بينما العالم منشغل بـ «داعش»، وبالمستوى المشهدي غير المسبوق الذي بلغته جريمته، أصدرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» تقريراً عن ممارسات الميليشيات الموالية لإيران في العراق، مثل «عصائب أهل الحق» و»كتيبة بدر» ومجموعات «أبو فضل العباس»، وكشف التقرير الموثق بشهادات ضحايا ومسؤولين عراقيين حكوميين وشهود، بالإضافة إلى أشرطة فيديو ومعاينات لجثث ومقابر جماعية، أننا حيال «داعش» موازٍ.
في التقرير، وردت معلومات موثقة عن عمليات إحراق مساجين وإعدام فتية والتمثيل بجثث. وأرقام الضحايا في منطقة معينة مئات، يبلغ تكرارها في المناطق آلافاً. أما المناطق التي شهدت هذه الانتهاكات، فورد في تقرير المنظمة الدولية عنها ما حرفيته: «وثقت هيومن رايتس ووتش خمس مذابح لسجناء في الموصل وتلعفر وبعقوبة وجمرخي وراوة. وفي كل هجمة، كانت أقوال الشهود تشير إلى قيام جنود من الجيش أو الشرطة العراقيين أو من ميليشيات شيعية موالية للحكومة، بإعدام السجناء عبر إطلاق الرصاص، وفي حالة واحدة قام القتلة بإشعال النار بعشرات من السجناء، وفي حالتين ألقوا قنابل يدوية داخل الزنازين».
ليست «هيومن رايتس ووتش» وحدها من وثّق هذه الجرائم. «نيويورك تايمز» أيضاً نشرت تحقيقاً عن هذه الممارسات كانت سبقت فيه «هيومن رايتس ووتش»، وكذلك فعلت شبكة «سي أن أن» الإخبارية.
والحال أن جرائم الميليشيات الموالية لإيران، سبق بعضها سقوط الموصل بيد «داعش»، وأعقب بعضها هذا الزلزال. ولهذا التعاقب الزمني وظيفة في تفسير أشكال العنف العراقي المتبادل. فمسؤولية إيران عن ولادة «داعش»، لا تقل عن مسؤولية حزب البعث، ولا عن «السلفية الجهادية» التي غزت وجدان «أهل السنة» منذ عقد ونيف. لكن ما يُثير الحيرة فعلاً، أن ما وثّقه العالم في السنتين المنصرمتين، سواء في العراق أو في سورية، هو جرائم «داعش»، في حين لم تُثمر عمليات رصد الجرائم الموازية، إنتاج رأي عام يشعر بأن هذه الجرائم بلغت مستويات تقتضي التبصّر فيها، أو التصدّي لها.
وهذا علماً بوجود فارق بين جريمة «داعش» وجريمة الميليشيات العراقية الموالية لإيران. ذاك أن الأول أفقه الجريمة فقط، أي أن حدود الجريمة المرتكبة هي الجريمة نفسها، وهي صورته ووقع الصورة، وهذا ليس فعلاً سياسياً، وإن كان سياسياً فوظيفته إقفال الأفق أمام السياسة. أما الميليشيات الموالية لإيران، فللجريمة التي ترتكبها وظيفة سياسية موازية، وهي إحداث تغيير ديموغرافي يتم عبره رسم خريطة مختلفة للعراق. فإرسال ميليشيا «الحشد الشعبي» إلى محافظة ديالى، أحدث عملية نزوح كبرى للعراقيين السنّة في هذه المحافظة. وهذا نوع من الترانسفير الذي يتيح فتح الطريق من الحدود الإيرانية إلى العاصمة بغداد من دون عوائق «سنية». والترانسفير ذاك يلبي أيضاً وظيفة ثانية، فيؤمّن طريق قوافل الدعم الإيراني إلى النظام في سورية.
