا الكتاب ليس المادة المعلوماتية الغزيرة التي يقدمها المؤلف “الأمين العام” فحسب، ولا تلك الصور الحية التي يجيد قلم المؤلف صياغتها الفنية :السردية والتعبيرية، وهو يروي تاريخ علاقته بالحركة الكردية في أقاليم كردستان الثلاثة (العراق – تركيا – إيران) فقط أيضا، بل تلك الرؤية النقدية الرهيفة لتاريخ الحركة ومواقفها على المستويين الداخلي والخارجي، مما يشير إلى نضج في الرؤية والتفكير تتكون في فضاءات الحركة السياسية الكردية في سوريا، فالكتاب لا يسرد انجازات وانتصارات وبطولات لا لصاحبه ولا للحركة السياسية التي كان يقودها، مما يومئ إلى تباشير ولادة العقل النقدي في سوريا الذي يمثل خصائص العقل الحديث لعالمنا منذ الثورة الصناعية، ناهيك عن النزعة الأخلاقية الملازمة للعقل النقدي الحواري إذ تتجلى فيها النزاهة والتواضع والإخلاص مع النفس ومع الآخر.
هذه الرؤية النقدية تتقاطع مع ما ذهبنا إليه من ضرورة نقد قصور الوعي الكردي-طبعا والعربي أيضا- في امتلاك وعي (مواطنوي) –أي غير أقوامي دموي- لمفهوم كينونة الأمة بوصفه وعيا حداثيا، تكون فيه الهوية متطابقة مع ذات الأمة لا مع ذات الملة، مع ذات تاريخانية في طور الصيرورة والتحول، لا مع ذوات ساكنة ثابتة قابعة فوق الزمان والمكان، منتشرة بفراغ مذررومشتت في اشكال كتل سديمية مؤسسة على رابطة الدم للمجتمع الأهلي العمودي التي تتعارض-بدورها- مع رابطة المواطنة الأفقية السوسيولوجية الحديثة، ومجلى أهمية امتلاك هذا الوعي المدني الحديث هو في ذاك الحوار بين الكاتب – الأمين العام درويش – الموفد إلى كردستان إيران للالتقاء بقائد الحزب الديموقراطي الكردستاني في إيران الدكتور( قاسملو) بهدف إيجاد التعاون بين القوى والأحزاب الكردية والكردستانية.
فعندما يعرض المؤلف الأستاذ درويش رأيه كقائد حزب كردي سوري في خيارات النضال المطروحة أمام قائد الحزب الديموقراطي الكردستاني – ايران، بالتأكيد على أن الأجدى أمام الشعب الكردي استبدال النضال المسلح بالنضال السياسي وذلك في بداية الثورة الإيرانية، معددا الأسباب الداعية لهذا الخيار ومنها قول عبد الحميد درويش لقاسملو: “في كردستان العراق ثورة كردية اندلعت منذ تسعة عشر عاما وقادة هذه الثورة أو قسم منها يتعامل مع النظام الإيراني ضد حكم بغداد، وانتم الآن تتعاملون مع النظام العراقي ضد حكم طهران، أفلا يشكل هذا تناقضا بين الثورتين؟… فهم يريدون اسقاط حكام بغداد، في الوقت الذي تقيمون معهم علاقات التعاون، وتريدون اسقاط النظام الايراني ويقيمون هم علاقات التعاون معه!!” – الكتاب (ص 247).
أمام هذا التساؤل لا يتردد الدكتور قاسملو ان يرد بانفعال وتوتر، بأنهم يعلمون ما يفعلون، وان الشعب الكردي برمته معهم، ويطالب المؤلف ان يبلّغ اصدقاءه، (جلال الطالباني وادريس البارزاني) ان يتخلوا عن الكفاح المسلح فلم يبق مع كل منهم اكثر من مئة شخص، وجُرِّدوا من كل تأييد شعبي، وبذلك أصبحوا عالة على الثورة (ص 228).
