كنتُ، قبل ما يزيد على ثلاثين عاماً، شاهداً على الحادثة التالية في ساحة المرجة في دمشق: يمشي اثنان من أفراد سرايا الدفاع على مهل، سرايا الدفاع ميليشيا شكّلها رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري، لحماية النظام، وكان اسمها يثير الرعب في تلك الأيام. المرجة ساحة رئيسة في دمشق. هنا، أعدم جمال باشا معارضي السلطنة العثمانية، وهنا أيضاً ألقى الفرنسيون جثث أبطال الثورة السورية الكبرى بعد إعدامهم.
لم تكن المرجة مجرّد ساحة رئيسة. المرجة ساحة للذكرى، أيضاً. وقد كانا هناك، أراهما الآن، مثلما رأيتهما قبل ثلاثة عقود، يرتديان ملابس عسكرية مرّقطة، ويمشيان الهوينا، مشية الواثق والأرعن معاً.
فجأة، اصطدم أحدهما، دون قصد، بطاولة صغيرة وضع عليها أحد الباعة ما لا يحصى من الأمشاط، والدبابيس، والأشياء الأخرى التي يبيعها الفقراء للفقراء. صاح البائع الفقير بطريقة لا إرادية، حتى قبل أن يرفع رأسه ليرى ذلك الذي أطاح بمقتنياته ومعروضاته الكثيرة، التي لا تساوي شيئاً تقريباً.
عندئذ التفت جندي سرايا الدفاع، الذي لم يلتفت في البداية ليرى ما حدث، ونظر إلى البائع الفقير، الذي كان رجلاً في أواسط العمر، رث الهيئة والثياب، والذي تملكه الذعر على الفور، عندما التقت العين بالعين، وأدرك حقيقة الورطة التي أوقعته صرخته العفوية فيها.
عاد جندي سرايا الدفاع خطوات قليلة إلى الوراء، وركل ما تبقى على الطاولة بقدمه، قبل أن يلتحق بزميله الذي راقب المشهد بلا اهتمام، بينما أصيب البائع الفقير بخرس مفاجئ. أما نحن المارّة فتظاهرنا بعدم المبالاة. لم نر شيئاً، ولم نسمع.
ليس ثمة من إهانة أكبر وأبلغ من تلك التي لا تستطيع الرد عليها. في ظل النظام الشمولي تصبح الإهانة وجبة يومية، حتى لو لم تكن موجهة ضد شخص بعينه. الكذب في نشرة الأخبار اليومية في التلفزيون إهانة. التردد قبل التعبير عن رأي ما إهانة. مديح ما لا نطيق إهانة. الصمت على إهانة الآخرين إهانة. الإحساس المُطلق بالعجز إزاء نظام كلي القدرة والجبروت إهانة.
لا يمكن حصر الإهانات اليومية، التي تستهدف كينونة وذكاء وكرامة الإنسان، وتتجلى في ما لا يحصى من الحالات، والمفارقات، والمصادفات، وكل ما يتصل بالحياة اليومية لبني البشر.
لذلك، يمكن العثور على تفسير مباشر للثورة السورية في الشعار الذي أطلقه المتظاهرون منذ اليوم الأوّل: “الشعب السوري ما بينهان”. وقد أهين الشعب السوري طويلاً وكثيراً.
وفي هذه الأيام يحق للسوريين والسوريات المقارنة بين الجلسة الطارئة لمجلس الشعب السوري، التي استغرقت ربع ساعة لتعديل الدستور قبل عشر سنوات، وتمكين الرئيس الحالي بشّار الأسد من الجلوس على مقعد أبيه رئيساً للجمهورية، وبين وعود الإصلاح العاجلة التي يطالب بها المتظاهرون، والتي يزعم النظام أن تحقيقها يحتاج إلى دراسة ولجان وحوار ومراجعات قانونية ودستورية.
لماذا عُدّل الدستور في ربع ساعة، بينما تحتاج الإصلاحات المطلوبة إلى سنوات؟ في سؤال كهذا يتجلى أحد المعاني المحتملة للإهانة.
لذلك، وفي ظل ما يجري في سوريا هذه الأيام، لا نملك سوى الوقوف باحترام وخشوع وإعجاب أمام بطولة السوريين والسوريات، الذين نزلوا إلى الشوارع منذ أربعة أشهر أولاً، لأن النـزول إلى الشارع لتحدى النظام في بلد كسوريا بطولة. وثانياً، لأن الصمود في الشارع لمدة أربعة أشهر في مجابهة نظام كهذا بطولة. وثالثاً، لأن القبول بالثمن المعلوم من الدم والدموع لتحدي النظام والنـزول إلى الشارع بطولة.
لم يحتل المتظاهرون ساحة المرجة بعد، لكن هذا سيحدث بطريقة أو أخرى في قادم الأيام، لأن الشعب في سوريا سينتصر على النظام في معركة رد الاعتبار، واسترداد حقوق المواطنة. أما كيف يحدث ذلك ومتى فسؤال مفتوح. الأكيد أن النظام في تراجع، وأن الثورة الشعبية في ازدياد.
تبقى مسألة أخيرة تتعلّق بما أثاره أدونيس من ردود فعل، بعدما أبدى تحفظات على هوية الثورة في سوريا، في رسالة وجهها إلى الرئيس السوري مطالباً إياه بالإصلاح. لا يمكن لأحد، بالتأكيد، أن يلوم أحداً على إبداء تحفظات إزاء الهوية الأيديولوجية لهذا الحدث الاجتماعي أو ذاك. ومع ذلك، هذه مسألة فرعية.
المهم تشخيص ما يحدث في سوريا، وما حدث ويحدث في بلدان عربية أخرى. نحن إزاء ثورات شعبية حقيقية، بصرف النظر عن تمركزات مستمدة من خصوصية التركيب الاجتماعي في هذا البلد العربي أو ذاك. والمهم، أيضاً، تشخيص هذه الثورات باعتبارها تسعى إلى عقد اجتماعي جديد. بالمناسبة لم يكن العقد الاجتماعي الموضوع الرئيس على جدول أعمال الانقلابيين العرب على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين.
والمهم، ثالثا، إدراك حقيقة أن الإسلام السياسي جزء من معسكر الخاسرين على المدى المتوسط والطويل. فحتى وإن تمكن من تحقيق تقدّم في العملية الانتخابية هنا أو هناك، إلا أن الموجة الديمقراطية الساعية إلى عقد اجتماعي جديد ستنتصر في نهاية المطاف. الإسلام السياسي لا يملك برنامجاً ديمقراطياً.
لذا، تصدر تحفظات أدونيس عن إخفاق في إدراك حقيقة الدلالة التاريخية للثورات العربية، أما رهانه على النظام السوري ليتولى مسألة الإصلاح، فينتمي إلى إخفاق مشابه في فهم طبيعة النظام المعني. والمسألة الأهم: في لحظة الدم، يملك المثقف رفاهية الشك، لكنه لا يملك رفاهية غض الطرف. الشعب السوري يرفض الإهانة، هذا كل ما في الأمر.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
khaderhas1@hotmail.com