في محيط بغداد، تجري عمليات مشابهة، ذاك أن بغداد محاصرة بالسكن السني من جهاتها كافة، واليوم تجري محاولات لتغيير هذا الواقع عبر الميليشيات نفسها.
تتولى طهران هذه المهمة في موازاة مفاوضتها الولايات المتحدة حول ملفها النووي، وهي تُعيد رسم الخرائط الديموغرافية في العراق وسورية، مستعينة بغض نظر غربي عن ممارساتها في دولتي البعث المتداعيتين. واللعب الدموي على حدود البعثين وتوظيف عنفهما في هذه المهمة، يجريان وفق منطق تنازل طفيف في الملف النووي مقابل انتزاع اعتراف بالنفوذ، لا بل بضرورته في أحيان كثيرة.
هنا يكمن الفارق بين الجريمتين. أي في «سياسية» الجريمة الإيرانية، وفي عدمية جريمة «داعش». وبما أن «داعش» سيصطدم حكماً بجريمته، من دون أن يعني هذا التوقع اعتقاداً بقرب هزيمته، فإن ما سينجم عن إمعان إيران في تنفيذ المهمة لا يقل فداحة، لا بل ربما زاد، إذ إنه مؤسسٌ على تصوّر للواقع وعلى طموح بإحداث تغييرات فيه تراها طهران ممكنة.
ما جرى في مدينة حمص السورية، مثّل تجربة ناجحة نسبياً لطهران في هذا المجال. فقد نجح النظام في سورية في إزاحة كتلة بشرية غير موالية من طريقه من دمشق إلى الساحل السوري، وهذا تغيير مهم بالنسبة الى مستقبله. جرى ذلك أيضاً بينما كان «داعش» يطل برأسه على مناطق الأقليات في الساحل وفي أرياف اللاذقية. وبينما كانت «دولة الخلافة» تصور جريمتها وتُذهل العالم بفداحتها، كان النظام يرتكب بصمت جريمته الجماعية في حمص.
وفق هذا المنطق تعمل إيران في العراق، وهي تتمتع هناك بهامش تحرك أوسع. ذاك أنها تتولى بالدم تغييراً ديموغرافياً على وقع انفتاح دولي غير مسبوق على مفاوضتها. وهنا علينا أن نستحضر عبارة مسعود بارزاني الدالة، وهي «أن المنطقة يُعاد رسم الحدود فيها بالدماء».
لكن هل يكفي ذلك غطاءً دولياً لإحداث تغيير بهذا الحجم؟ وهل يكفي «جدار شيعي» لتأسيس نفوذ في منطقة سنية في غالبيتها؟ علينا أن نلاحظ هنا أن طهران عجزت عن إيجاد شريك سني واحد لمشروعها، ولا يبدو أنها راغبة في ذلك، إذ إن شحن خطابها بمقدار كبير من الأيديولوجيا لا يؤشّر إلى أنها تبحث عن شريك من خارج هذه الأيديولوجيا! وأن يقول قاسم سليماني «لقد نجحنا في تصدير ثورتنا إلى لبنان وسورية والعراق واليمن»، فإن ذلك يعني أن الرجل لا يرغب في أحد من خارج أيديولوجياه. وهذه هي اللحظة الداعشية في الخطاب الإيراني. هي انعدام لـ»السياسة» واستحضار للأيديولوجيا. وما يمكن أن يسكت عنه المجتمع الدولي من ارتكابات، سينفجر في وجه الجمهورية الإسلامية على نحو ما انفجرت الموصل ومدن غرب العراق وشماله.
على أن تناسل الكوارث وتعاقبها، لن يكونا درساً مجانياً للعالم الذي يتفرج على حفلة الجنون هذه، فكل دورة عنف جديدة ستتولى إعادتنا سنوات إلى الوراء، في الوقت الذي يجري فيه دمجنا في العالم على نحو غير مسبوق، وهذا ما سيعني أن العالم أيضاً سيكون عرضة لارتدادنا إلى عصور انصرمت.
*نقلاً عن “الحياة”