الثورة السورية غنية وشاقة. حتى الآن سجلت وقائع وفظائع، فجّرت طاقات نضالية وتنظيمية غير محدودة، حرّضت على التفكير من زوايا جديدة، وقلبت معادلات قديمة الى غير رجعة. ولعلها الثورة الأكثر ثورية من بين الثورات العربية السابقة عليها.
ولكنها، بخلاف هذه الأخيرة، تفتقر الى الصور؛ وخصوصا صور الوجوه التي تخوضها وتقودها وتغنيها وتخترع أشكال الاستمرار فيها. والصور التي التقطتها العدسات القليلة موزّعة على أشخاص بعينهم:
صور الشهداء، أولا. ما ندركه عن العدد الهائل من الشهداء لا يرقى الى ندرة الصور عنهم. صورة وحيدة جالت على العالَمين الحقيقي والافتراضي، هي صورة حمزة الخطيب، الطفل الذي عذّب وشوه والقي جثة هامدة أمام ذويه. صورته وهو في كامل مراهقته وصحته تحولت الى أيقونة. لم تعد صورة.
الاطفال الباقون، الرجال والنساء الشهداء الباقون، لا نعرف وجوههم. صورة حمزة الخطيب لها الحظ الأوفر من الذيوع، وقد أزاحت صورة المدوِّنة الشابة المعتقلة طلّ الملوحي التي سادت في اوائل ايام الثورة، وربما في أسابيعها.
صور اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا: الضيفة التركية تفرض على الصحافيين قيودا، ولا تسمح بتغطية الا ما يفيد صورة تركيا نفسها. اما الضيفة اللبنانية، فملتبسة ومعقّدة، ويفضّل اللاجئون السوريون عدم الاقتراب من توازناتها الدقيقة والمتقلبة. لذلك، تتكرر صور اللاجئين في البلدين ولا تتجدد. والعدسة، الآخذة بالتعليمات أو التوازنات، لا تلتقط في غالب الاحيان الا صور اللاجئين جماعةً.
صور فيديو الجنود المتمردين وهم يعلنون رفضهم اطلاق النار على أبناء جلدتهم، ويرفعون الى الشاشة، بطريقة شبه اوتوماتيكية، بطاقات انتسابهم للجيش. على الرغم من تمرّد اصحابها، فان هذه الصور منمّطة، ولا تلبّي الطلب على صور أخرى.
صور،مرئية أيضا، لمعارضين للنظام، ولكن من “الخارج”، كما درَجنا على التعبير. هؤلاء وجوههم واضحة، وحضور صورتهم قوي. ولكنهم في المنفى… وفي أكثرية وجوههم حرقة وحسرة ولوعة ابتعاد قصري عن الوطن. مع انهم يتمتعون بدرجة عالية من حرية التعبير، ويقولون ما لا يستطيع قوله من هم في “الداخل” من دون التعرّض للموت الحتمي.
صور مرئية لمؤيدي النظام، من صحافيين وأساتذة جامعات و”محلّلين” أو نواب برلمان من “المستقلين”. صورهم المرئية تزدهر الآن. وجوههم المرتاحة الى “شرعيتها”، المتبجّحة بعافيتها، المطمئنة الى أمنها، الزائغة بنظرها… تفيض انتشارا على الشاشات. وعلى رأس هؤلاء جمعيهم “المسؤولون الكبار” وعلامات النكران تضيّق وجوههم، وتقلص من عضلاتها، التي لم تعد ترتاح لغير التجهّم.
اما صور الداخل، وجوه المنتفضين، الصانعين الحقيقيين للحدث السوري، فهي الأقل تعرّضا للنظر. الطاغي على المشهد المرئي السوري هي التظاهرات الشعبية التي يرسلها لنا أبطال يرتكبون بعين النظام أفظع الفظائع. لذا، فهذه الصور ترينا ظهور السوريين وهم يهرعون في تظاهراتهم الخطيرة، أو يلقون الأناشيد الثورية في ظلام الليل. واذا وقعنا بلمحة بصر على وجوه، نجدها، الى فوريتها وآنيتها، ملثمة أومحجبة او مقنّعة… بالكاد نلتقط ملامحها… الأيادي التي صوّرت الشرائط مرتجفة، غير محترفة، ومختبئة ممن سوف ينقض عليها لو كُشفت.