تلك هي صورة ميكروسكوبية مكثفة تكشف عن الآلية التي تحكم العلاقات التناحرية بين الأطراف الكردية، فقاسملو مرتبط ببغداد التي يقاتل البارزاني ضد نظامها، والبارزاني مرتبط بطهران الى حد الولاء الذي يدفعه لرفع صورة الشاه على جدار غرفة جلوسه الشخصي…(ص 140).
بل يكشف لنا الكتاب عن تعاون وثيق بين المسؤولين الأتراك وقيادة الثورة الكردية في كردستان العراق (ص 131) يبلغ حد التعاون على تصفية سعيد آلجي سكرتير الحزب الديموقراطي الكردستاني في تركيا، على يد شفان المنشق عن الحزب، والملتحق بثورة البارزاني، فعملية التصفية والأمر كذلك، انما قدمت قربانا لإرضاء الأتراك، حيث تمت تصفيته مع اثنين من رفاقه عام 1971 في كردستان شمال العراق على يد شفان الملتحق بالبارزاني بذريعة انه كان يمينيا، لكن الكاتب يؤكد ان الاستخبارات التركية (الميت) كانت وراء اغتيال سعيد آلجي، وكانت تتعقبه منذ زمن بعيد، وتتحين الفرص السانحة للتخلص منه، وهكذا كان… حيث تمت تصفيته بأيدي خونة من ابناء شعبه… (ص199)، الامر الذي من شأنه ان يرتب بين الحزب الديموقراطي الكردستاني التقدمي (سوريا) والبارزاني قطيعة دامت سبعة عشر عاما، بسبب بيان الاكراد السوريين المندد بالعملية، حتى تمت المصالحة عام 1988 مع مسعود البارزاني في دمشق. (ص200).
أمام هذه المواجهة النقدية مع الذات التي يقوم بها احد رواد الحركة السياسية الكردية، الأستاذ عبد الحميد درويش، هل ستدخل الحركة الكردية مرحلة جديدة من الشفافية والقدرة على التعايش، والتعدد وقبول الآخر، عبر الارتهان لشرعية الفعل في الداخل، وليس الارتهان لمشيئات خارجية طالما أساءت إلى القضية، وأدت إلى دفع إتاوات جسام لحساب الآخر، ومن الدم الزكي لهذا الشعب الشجاع؟!
هل آن الأوان أمام كل هذه الإتاوات التي قدمها هذا الشعب الباسل، كي يغدو رافعة ركنية من روافع العمل الديموقراطي في كل الدول التي يعيش فيها الأكراد (تركيا، ايران، العراق، سوريا)، كما تكشف عنه الممارسة النقدية للتجربة الذاتية كما عبر عنها الأستاذ عبد الحميد درويش، بل وكما راح هذا الوعي ينبثق لدى فصيل يساري راديكالي كبير في كردستنان تركيا، حيث يدعو عبدالله اوج الان في مرافعاته في سجنه الشعب الكردي إلى أن يكون نواة الحراك الديموقراطي في كل دول الشرق الأوسط التي تتوزع فيه كردستان ويتواجد فيها الكرد؟
هل يمكن للأكراد السوريين بعد هذه المراجعة النقدية التي قدمها الأمين العام عبد الحميد درويش أن يتحولوا إلى قوة فعلية من قوى المجتمع المدني في سوريا، من أجل مستقبل سوريا الديموقراطية، وذلك بالتوازي مع تبرعم وعي ديموقراطي لدى زعيم PKK عبد الله أوج الان الذي أنجز في سجنه أهم مراجعة نقدية للممارسات الشمولية لأحزاب الشرق الأوسط فيما يشبه النقد الذاتي النادر لدى شعوب الشرق الأوسط الشديدة الإعجاب بذواتها القومية التاريخية، وهكذا يكون كتاب الأستاذ عبد الحميد درويش علامة هامة على طريق الوعي الديموقرطي السوري:الكردي والعربي للنقد الذاتي على طريق تقويض المنظومة الشمولية التي شكلت تاريخ عقل الحراك السوري خلال النصف قرن الأخير؟
mr_glory@hotmail.com
* كاتب سوري – باريس