احيانا نقع في هذه الاشرطة على وجوه أمهات ثكالى، ينتحبن ويكبّرن… ولكن ولا وجه من تلك الوجوه بقي في مخيلتنا. مصوّر الفيديو، المفجوع بدوره، لا يبدو مسيطرا على ألمه.
أيضا، من “الداخل” تأتينا صورة مثبة واحدة، مثل الصور الشمسية الخاصة بجواز السفر أو بطاقة الهوية، هي صور المثقفين المعارضين للنظام. فيما لا نعرف وجها لشاهد عيان أو عضو من أعضاء لجان التنسيق الشعبية، قادة الثورة الميدانيين.
وكأن الآية انقلبت: كلما اقتربنا من أصحاب المبادرة بإطلاق حمم الثورة، صانعي الحدث الفعليين، غابت وجوههم. فيما وجوه الذين فقدوا المبادرة والسيطرة، وفي طريقهم الى فقدان المزيد، هي الوجوه المتدَاولة؛ أو قلْ، ان أبواقها هي التي حفظنا وجوهها…
كيف نفسّر هذه المعادلة الجديدة؟ كيف نفسر غياب وجوه أبطال المعارضة الثورية؟
انها حرب النظام السوري على الصورة. فتصوير فعاليات المعارضة وتظاهراتها، قبل وجوهها، أصبحت عند هذا النظام الجريمة الأقصى بحق “الأمن القومي”. المصورون والذين ينقلون الصور، هم بمثابة مجرمون يقتلون من دون “الشكليات” اللازمة من اعتقال وتحقيق وتعذيب.
طبعا، هذه الملاحقات سبقها الإطباق الاعلامي التام على الثورة. ممنوع دخول الصحافيين الى سوريا. ومن يدخلون، خلسة، بصفة مهنية اخرى، لا يستطيعون التصوير، ولا التسجيل على دفاترهم. ما عليهم ان يفعلوه هو التذكّر، مجرّد تذكّر ما شاهدوه وسمعوه وخبروه…
اما ما يجيز النظام تصويره فهو الزيارات المبرْمجة الى أماكن حوادث مفبْركة، تظاهرات التأييد له، ومحاضرات “المسؤولين” أو مؤتمراتهم الصحافية… ونفس الوجوه الكالحة المنتصرة على شعبها؛ حتى اللقاء التشاوري في فندق “سميراميس” الذي جمع وجوها معارضة، لم تركز العدسة الا على وجوه فنية نعرفها من مسلسلات الدراما. لا وجوه جديدة حية.
استراتيجية النظام في مسألة الصور واضحة. وليس معروفا بالضبط ما هي التصنيفات التي يضعها بين الخطير منها، وبين الأقل خطرا. لكن من الواضح، ان اكثر ما استطاعت هذه الاستراتيجية النيل منه هو الوجوه الخاصة بالافراد الذين يقودون الثورة- الحدث، والذين يشاركون فيها، والذين يفجعون من أهوال ردود النظام عليها.
هذا مع ان وجوه هؤلاء الأفراد ممتلئة بالمعاني، تفيض بالمعاني. وهذا ليس شعرا. قابلتُ الاسبوع الفائت واحدا منهم. كان متوهجا، بريق عينيه يشعّ من حوله روحا وثّابة. هو السبعيني بدا أربعينيا. هل كل الوجوه السورية الثائرة مثل وجهك؟ سألته. طبعا، نعم اجاب. ما السرّ؟ عدتُ وسألته: الأمل يا عزيزتي. صار عندنا أمل، أجاب.
أعرف ان الثوريين لا يريدون هم أيضا الكشف عن وجوههم، ولا المبالغة في الظهور الآن، توخيا للسلامة. وهذه معضلة حقيقية، ان تلتقي رغبة النظام الجامحة بالغاء أي شهود على جرائمه، مع حاجة الافراد المناضلين الى حجب وجوههم.
مع ذلك، فالسوريون محظوظون… صار عندهم أمل. ووجه صاحب الأمل لا تخطئه عين. ومن لديه الأمل لا يعوزه الابتكار، ولو بعد حين…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
نوافذ “المستقبل”